ثمة معادلة عليك استيعابها فيما يخص السياسة العامة التي تُحرك العالم وتؤثر في دوله منفردة، وتترك آثارها على المجتمعات وثقافاتها ومساحات تفكيرها والسينما التي تنتجها. الحقيقة تقول إنه رغم كل شيء، مهما ضيقت الدول على فنونها، ومهما تجاهل الفنانون واقعهم والتهديدات العالمية لمساحات مجازية أوسع، تظل القضايا السياسية الكوكبية مظلة واسعة تحتوي الجميع برغبتهم أو دونها، تفرض عليهم قضايا بعينها. وبشكلٍ عام، لن تقابل عددًا من الأفلام العالمية العالمية التي توحدت حول عرض فكرة بمختلف طرقها قدر ما ستقابل الأفلام التي تحدثت عن خطورة تجاهل قضايا البيئة. وهو تحذير منطقي تحركه سياسية حادة، نابعة من مهددات كوكبية خطيرة، سبقته وشكّلت سياقه التاريخي والاجتماعي، قدر ما أعطته مظلة الحماية.
رحل دونالد ترامب الذي -إلى جانب عدد من حماقاته- كان يعلن احتقاره لمن أسماهم المصابين برهاب البيئة. وقد أعلن انسحاب بلاده في 2020 من اتفاقية باريس للمناخ. بينما حرص تبعه تبعه جو بادين على بدء أولى خطاباته الرئاسية بالحديث عن مساوئ الفحم والغاز الطبيعي بحسم فاجأ الجميع.
لا تنظر إلى السماء.. الصدمة علاج التغافل
في الأسبوع الأخير من 2021، أطلقت نتفليكس أقوى أفلامها إنتاجًا، بميزانية 100 مليون دولار، تعاون فيه عدد من أكبر نجوم هوليوود. كانت روشتة “لا تنظر إلى السماء” تقوم على الصدمة علاجًا لتغافل العالم عن قضايا المناخ.
يقول المخرج آدم مكاي -في مقابلة سبقت طرح الفيلم بأيام- إنه “أكثر الأفلام التي صنعها قربًا لقلبه”. وربما خلال الحديث عنه ومن خلاله، نتفهم سياق مقولة بتلك الأهمية التي تتجاوز الفيلم وصانعه إلى القضية العالمية التي باتت هم السينما الأكبر للعام الجديد 2022.
تحوّل ملحوظ طرأ على نظرة المذهل آدم مكاي، الماركسي الأشهر في هوليوود، بمحورية نظرته حول فساد الرأسمالية ومركزية العمل التي كانت تسيطر عليه، في سينما شغلت جمهور واسع وأمتعته؛ سواء في قصة ديك تشيني في فيلم vice. أو في فيلم “the big short” في عام 2006-2007 عندما راهنت مجموعة من المستثمرين ضد سوق الرهن العقاري في الولايات المتحدة. اكتشفوا في بحثهم مدى خلل السوق وفساده. أو حتى عندما صنع الكوميديا في فيلم “الأخوة غير الأشقاء” وأوجد في قلبها فلسفة مبطنة عن هؤلاء الأخوة الذين لم ينصلح حالهم سوى بالعمل، إلى وضع فكرته الأثيرة هنا داخل فيلم يحكي عن عبثية المجتمع الواسع وفداحة تجاهل العلم التي ستصبح نهايتها نهاية العالم دون سخرية.
قضايا البيئة في ضيافة المهرجانات العالمية
في مهرجان برلين -أحد أعرق المهرجانات العالمية شهرة، والذي انطلق به العام السينمائي الحالي، بدأ التحذير الأكبر من التهديد البيئي داخل قسم خاص لأفلام كان أفضلها في رأيي Anthropocene: The Human Epoch الذي قالت مخرجته بعد عرضه: بلغنا مرحلة مفصلية في تاريخ كوكبنا. فالبشر هم الذين يؤثّرون على الأرض وتركيبتها أكثر من كلّ القوى الطبيعية الأخرى مجتمعة. ذلك إلى جانبه فيلم “أرض” الذي تهكم مخرجه على متجاهلي البيئة، أمثال دونالد ترامب.
وعلى الدرب نفسه سار مهرجان كان برسائل محورية حول قضايا البيئة دون غيرها. ترك المهرجان مساحة عرض لأفلام مثل “شياطين خفية” و”بحثًا عن فهد الثلوج”، و”السير على الماء” وأكثرهم تفضيلاً لي فيلم “حيوان” للفرنسي سيريل ديون. هذا لأنه يشرك الأجيال الجديدة من المراهقين في إطار البحث عن فهم ما يحدث على الكوكب من تغيرات أدت إلى تدمير التنوع البيئي واختفاء آلاف الأنواع من أجناس الحيوانات من على وجه الكوكب. في هذا الفيلم لا يبحث فقط الجيل الجديد عن فهم للظاهرة. بل طرح إجابات عبر هذا الفهم لحلول حقيقية وملموسة تؤدي إلى تغيير الأوضاع للأفضل والحفاظ على كوكب الأرض.
أما عربيًا، فقد استحدث مهرجان الجونة السينمائية جائزة نجمة الجونة الخضراء. ويحصل عليها أحد الأفلام التي تضع في قلبها قضايا البيئة ومشكلاتها. وقد فاز بها الفيلم اللبناني “كوستا برافا” الذي أفردنا له مقال للحديث عنه.
إلهام قضايا البيئة بين التسجيلي والروائي
لم تعد أزمة الحديث عن قضايا البيئة تنحصر على عالم الأفلام التسجيلية “المملة”. إذ تطورت مساحتها داخل أفلام تجارية أكبر بدأت منذ حوالي ست سنوات. وربما تجني ثمارها في 2022 الذي أعلن بوضوح مركزية قضايا البيئة.
في الفيلم التسجيلي المذهل Catching the Sun عن قيمة الطاقة الشمسية والاقتصاد الأخضر لا يوجد عجز في الطاقة الشمسية. ولكن حتى 2015، كان سكان الولايات المتحدة الذي يمثلون أقل من 5% من سكان العالم، يستخدمون 27% من تلك الطاقة. فيما يأتي أكثر من نصف الكهرباء المولدة من الفحم. تحتاج محطة توليد الكهرباء من الفحم مائة شاحنة محملة بالفحم كي تعمل ليوم واحد. بينما ساعة واحدة من ضوء الشمس، تكفي نظريًا لإمداد كل شخص على كوكب الأرض بالطاقة لمدة عام كامل.
انخفضت تكلفة الطاقة الشمسية بنسبة 80% تقريبًا بين عامي 2010 و2015. وذلك يعني أن تكلفة الطاقة الشمسية ستكون في متناول معظم دول العالم بحلول عام 2030. وإذا تمكنت الطاقة الشمسية من تجاوز الأشكال الأخرى من الطاقة من حيث الكفاءة الاقتصادية. حينها سيكون السؤال: من الذي سيقود تنفيذ تلك التكنولوجيا المستدامة على نطاق واسع؟ ومن سيستفيد من الوظائف التي تخلقها؟
ما بين قبل الطوفان ولا تنظروا إلى السماء.. قصة فنان مع قضايا البيئة
في عام 2016 عرض تلفزيون “ناشيونال جيوجرافيك” آخر نسخ الأفلام المنفصلة المتصلة التي تقدّم تحت عنوان “قبل الطوفان“. كان ذلك مع اختيار نجم هوليوود ليوناردو ديكابريو كممثل للولايات المتحدة في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي. هذا النجم الذي اختتم 2021 بفيلم “لا تنظروا إلى السماء”.
يحكي الفيلم قصة ليوناردو نفسه منذ كان صغيرًا. يعرض حواره مع الرئيس الأمريكي بيل كينتون في أول الألفية. وأيضًا مسيرة حافلة خاضها للحديث عن أثر التغير المناخي على العالم في السنوات القليلة الماضية، والتي يمكن أن تتسبب في دمار أمريكا والعالم.
سخرية القدر أنه بين فيلمي “قبل الطوفان” و”لا تنظروا إلى السماء” جملة هي ذاتها يقولها ديكابريو. في الأول يخاطب الجمهور الواسع بتهكم أنه عليهم ألّا ينتظرا حتى يروا خطر البيئة المدمر. بينما في الثاني يقف في أحد المشاهد بعد أن يرى المذنب الذي يهدد الأرض بالفناء بالرغم من تجاهله. يقف ويخاطبهم هذه المرة في فيلم روائي تخيلي وربما تسجيلي أيضًا بأن يروا فناءهم بأعينهم.
اختتمت 2021 سينمائيًا بناقوس خطر يحذر من تجاهل قضايا البيئة. ونتوقع أن العام الجديد ستصبح البيئة دون شك على رأس أولوياته. قضية تخرج من إطار رعايتها كرفاهية ومنطقة لجني المكاسب المادية إلى اعتبارها قصة تساندها السينما والأدب، يناقشانها بإلحاح ورعب من مستقبل مهدد لاستمرارية البشرية.