بدأت معالم مشروع الموازنة العامة للدولة للعام المالي الجديد 2022/ 2023 في الظهور. ذلك وسط مخاوف من حركة ارتدادية للأموال الساخنة، من الأسواق الناشئة لمواطنها الأصلية، تزامنًا مع بداية رفع الفائدة في الغرب.
تستهدف وزارة المالية النزول بمعدل الدين للناتج المحلي لأقل من 90% في العام المالي 2022/ 2023، وإلى 82.5% بحلول يونيو 2025. بالإضافة إلى تقليل نسبة خدمة الدين لإجمالي مصروفات الموازنة لأقل من 30% مقارنة بنسبة 31.5% المستهدفة خلال العام المالي الحالي الذي ينتهي في 30 يونيو المقبل.
تأتي مستهدفات “المالية” رغم مخاوف بنوك الاستثمار بالسوق المحلية من اتجاه معظم البنوك المركزية لرفع أسعار الفائدة وارتفاع قيمة الدولار المتوقعة. ذلك بما يوفر بيئة غير مثالية لتدفقات الأجانب للاستثمار بأدوات الدين وأصول الأسواق النامية كمصر.
ويحذر الخبير الاقتصادي، هاني توفيق، مما أسماه بـ”بدء موسم عودة الأموال الساخنة” من مهجرها في الأسواق الناشئة، إلى قواعدها الأصلية، مع أول إشارة لرفع سعر الفائدة في الغرب.
والأموال الساخنة هي مرادف لأموال استثمارية أجنبية تدخل الاقتصاديات الناشئة وتخرج منها بسرعة باحثة عن فرص استثمارية أخرى ذات أرباح أعلى. يقول توفيق إن الاحتياطي النقدي بمعظم الدول النامية مثل تركيا، وباكستان، والأرجنتين سيتأثر. بينما مصر ستشهد انخفاضًا في صافي الأصول الأجنبية بالجهاز المصرفي (المركز الدولاري).
صافي الأصول الأجنبية
نشرت “رويترز” تقريرًا، أخيرًا، تكشف فيه عن انخفاض صافي الأصول الأجنبية بالجهاز المصرفي بأكثر من 100 مليار جنيه “6.5 مليار دولار”، خلال شهرين فقط. في خطوة فسرها محللون بإمكانية نزوح محافظ أجنبية أو عمليات سداد الدين الأجنبي أو تباطؤ في السياحة.
ويعبّر صافي الأصول الأجنبية عن صافي معاملات الجهاز المصرفي المصري، بما في ذلك البنك المركزي مع الخارج. وتتضمن المبالغ الناتجة عن ضخ عملات أجنبية لشراء أذون وسندات خزانة، وربط شهادات إيداع، وشراء أسهم.
يضيف توفيق أن تلك الموجة من عودة الأموال الساخنة تسبب ضغوطًا تضخمية على جميع الاقتصادات الناشئة، فوق التضخم الأصلي العالمي المستورد. وهو أمر يتطلب استعدادًا حكوميًا لمواجهتها.
لكن البنك المركزي المصري، أعلن الأربعاء، ارتفاع صافي الاحتياطات الأجنبية إلى 40.935 مليار دولار في ديسمبر. وذلك بارتفاع طفيف عن الشهر السابق، بنحو 25 مليون دولار.
وأكدت وزارة المالية، في اليوم ذاته، أن مصر كانت من أفضل الدول في خفض معدل الدين للناتج المحلي بنسبة 20% خلال ثلاث سنوات رغم جائحة كورونا. حيث تراجع معدل الدين من 108% عام 2016/ 2017، إلى 87.5 % بنهاية العام المالي 2019/ 2020.
وتراهن المالية على دخول تدفقات دولارية كبيرة فور عودة مصر مؤشر جى بى مورجان، للأسواق الناشئة بنهاية يناير الحالي. بعدما خرجت منه قبل 11 عامًا. ما يجذب قاعدة المستثمرين الأجانب في سندات وأذون الخزانة المصرية.
وارتفع متوسط المديونية العالمية للدول الناشئة بنحو 17% والدول الكبرى بنحو 20% خلال جائحة كورونا. وهو ما يأتي بالتزامن مع مخاوف من خروج استثمارات أجنبية غير مباشرة من الدول النامية أيضًا.
تستهدف وزارة المالية تحقيق فائض أولى 2% في مشروع الموازنة على المستوى المتوسط. فضلًا عن خفض العجز الكلي إلى 6.1% عام 2022/ 2023. ثم إلى 5.1% عام 2024/ 2025.
ويعني عجز الموازنة المبالغ التي ستقترضها الوزارة لتغطية الفجوة بين الموارد التي تتضمن الإيرادات والاستخدامات التي تتضمن المصروفات. بالإضافة إلى بنود أخرى أهمها عبء خدمة الدين. بينما الفائض الأولي هو الفرق بين الإيرادات والمصروفات فقط.
موقف الدين
بحسب تقرير الإنجازات والتحديات للحكومة المصرية، فإن نسبة الدين عند مقارنتها بالناتج المحلي لمصر شهدت زيادة طفيفة. وكان ذلك رغم السياسات التنموية التوسعية غير المسبوقة التي تتبناها الحكومة. إذ بلغ معدل الدين نحو 91% بنهاية العام المالي 2020/ 2021.
ووضعت الحكومة مسارًا نزوليًا لخدمة الدين لتتراجع من 40% بنهاية 2020 إلى 36% في يونيو 2021. وتستهدف 32% خلال موازنة العام المالي الحالي. مع إطالة عمر الدين ليقترب من 5 سنوات على المدى المتوسط. بدلاً من 3.4 سنة حاليًا، ومقابل 1.3 عام قبل يونيو 2017.
تقديرات وزارة المالية للدين تأتي رغم تأكيدها في الوقت ذاته أن موازنة العام المالي 2022/ 2023، تشهد إنفاقًا بشكل أكبر على تحسين حياة الناس. إلى جانب تيسير سُبل العيش الكريم. مع برامج فعَّالة في الصحة والتعليم؛ باعتبارهما الركيزة الأساسية لبناء الإنسان المصري. وبما يعزز دعائم الاستثمار برأس المال البشرى.
تتضمن الخطة التوسع في الاستثمارات العامة بما يُسهم في رفع كفاءة الخدمات الأساسية. فضلاً عن التوسع في مشروعات “حياة كريمة” التي تم تخصيص ميزانية بين 800 و900 مليار جنيه لها على مدار ثلاث سنوات. وفي العام المالي الحالي، تبلغ مخصصات المبادرة نحو 216.8 مليار جنيه من موازنة الدولة. بينما لم تتضح بعد المبالغ التي سيتم رصدها للعام المالي الحالي.
التفاوت سمة
يقول الدكتور وليد جاب الله، الخبير الاقتصادي، إن هبوط صافي الأصول الأجنبية شهرين ليست معيارًا للحكم. فمن سماتها دائمًا التفاوت بين شهر آخر. لأنها ترتبط بكل مصادر النقد الأجنبي لدى البنوك. وأبرزها السياحة والصادرات وتحويلات المصريين بالخارج، حال التنازل عنها مقابل شراء الجنيه المصري. فضلًا عن استثمارات الاجانب المالية في أدوات الدين.
سجل صافي الأصول الأجنبية رقمًا قياسيًا في فبراير 2020. ذلك حينما تجاوزت 20 مليار دولار قبل جائحة كورونا. وتجاوزت ذلك الرقم في الشهر ذاته من 2021 قبل أن تتراجع لـ 17 مليار دولار في مارس من العام ذاته.
يقول جاب الله إن صافي الأصول الأجنبية لا يجب أن يكون مصدر قلق. إذ أن تفاوتها مرتبط بمتغيرات الإيرادات والمصروفات. ففي بعض الأوقات تتزايد الاحتياجات التمويلية مع اقتصاد متوسع في كل النواحي. وبالتالي ضمان استقرار الاقتصاد هي زيادة معدلات النمو الاقتصادي.
تستهدف وزارة المالية تحقيق معدل نمو 5.7% من الناتج المحلى الإجمالي خلال العام المالي 2022/ 2023، يرتفع تدريجيًا إلى 6% عام 2024/ 2025.
ورفع البنك الدولى، في أحدث تقاريره، توقعاته لمعدل النمو لمصر إلى 5% في العام المالي الحالي. بينما توقعت مؤسسة هارفرد للتنمية الدولية نمو الاقتصاد المصري سنويًا بمتوسط 6.8% حتى عام 2027.
لكن جاب الله يؤكد أن البيانات الصادرة عن وزارة التخطيط تؤكد تحقيق الاقتصاد معدل نمو بلغ 5.7% في النصف الأول من العام المالي الحالي. مع مؤشرات اقتصادية جيدة للصادرات في 2021 بتخطيها 31 مليار دولار وقناة السويس بنحو 6 مليارات وتحويلات 30 مليار في العام ذاته.
خلال العام المالي 2020/2021، حققت الاستثمارات بمحفظة الأوراق المالية صافي تدفق للداخل بنحو 18.7 مليار دولار مقابل تدفقات للخارج بنحو 7.3 مليار دولار في الفترة ذاتها.
وبحسب جاب الله، فإن الاقتصاد المصري قادر علي الاستمرار برغم تفاوت معدلات الاصول الأجنبية التي ترجع حين هبوطها لعوامل أجنبية وليست محليةـ، بجانب وجود فائض أولي في الموازنة وزيادة مستمرة للناتج المحلي الاجمالي بصورة تمكنه من امتصاص الصدمات.
توسع السندات
تتضمن خطة وزارة المالية للعام الجديد التوسع في إصدار السندات الحكومية المتنوعة متوسطة وطويلة الأجل، واستهداف أدوات جديدة مثل الصكوك وسندات التنمية المستدامة، والخضراء. بما يُسهم في جذب سيولة إضافية لسوق الأوراق المالية الحكومية، على نحو يُساعد في خفض تكلفة الدين.
وبحسب التقرير المالي لوزارة المالية عن شهر ديسمبر الماضي، فإن قيمة سندات الخزانة الحكومية ارتفعت بنحو 628 مليار جنيه مقارنة بارتفاع أقل لأذون الخزانة بقيمة 129.3 مليار جنيه. ويأتي ذلك تطبيقًا لسياسة الحكومة في إطالة عمر الدين.
ويقول جاب الله إن الدين العام في مصر لا يدعو للقلق فالمحك هو نسبته إلى الناتج المحلي التي تتراجع باستمرار، إلى جانب خطة لهيكلة الدين تتضمن التخلي عن الديون قصيرة الأجل مرتفعة العائد بأخرى منخفضة العائد بما يقلل العبء من الموازنة.
يؤكد الخبير الاقتصادي هاني توفيق أيضًا أن معظم الدول الناشئة ليس أمامها إلا تشجيع وتحفيز الاستثمار والتشغيل والتصدير وترشيد الاستيراد لخفض عجز الموازنة والدين العام (والخارجي منه على وجه الخصوص).
في الموازنة الجديدة، تؤكد وزارة المالية على أن القطاع الخاص سيكون أحد المحركات الاقتصادية فيما يتعلق بالإنتاج والتشغيل، مع توطين الصناعة، وزيادة الإنتاجية، وتعميق المكون المحلى، وتحفيز التصدير.
تستهدف الوزارة تعظيم جهود تهيئة مناخ الاستثمار، وتشجيع المستثمرين، وتذليل العقبات. بما يدعم التوجه نحو التوسع في الأنشطة الإنتاجية. وكذلك الاهتمام بالمشروعات الصغيرة والمتوسطة. إلى جانب الصناعات التحويلية، والتوسع في استخدام مصادر الطاقة النظيفة المستدامة.