حفلت زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي، مساء أمس الخميس، للكاتدرائية بالعديد من الرسائل التي حددت مسار العلاقة بين الكنيسة والدولة. وهي نتاج سنوات من التفاهم خلقها الطرفان معاً، خاصة البابا تواضروس الثاني الذي جاء بعد اضطرابات سياسية، ووجه شراع الكنيسة في اتجاه الدولة، وتحولت العلاقة التي كانت ملامحها “شخصية” في السابق إلى أخرى قائمة على المؤسسية.
لذلك واظب السيسي منذ عامه الأول في الحكم على حضور قداس عيد الميلاد، في تغيير واضح لسياسة سابقيه من الرؤساء. وهو ما ترك انطباعًا إيجابيًا لدى الأقباط إزاء موقف الدولة من الكنيسة، رغم حالة الاستقطاب داخل أروقتها. وهنا طُرح التساؤل المهم: كيف تتعاطي الدولة مع تجاذبات داخلية في البيت القبطي؟
الزيارة الأخيرة حددت بشكل أوضح مسار هذه العلاقة، لاسيما مع مقارنة سياسة الرئيس الحالي مع سياسات من سبقوه من رؤساء. ومن سبقوا البابا تواضروس من باباوات، خاصة أن تلك العلاقة تؤثر بطبيعة الحال على المسيحيين المصريين، في إطار علاقة مؤسسة دولة بمواطنيها.
مسار العلاقة بين الكنيسة والدولة
في حين اتسمت علاقة البابا كيرلس السادس بالرئيس جمال عبد الناصر بالتقارب الشديد والصداقة. فإنَّ تلك الفترة تأسس فيها ما سمي بالنظام الملي الجديد، إذ اعتبر الرئيس أن البابا هو ممثل الأقباط وصوتهم الوحيد أمام الدولة، مما يعني الخصم من فكرة المواطنة التي يتمتع بها الأقباط كمواطنين في الدولة المصرية وكأنهم رعايا الكنيسة.
هذا التقليد الذي وضعه عبدالناصر من خلال علاقة وطيدة بالبابا، تحول إلى علاقة حادة جمعت الرئيس السادات بالبابا شنودة الثالث. انتهت بقرار التحفظ على البابا في سبتمبر عام 1981. إلا أنها رسمت البابا كصوت وحيد للمسيحيين المصريين أمام رئيس الدولة، الذي أعلن عن هذا صراحة في خطاب برلماني شهير قال فيه إنه رئيس للجميع، بينما البابا شنودة يريد أن يصبح زعيمًا للمسيحيين.
بوصول الرئيس الأسبق حسني مبارك إلى الحكم كانت تلك القاعدة قد ترسخت تمامًا. إذ عمد الأخير ونظامه إلى عقد صفقات انتخابية مع الكنيسة في مواسم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية مقابل امتيازات بسيطة. مثل تعيين أسماء بعينها في البرلمان، ضمن كوتة الرئيس أو التوقيع على قرارات بناء كنائس وغيرها.
بوفاة البابا شنودة عام 2012 دخلت الكنيسة العهد الجديد كليًا في علاقتها بالدولة المصرية. فالبابا تواضروس الثاني كان أحد أقطاب مشهد خارطة الطريق في الثالث من يوليو عام 2013 حين تمت الإطاحة بنظام الإخوان. إذ قدَّم البطريرك الذي كان جديدًا آنذاك دعمًا كبيرًا لـ30 يونيو داخليًا وخارجيًا. وهو ما ذكره الرئيس السيسي في زيارته أمس باقتضاب، حين قال إن البابا “عاش معنا ظروفًا وأيامًا صعبة”.
تواضروس الثاني والعهد الجديد
عمل تواضروس طوال سنوات حبريته بطريقة تختلف تمامًا عن سلفه البابا شنودة. الذي اتسمت سنواته الأربعين بطريقتين مختلفتين في التعاطي مع الدولة، الأولى في عصر السادات وكان عنوانها الصدام وانتهت بتحديد إقامته. والثانية مع الرئيس مبارك فكانت تميل إلى المهادنة حتى أنه ابتكر الاعتكاف في الدير كطريقة احتجاج على بعض الأحداث الطائفية. وذلك كأسلوب صامت يختلف عن طريقته السابقة.
في المقابل، تعاملت الدولة مع الكنيسة كملفٍ أمني يقاس النجاح فيه بقدرة الدولة على السيطرة الأمنية وإيقاف الأحداث الطائفية، لا بحل المشكلات التي تسببت في هذه الأزمات. لاسيما أزمة بناء الكنائس التي توارثتها الأنظمة المصرية مع تجاهل توصيات لجنة العطيفي التي حققت في فتنة الخانكة في السبعينات. لتؤكد أن غياب إطار تشريعي لبناء الكنائس يشكل سببًا رئيسيًا في الأحداث الطائفية. لكن نظام مبارك أهمل تلك الأزمة حتى ورثها النظام الحالي، وحاول علاجها بقانون بناء الكنائس رقم 80 لعام 2016.
السيسي في الكاتدرائية.. رسالة غير عابرة
في عصر البابا تواضروس أسست الكنيسة حلفًا سياسيًا مع الدولة. فالكنائس المصرية في المهجر عملت كسفارات، على حد تعبير البابا، لكي تدافع عن صورة مصر حول العالم بعد 30 يونيو. لتؤكد أن ما حدث كان نتيجة إرادة شعبية وليس انقلابًا. بالإضافة إلى وضع الكنيسة كمؤسسة للقوى الناعمة على أجندة الدولة المصرية. إضافة إلى ذلك، فإن السيسي تمتع بشعبية جارفة بين عموم الأقباط جعلتهم رقمًا انتخابيًا في أي معادلة سياسية. وكأنه يشكِّل معهم حلفًا اجتماعيًا.
إزاء كل تلك العوامل جاءت عبارة السيسي أمس “خدوا بالكم من البابا تواضروس.. الرجالة بتتوزن بالمواقف والظروف الصعبة”. وهي عبارة تعني أن مؤسسات الدولة تتعايش مع الأقباط، خاصة حالة الاستقطاب بين تيارين داخل أروقة الكاتدرائية. الأول، وهو الحرس القديم، الذي يعادي البابا ومواقفه أمام التيار الثاني الإصلاحي الذى ينتمي إليه تواضروس.
الدكتور صموئيل ارمانيوس الباحث في اللاهوت، يرى أن تلك العبارة تعكس حالة الانسجام بين مؤسسات الدولة والكنيسة. وهو ما يمكن أن تضعه الأطراف المتجاذبة في حسبانه. خاصة تلك التي وصلت في بعض الأحيان إلى التخطيط للإطاحة به مثلما حدث عام 2019. حين اضطرت الكنيسة إلى نفي وجود تحركات لبعض الأساقفة تهدف إلى عزل البابا. قابلتها حملات لجمع توقيعات من أساقفة الداخل والخارج تهدف إلى التأكيد على تمسك الأقباط بالبابا.
في إشارة السيسي أمس إلى الأقباط تأكيد قوي على علاقة جديدة متوطدة بين الدولة والكنيسة، بفضل البابا تواضروس “رجل المواقف الصعبة”، مثلما وصفه الرئيس. وهو تأكيد لا يخلو من التعبير عن تقدير الدولة لجهود البابا تواضروس. أما البابا تواضروس من ناحيته، فقد خصص عظة قداس الميلاد عن موضوعه المفضل الذي تحدث فيه مرارًا وتكرارًا. وهو النور أو استنارة القلب التي تبدد أي ظلمة مثلما فعل نور المسيح حين نزل للبشر.
إشارة التوريث!
وفي السياق نفسه، فإن زيارة الرئيس لم تكن وحدها سببًا للجدل في الشارع القبطي. فقد أثار معلم الكاتدرائية (كبير المرتلين)، إبراهيم عياد، جدلاً عندما ظهر على رأس خورس الكلية الإكليريكية المكلفة بترديد ترانيم الميلاد. وخلفه نجله أنطون إبراهيم عياد، وطفل صغير هو حفيد المرتل الشهير، حيث كان الطفل الوحيد ضمن صفوف طلبة كلية اللاهوت الأرثوذكسية. مما أغضب بعض المسيحيين الذين وصفوا الأمر بـ”التوريث”. إذ لم يتسنى لأي طفل في نفس السن أن يشارك في قداس الميلاد مع بابا الكنيسة بشكل سنوي.