تسللت موسيقى أحمد الحجار إلى أرواحنا، فغمرتها شجنًا وحنينًا. حملت آهاته آمالنا في فجر يبتسم وسط الدموع، وفرحة انقسمت على شفتين. جبرت عذوبة صوته قلوبنا المنكوية بجمر الشوق، ولامست وجداننا، فمددنا أيدينا معه نلملم خيوط الشمس.
عائلة عشقت الموسيقى
لهذه القصة بداية في منتصف الأربعينيات، حين ترك إبراهيم الحجار بلدته بمحافظة بني سويف متجهًا إلى القاهرة ليخوض اختبار الأصوات الجديدة بالإذاعة المصرية. ذلك الاختبار الذي اجتازه ليصبح مطربًا معتمدًا بالإذاعة وهو لم يتخطى الثانية والعشرين. بعد سنوات ترك إبراهيم الحجار الإذاعة على إثر خلاف مع محمد حسن الشجاعي مسؤول قسم الموسيقى.
يروى أن الشجاعي طلب منه تغيير اسمه بدعوى أن اسم الحجار ليس اسمًا فنيًا جاذبًا فرفض إبراهيم وقال له إنه يتحداه أن يتجرأ ويطلب من فريد الأطرش تغيير اسمه. لكن يبدو أن الخلاف كان أعمق من مجرد تغيير اسم فني.
انتسب إبراهيم الحجار إلى معهد الموسيقى العربية لدراسة العزف والغناء، عين بعد تخرجه بدار الأوبرا والتحق بـ”فرقة الموسيقى العربية”. وقف الفنان الكبير خلف المطربين ضمن كورال الفرقة، لم يحظَ إبراهيم الحجار بالمكانة التي تناسب حجم موهبته وقدراته الغنائية والموسيقية. لكنه استثمر كل هذه السنوات وكل ما امتلكه في أبنائه الثلاثة “علي وأحمد ورأفت”.
في مطلع الثمانينيات اكتشف بليغ حمدي، الابن الأكبر علي الحجار وقدمه بعدد من الأغنيات. لكن معرفة الجمهور الحقيقية بـ”علي” كانت من خلال أغنية “اعذريني” عام 1981 والتي لحنها له أخاه الأصغر أحمد الحجار. والذي كان لا يزال طالبًا بكلية التربية الفنية، ليكون ميلاد علي الحجار الحقيقي متزامنًا مع مولد ملحن واعد هو الفنان أحمد الحجار.
“عود”.. تميمة شجن التسعينيات
في عام 1989 أصدر أحمد الحجار ألبومه الأول “حنين” من ألحانه وكلمات جمال بخيت. من الألبوم حمل لنا صوته عبر أغنية “عود” تميمة الشجن والآنين لجيل التسعينيات بأكمله.
“عود.. الفجر لسة بيبتسم بين دمعتين.. عود.. الفرح ممكن يتقسم على شفتين.. عود.. الوهم مات.. والذكريات قالت لحبك بالوجود.. يا ريت تعود.. عمري اللي راح.. سماح سماح.. يا حب أكبر م الجراح.. يا ريت تعود“
حقق ألبوم “حنين”، خاصة أغنية “عود” نجاحًا كبيرًا، ووضعت نسل العائلة ضمن قائمة المطربين الصاعدين بقوة خلال التسعينيات. كما وضعه لحن “أعذريني” وهو لا يزال ابن السابعة عشرة ضمن أهم ملحني تلك الحقبة.
“لملمت خيوط الشمس”
بعد ثلاث سنوات صدر لأحمد الحجار ألبومه الثاني “اتمنيت” عام 1992. وأحدثت أغنية “لملمت خيوط الشمس” صدىً كبيرًا، ليؤكد أحمد الحجار مكانته كمطرب هام بين نجوم هذا الجيل. وذلك رغم الموجة الموسيقية الجديدة والهامة التي أسس لها وقادها حميد الشاعري آنذاك. ظل أحمد الحجار مستقلاً في موسيقاه، لكنه لم ينعزل تمامًا عن موجة التجديد فتعاون مع حميد الشاعري والذي لحن له عدد من أغنيات ألبومه الأول والثاني.
لملمت خيوط الشمس علشان اغزلك شال.. وعزفت حروف الهمس وفي أجمل غنوة اتقال.. ونديتك ما سمعتيش والحال هواه الحال.. علمت الصبر الصبر وسنين العمر تفوت.. وفي قلب الشوق والجمر وآنين مبحوح الصوت”.
أحمد الحجار الملحن.. أثر لا يزول
لحن أحمد الحجار أغنيات حققت نجاحًا كبيرًا لكثير من المطربين، فلحن لـ علي الحجار “لما الشتا يدق الببان” و”اوعدني” و”أنا بيكي يا سمرة بكون”. كما لحن لمدحت صالح وأنغام وأنوشكا وهشام عباس ومحمد فؤاد وعلاء عبد الخالق. وجميعها ألحان أثَّرت في مسيرة هؤلاء المطربين. كما كانت هذه الألحان إضافة إلى الموسيقى العربية.
كما وضع الموسيقى والألحان لعدة أفلام وأعمال الدرامية، منها فيلما الفتى الشرير، والفاس في الراس، ومسلسلا عصر الفرسان، والعودة. ولحن أغاني فيلم “أمريكا شيكا بيكا” ومن بينها لحنه الرائع لأغنية “يعني إيه كلمة وطن” كلمات مدحت العدل. كما وضع أيضًا الموسيقى والألحان لعشرات المسرحيات.
العود.. رفيق دائم
في حفل جمعه بأخيه ورفيق مشواره، قبل عشر سنوات، على مسرح ساقية الصاوي يقف أحمد الحجار إلى جانب علي ليؤديا معًا أغنيه “بحبك”. ينطلق صوت علي: “بحبك وانطلق عصفور وأسبح في الهوا والنور” ليكرر أحمد: “أحبك وانطلق عصفور وأسبح في الهوا والنور”، وهو يتحسس بأصابعه مقبض عوده كعاشق يتشبث بمعشوقه، يستمد منه قوته.
ظل أحمد الحجار ملتصقًا بعوده طيلة مشواره الفني، فلم يغني في حفل أو يحل ضيفًا في لقاء بدونه. فقد كان أحد أبرز العازفين على العود، لم يكن مجرد عازف بل عاشق ارتبط بمعشوقه طيلة أكثر من أربعين عامًا.
عشق حتى آخر نفس
ظل أحمد الحجار العاشق للموسيقى والغناء يمارس طقوس عشقة كمتصوف، يرحل خلف محبوبه، حتى أسابيع قليلة قبيل رحيله الموجع.
شارك أحمد الحجار في آخر عروض مسرحية “طقوس العودة” من إخراج سعيد سليمان، على مسرح قصر ثقافة قنا، في الرابع من شهر ديسمبر المنقضي. وهو العرض المسرحي الذي وضع له أحمد الحجار الموسيقى والألحان. ويدور “طقوس العودة” حول الملحمة الشعبية “حسن ونعيمة” وقامت ببطولته الفنانة نجلاء يونس. والتي شاركت أيضًا الفنان أحمد الحجار في أداء أغنيات العرض.
رحل أحمد الحجار تاركًا رصيدًا من أجمل أغنيات حقبة التسعينيات، لحنًا وغناء، تلك الأغنيات التي ارتبط بها جيل بأكمله. لتصعد برحيله تميمية الشجن والآنين إلى السماء، ربما بلا عودة.