لم تبدأ العلاقة المعقدة – كي لا نقول المضطربة – بين الفنانة آثار الحكيم ومهنتها بمجرد تصريحها الأخير عن الاعتزال “من أجل التفرغ للعبادة”. ولا حتى بانقطاعها العملي عن المهنة منذ آخر أدوارها قبل 13 عاما.
فعلى الرغم من تمتع “آثار” بكثير مما تحسدها عليه كثير من الفنانات، أي الملامح الجميلة، والموهبة، وخفة الظل، والقبول الجماهيري، وهي خواص ساعدتها في النجاح منذ سن صغيرة في أدوار شديدة التنوع والاختلاف، بين الكوميديا في “بطل من ورق” والرومانسية في “الحب فوق هضبة الهرم” والأكشن في “النمر والأنثى”، والسينما الفلسفية في “البحث عن سيد مرزوق”، فضلا عن نجاح تليفزيوني لا يقل عن السينما، كما في دور زهرة في “ليالي الحلمية” ودور عايدة في “زيزينيا”، فإن تاريخ علاقتها المضطربة بمهنتها امتد طوال معظم هذا المشوار الفني المهم، من انتقاداتها اللاذعة لفيلم داوود عبد السيد “البحث عن سيد مرزوق” الذي حسب قولها آنذاك “لم تفهم منه شيئا”، إلى اعتذارها عن استكمال دورها شديد النجاح في “ليالي الحلمية” لتستكمله النجمة إلهام شاهين، وهو ذات ما فعلته بالاعتذار عن استكمال مسلسل “زيزينيا”، ليذهب دور عايدة في الجزء الثاني إلى النجمة هالة صدقي.
وقد تنوعت أسباب هذه الاعتذارات والتوقفات التي قدمتها آثار طيلة مشوارها، والتي لم تكن مقنعة أو مستقرة، مما أدى إلى هذا المشوار المضطرب – رغم محطاته الناجحة- وصولا إلى اعتزال مبكر نسبيا، فهي اليوم في النصف الأول من الستينيات لكنها توقفت عمليا في سن الخمسين، وهي اليوم إذ تقول إنها قد انتوت “التفرغ للعبادة”، فليس من المستغرب أن يحقق هذا التصريح الصدى الأكبر وسط تصريحاتها في السنوات الأخيرة عن أسباب توقفها، لما فيه من تماس مع سؤال اجتماعي/ ديني/ ثقافي متكرر في قلب صراع الهوية الاجتماعية المصرية الحديثة، وهي إن صرحت قبل سنوات أنها قررت اتباع خطى الفنانة شادية في الابتعاد عن الأضواء والفن والإعلام، وإنها في الوقت نفسه “لا تفكر في ارتداء الحجاب”، فإنها، بقصد أو دون قصد، عبّرت عن القلق والحيرة اللذين يهيمنان على الشخصية المصرية تجاه الفن، بعد أن امتزجت أفكار التشدد الديني بالحب الفطري الذي يكنه المصريون للفنون بمختلف أنواعها.
فأنتج هذا المزيج تلك الشخصية المترددة، التي لا تستطيع أن تمنع نفسها تماما عن حب الفن والحياة لكنها تشعر بالذنب وتنتظر طوال عمرها اللحظة المناسبة للتكفير عنه، قد تأتي تلك اللحظة مبكرا للغاية في مقتبل حياة فنان لم يخط كثيرا في مشواره بعد، وقد “يصمد” فنان آخر إلى لحظات أبعد، وقد يؤدي هذا “الصمود” إلى رد فعل عكسي في لحظة الاعتزال، يتمثل في “تبرؤ” مبالغ فيه من مشواره الفني، وهجوم شديد على الوسط الفني يصوّره فيه كحفنة من الشياطين، وقد ينزع فنان آخر إلى التعبير كل حين عن رغبته في الوصول إلى لحظة “الهداية”، بينما، في حالات نادرة، يتوقف أحدهم عن العمل في صمت، وحين يُسأل، يقول كنا قالت آثار إنه ينوي “التفرغ للعبادة”.
ومن نافلة القول إننا لا نسمع أن طبيبا أو مهندسا أو رياضيا قد قرر ترك مهنته من أجل “التفرغ للعبادة”، وإن مثل ذلك التعبير أقرب إلى حال من يريد “التوبة” أكثر ممن يريد الراحة، خصوصا إن “التفرغ للعبادة” ليس أمرا محبذا على الإطلاق على الأقل في الدين الإسلامي، الذي يحمل تقديرا خاصا للمؤمن العامل المجتهد “العرقان”، ويفضّله بلا شك على المؤمن المتفرغ الذي لا يغادر المسجد. لكننا نعرف كذلك أن ثمة مشكلات كبرى في العلاقة بين الفن كمفهوم ومهنة ومعنى، وبين ثقافتنا الإسلامية، وهي مشكلات ليس أثرها الوحيد اعتزال آثار.