مقدمة افتتاحية:
هذا هو المقال الأول من بين مجموعة من المقالات، التي يتناول فيها الكاتب الظروف الخاصة (بالسجناء الجنائيين)، داخل مراكز الإصلاح والتأهيل -السجون سابقا- بهدف البحث عن أفضل طرق إعادة تأهيلهم، ودمجهم بعد الإفراج عنهم، وتقليل معدلات الإجرام، والحد من جرائم العود.
كما يظهر الغرض من كتابة هذه المقالات في تقديم الآراء الباحثة في الإجراءات الناجحة إصلاحات السجون عبر الدول المختلفة، وصياغة أفضلها وأقربها إلى الواقعية ووضعها بين يدي المسئولين عن تطبيق العدالة الجنائية في مصر، وذلك بغية دعم أحد الفئات الأكثر تهميشا داخل المجتمع المصري وهم (السجناء/ السجينات _ المجرمين/ات).
يأتي ذلك في سياق وصف موقف حقيقي مر به الكاتب داخل السجن منذ سنوات عديدة، ثم إسقاط هذا الموقف على إحدى الإشكاليات التي يواجهها السجناء الجنائيون سواء داخل مراكز الإصلاح والتأهيل أو خارجها بعد الإفراج عنهم.
الاكتظاظ
المشهد الأول:
شتاء 2014 داخل سجن القاهرة (عنبر 1 مبني ب) الساعة تقارب الخامسة مساء، الطقس شديد البرودة، جهازي العصبي أوشك على الانهيار، قادني المخبر المسئول عن العنبر، ثم صعد بي الى الدور الثالث، أسير بجانبه مرتديا السترة الميري التي تسع لشخص آخر معي، حافي القدمين، أحمل سيجارتين كليوباترا في جيب السترة..
تقدم المخبر وفتح باب زنزانة ـ 18 ب.
ثم دفعني إلى داخلها، استقر جسدي، حيث وضعته بعد الخطوة الأولى، لم أعد قادرا على الحركة، كما أنه لا توجد مساحة لخطوة ثانية، فتركت الأمر إلى بصري، حتى يتجول في حدود الزنزانة.
رأيت أكواما من البشر المتراصة في نظام شديد، بجانب بعضها البعض، يقارب عددهم الأربعين شخصا، في غرفة لا تتعدي مساحتها الثمانية أمتار مضروبة في خمسة أمتار، بها دورة مياه عبارة عن متر واحد في نصف المتر، لم يستطع بصري التعرف على لون الحائط بسبب متعلقات السجناء المثبتة عليه.
فاجئني أحدهم، تعالى أقعد، ما تخفش، هنا أدركت أن جميع السجناء ينظرون نحوى، في ذلك الوقت كنت لا أتعدى الثمانية عشرة من عمري، تقدمت نحوه، ليفاجئني مرة أخرى ويعلمني أول القوانين (أدخل أغسل رجلك وتعالى أقعد).
للسجن قوانين خاص، يأتي في مقدمتها الاهتمام (بالفرشة) وهي المساحة الشخصية لكل سجين، قدرها شبر وقبضة يد وفي بعض الأحيان شبرين كاملين، هذه الفرشة هي العالم الخاص للسجين أما العالم العام فحدوده حائط الزنزانة ومن بعدها أسوار السجن.
دورة المياه في الحقيقة ما هي إلا مخزن لمجموعة من (الجرادل) بها فاتحة دائرية الشكل في أرضيتها وذلك لقضاء الحاجة، وصنبور يتسلل من خلاله المياه، فكل شخص من السجناء يحاول أن يمتلك (جردل) لكي يستطيع أن يغسل ملابسة، وهذا منعا لتفشى الجرب والأمراض الجلدية فيما بينهم.
جلست بين المجموعة التي استدعتني، وما أن اقتربت حتى انهالت التساؤلات، أنت منين؟ وعملت ايه عشان تيجي هنا؟ عندك كام سنة؟ وفي هذه اللحظة حدثني عقلي، يجب عليك أن تتصرف وتتماسك، عليك أن تنال احترامهم، عليك أن تثبت لهم أنك (رد سجون) قول لهم إنك قد دخلت السجن من قبل، لكي أندفع دون تفكير كالعادة وبسذاجة شديدة وأقاطعهم، بنبرة ممزوجة بالثقة “على فكرة أنا دخلت السجن قبل كده دي مش أول مرة”.
ليرد أحدهم، إتحبست أد ايه يعني؟ ، وبذات التسرع الساذج أرد عليه “لمدة 9 أيام بعنبر الزراعة بعد القبض عليا السنة اللي فاتت في نفس القضية اللي أنا جيت بيها”، ضحكوا جميعا بشكل مبالغ فيه، شعرت بالغضب، المثير للفضول، “انتم بتضحكوا على ايه؟”.
لأكتشف أن أحدث سجين فيهم محبوس منذ عامين، وهنا أدركت أن حياتي قد تغيرت تماما، وأن عالمي قد انحصر في حدود تلك الزنزانة مع هؤلاء السجناء.
المشهد الثاني:
شتاء 2022 الساعة تقارب على الرابعة فجرا، أجلس داخل مكتبي الخاص، مستغرقا في قراءة بعض السوابق القضائية المترجمة الصادرة عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، ليستوقفني هذا المبدأ الذى تم إقراره:
“يمكن اعتبار وضع السجناء المحتجزين في سجون مكتظة ومتداعية، مع القليل جدًا من المساحات المعيشية وخصوصية غير كافية، انتهاكًا للمادة 3، بغض النظر عن حقيقة أن السلطات لم تنو إذلال السجناء.
وفقًا للسوابق القضائية للمحكمة، يجب تقييم انتهاك المادة 3 على أساس كل حالة على حدة. وبالتالي، فإن الزنازين التي توفر أقل من 3 أمتار مربعة من مساحة المعيشة الشخصية لكل ساكن تؤدي إلى افتراض قوي (وإن كان لا يزال قابلا للدحض) بالانتهاك.
ولكن حتى مساحة المعيشة التي تتجاوز هذا الحد يمكن اعتبارها غير كافية، مع مراعاة جميع العناصر الأخرى ذات الصلة، مثل الوقت الذي يقضيه النزلاء في زنزانتهم كل يوم، ووصولهم إلى الضوء الطبيعي والهواء أثناء تواجدهم في الزنزانة، والحالة العامة.
في حقيقة الأمر أن اكتظاظ السجون مشكلة تعاني منها أغلب الأنظمة المسئولة عن تطبيق العدالة الجنائية، ومن المعلوم أيضا أن هذه المشكلة كانت وراء التفكير في تحديث وتطوير أهداف العقوبة والغاية منها، حتى نصل إلى تقليل معدلات الاجرام، وانخفاض أعداد المجرمين، وهو ما نطقت به الإرشادات الصادرة عن البرلمان الأوروبي في عام 2017 التي تخص مشكلة الاكتظاظ:
“هذه مشكلة شائعة جدًا في السجون الأوروبية، مما يؤدي إلى عواقب سلبية على خصوصية النزلاء وأنشطتهم خارج الزنزانات والرعاية الصحية والسلام والأمن.
فقد حددت اللجنة الأوروبية لمنع التعذيب الحد الأدنى الدقيق للمساحة التي يجب توفيرها لكل نزيل في زنزانة. وفقًا لمعايير اللجنة، فإن الحد الأدنى لمعيار مساحة المعيشة الشخصية في مؤسسات السجون هو: ستة أمتار مربعة من مساحة المعيشة (بالإضافة إلى مرفق صحي) لزنزانة فردية، أو أربعة أمتار مربعة لكل سجين (بالإضافة إلى مرفق صحي مقسم بالكامل) في مكان متعدد الإشغال؛ علاوة على ذلك، يجب أن تكون جدران الزنزانة على بعد مترين على الأقل من بعضها البعض، والسقف 2.5 متر على الأقل من الأرض.
ويُقصد بهذه المعايير أن تكون الحد الأدنى، وفي نفس التقرير تشجع اللجنة الأوروبية لمنع التعذيب الدول الأطراف، خاصة عند بناء سجون جديدة، على اتباع المعايير المرغوبة، على الأقل عشرة أمتار مربعة لزنزانة تستضيف سجينين، 14 مترا مربعا للزنزانة استضافة ثلاثة، وما إلى ذلك.
لذلك يمكن اعتبار سلوك الدولة المصرية نحو بناء سجون جديدة، هو سلوك محمود للحد من مشكلة اكتظاظ مراكز الاصلاح والتأهيل-السجون سابقا.
وهو ما أشارت إليه تحديدا أفضل الحلول المذكورة بالإرشادات الصادرة عن البرلمان الأوروبي، كما أن السجون الجديدة سوف تكون أكثر قدرة على تنفيذ برامج التأهيل والدمج بداخلها، والتي تهدف بطبيعة الحال إلى منع معاودة الإجرام مرة أخرى.
وحتي نكون أكثر موضوعية وواقعية، فإن كثيرا من السجون المصرية متهالكة وغير آدمية ولا تصلح، بحالها التي هي عليه، أن ينفذ بداخلها برامج التأهيل والدمج، أو في قول آخر، السجون المصرية تمثل عائقا أمام برامج التأهيل والدمج، لذلك كان من الضروري بناء سجون جديدة وتحديث ما يمكن تحديثه، وهو ما تم التعبير عنه في مايو 2016، حيث أصدرت اللجنة الأوروبية لمشاكل الجريمة التابعة لمجلس أوروبا وثيقة توجيهية حول اكتظاظ السجون؛ وتستند الوثيقة إلى التوصية رقم (99) 22 لتطوير المزيد من التوصيات.
“أولا، رغم أن التجارب السابقة تثبت أن بناء سجون جديدة لا يحل مشكلة الاكتظاظ، حيث إن السجون قديمة وفي ظروف سيئة، من الضروري دائما بناء سجون جديدة تتوافق مع معايير أفضل”.
وبالانتقال إلى أحد أهم المصادر التي تبحث في أزمة الصحة العقلية للسجناء داخل السجون في الولايات المتحدة (الجنون في غياهب السجون، للمؤلف تيري كوبرز) فقد سطر كلماته بأن المنطق يخبرنا أن جميع السجناء يتحملون مدة عقوبتهم في السجن على نحو جيد وتزيد احتمالية نجاحهم في العيش باستقامة بعد إطلاق سراحهم، إذا كان السجن في أثناء فترة بقائهم فيه ذا مساحة ملائمة، وكانوا ينعمون فيه ببعض الخصوصية والتحكم في مستوى الضوضاء الذي يتعرضون له، وكان مستوى النظافة الصحية مناسبًا، وكان هناك عدد معين من البرامج والأنشطة الهادفة.
لكن مع الازدحام الشديد، واشتراك السجناء في الزنزانات، والافتقار إلى التحكم في الظروف المادية، وحالة الخمول المفروضة على السجناء، يتعرض عدد أكبر منهم للصدمات، ويعانون من الانهيارات النفسية، وينتحرون. والصدمات، التي يعاني منها السجناء خلف القضبان، تُذكرهم أو تحيي فيهم الصدمات العديدة التي تعرضوا لها في مراحل مبكرة من حياتهم. ويجد العديد من السجناء المضطربين عقليّا صعوبة في الابتعاد عن المتاعب، وينتهي الحال بعدد كبير منهم في إحدى وحدات الحبس المشدد.
وهنا يجب طرح تساؤل: هل بناء سجون جديدة خطوة كافية للحد من الاكتظاظ وكذلك نجاح برامج التأهيل والدمج المطبقة على السجناء الجناة؟
نصت الإرشادات الصادرة عن البرلمان الأوربي بأنه:
“لطالما كان الاكتظاظ مشكلة في معظم السجون في جميع أنحاء العالم، وقد تم فحص عواقبه السلبية مرارا وتكرارا. في الواقع، لا يتعلق الأمر فقط بمساحة المعيشة لكل نزيل، وخصوصية النزلاء: إنه يعني أيضا انخفاض جودة الخدمات المقدمة لهم، لأنه يضع ضغطا على سعة السجن والموظفين.
هناك، بشكل عام، استجابتان محتملان لهذه المشكلة: زيادة قدرة السجون من خلال بناء المزيد من السجون أو توسيع السجون الموجودة، أو تقليل عدد نزلاء السجون من خلال الإصلاحات العقابية، أو العفو، أو برامج الإفراج المبكر.
على الصعيد الدولي، هناك اتفاق واسع على أن زيادة قدرة السجون ليس حلا، بمفرده، ومن ثم، فإن هناك حاجة أيضا إلى إصلاحات جنائية وإصلاحات أوسع للسجون والتي يجب ألا تقتصر على التدابير المؤقتة، مثل العفو، التي لها آثار قصيرة الأجل فقط، من أجل الحد من الاكتظاظ”
وفى رأيي المتواضع أنه بجانب أهمية بناء سجون جديدة، من المهم أيضا تعزيز برامج التأهيل والدمج داخل مراكز الإصلاح والتأهيل السجون سابقا أو خارجها، من خلال دعم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الخاصة بهذه الفئة السجناء الجناة وتمكينهم من فرص حقيقية وواقعية لعدم معاودة الجريمة مرة أخري.
ذلك حتى نخرج بأشخاص قادرين على العيش في المجتمع محترمين لنظامه القانوني، وهو ما يدفعنا الى القول، بأن البرامج التي تنفذ حاليا داخل مراكز الإصلاح والتأهيل، غير كافية، أو بمعنى أوضح، أن البرامج تقليديه تماما، لا تقع على نفس المستوي المعمول به في بلدان أخرى أقل منا بكثير في الإمكانيات والقدرات، وهنا اللوم موجه أكثر الى المجتمع منه الى المؤسسات المسئولة عن العدالة الجنائية.
وهو ما نصت عليه التوصيات الصادرة بشأن الحد من اكتظاظ السجون من قبل مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة – الحلول المقترحة مشابهة جدا لتلك المقترحة على المستوى الأوروبي، ولكنها تشمل أيضًا تطوير سياسات إصدار أحكام عادلة، وتحسين كفاءة نظام العدالة الجنائية، وضمان دعم ما بعد الإفراج وتعزيز إعادة الإدماج الاجتماعي للحد من العودة إلى الإجرام (مع ما يترتب على ذلك من تأثير “العود”، مما يؤدي إلى سجن نفس الأشخاص مرارا وتكرارا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ممدوح جمال الدين محامي ومدير مكتب ثيميس لدعم وتمكين الجناة