بينما كانت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن ترتب أوراقها بعد وصولها إلى “البيت الأبيض” قبل عام على أساس أن المنافسة الرئيسية على الساحة الدولية ستكون مع الصين ونفوذها الدولي والتجاري المتنامي وسعيها لترسيخ سيطرتها على هونج كونج وتايوان. تدهورت الأوضاع سريعا في مواجهة العدو التقليدي على مدى عقود، روسيا أو الاتحاد السوفييتي السابق، مع قيام الرئيس الروسي العتيد فلاديمير بوتين بنشر ما يزيد على مائة ألف جندي من ثلاثة اتجاهات على الحدود مع جارته أوكرانيا التي تتلقى دعما عسكريا أمريكيا. وأعربت عن رغبتها في الانضمام لحلف الناتو. وكان قد سبق لبوتين غزو شرق أوكرانيا، إحدى جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، في 2014 وتم ضم جزء من أراضيها لروسيا، وهو ما ترتب عليه مجموعة من العقوبات الدولية والأمريكية التي ما تزال سارية حتى الآن.
بعد الفوز المفاجئ للرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب في 2016، تحسنت العلاقات نسبيا مع واشنطن، ولكن مؤسسات “الدولة العميقة” التي تم بناؤها على أسس قواعد الحرب الباردة والمواجهة الأمريكية مع الاتحاد السوفييتي السابق، منعته من تقديم تنازلات أمريكية حقيقية لبوتين الذي لعبت أجهزة مخابراته دورا في دعم حملة ترامب الانتخابية. نفس الاتهامات رددها الديمقراطيون عند منافسة ترامب لبايدن في انتخابات نوفمبر 2020، وعندما انتهى الأمر بهزيمة ترامب مع كل ما صاحب ذلك من جدل على الساحة الداخلية الأمريكية واتهامه للديمقراطيين بتزوير النتيجة واقتحام أنصاره اليمينيين المتطرفين لمبنى الكونجرس لمنع إقرار النتيجة، عادت العلاقات للتدهور بين واشنطن وموسكو، وبلغت حد وصف بايدن للرئيس الروسي بوتين بأنه “قاتل”. وذلك بعد اتهام أجهزة المخابرات الروسية، للمرة الثالثة، بمحاولة قتل أحد معارضيها في الخارج باستخدام سموم متطورة للغاية.
لم يمنع هذا الاتهام بايدن من عقد لقاء مباشر ووحيد مع بوتين في جنيف صيف العام الماضي، وإجراء عدة مكالمات هاتفية وعبر الفيديو في الأسابيع الأخيرة مع الرئيس الروسي مع تصاعد أزمة أوكرانيا في محاولة لحل الخلاف من خلال الحوار المباشر بين الرئيسين.
وفور أن تواردت التقارير عن زيادة أعداد القوات الروسية على حدود أوكرانيا، سارعت واشنطن في حشد الحلفاء والأصدقاء الأوروبيين وحلف الناتو في مواجهة موسكو، والتحذير من أن إقدام بوتين على غزو أوكرانيا مجددا سيترتب عليه عقوبات لم يسبق لها مثيل، قد تصل إلى حد وقف مشروع “نورد ستريم” المربح لتصدير الغاز الروسي إلى ألمانيا ومنها لبقية أوروبا. وكذلك إخراجها من نظام “سويفت” للتعامل البنكي الدولي. وهو ما يعني عمليا حرمان روسيا من التعاملات المالية الدولية مع بقية دول العالم، وكذلك فرض حظر على تصدير كافة أنواع المعدات والتكنولوجيا إليها، سواء المتعلقة بالأسلحة أو كافة أنواع الصناعات الأخرى.
لا أحد في واشنطن يتحدث عن إرسال قوات أمريكية لنجدة أوكرانيا بالطبع أو حرب نووية، ولكن التأكيد هو أن العقوبات الأمريكية والأوروبية ستكون قاسية وفعالة.
الحديث عاد سريعا في وسائل الإعلام الأمريكية والدولية عن حرب باردة جديدة. شبيهة بتلك التي ميزت العلاقات بين أمريكا وروسيا في أعقاب الثورة الشيوعية وإنشاء الاتحاد السوفييتي في 1917، مرورا بترتيبات مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945 وتقسيم العالم إلى دول تدور في فلك أمريكا الرأسمالية. مقابل دول أخرى تدور في فلك الاتحاد السوفييتي الشيوعي وترفع شعارات الاشتراكية ومواجهة الإمبريالية. كل هذه الترتيبات انهارت في 1991 بعد تفكك إمبراطورية الاتحاد السوفييتي الشاسعة، وتقسيم أراضيه إلى عدة دول، واختفاء كتلة دول أوروبا الشرقية (حلف وارسو) المؤيدة له.
وأعلن الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الأب أن مرحلة جديدة من تاريخ العالم قد بدأت تكون الهيمنة فيها للولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة. بينما توافدت كل دول أوروبا الشرقية، وجمهوريات في الاتحاد السوفييتي السابق إلى طلب الانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، بما في ذلك دول يربطها عداء تاريخي وانعدام للثقة مع روسيا مثل بولندا والمجر والتشيك. في محاصرة عملية لموسكو ورسالة واضحة أنه لن يسمح لها بمد نفوذها خارج حدودها من جديد.
المحللون الأمريكيون يرون أن تلك المرحلة مثلت إهانة شخصية وخلقت مرارة لدى الرئيس بوتين الذي كان يعمل ضابطا رفيعا للمخابرات السوفييتية في ألمانيا الشرقية السابقة في ذلك الوقت. وأنه ومنذ توليه منصبه في 1999 يسعى لمحو تلك الإهانة واستعادة نفوذ الاتحاد السوفييتي السابق، حتى لو لم يتمكن من استعادة أراضيه السابقة كاملة.
ترتيبات مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي تحولت عمليا إلى حصار لروسيا وحرمانها من مناطق كانت تعتبرها بمثابة فناء خلفي لها ومناطق نفوذ. وقامت الولايات المتحدة بنشر قوات ومعدات في مناطق كانت تعتبر بمثابة خطوط حمراء في مرحلة الحرب الباردة والتي كانت المواجهة تتصاعد فيها أحيانا إلى حد التهديد باستخدام الأسلحة النووية بين الدولتين العظميين.
انشغال الولايات المتحدة بحروب الهيمنة والغزو والاحتلال الفاشلة التي خاضتها في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 في واشنطن ونيويورك، وقرار جورج بوش الابن بإرسال ما يزيد على نصف مليون جندي أمريكي إلى منطقة الشرق الأوسط لغزو واحتلال أفغانستان أولا، ثم العراق التي لم يكن لها أي علاقة او ارتباط بهجمات سبتمبر، دفعت الأمور نحو استعادة تدريجية لدور ونفوذ روسيا السابق في ظل قيادة بوتين، الذي تمكن كذلك من ترسيخ وضعه على الصعيد الداخلي وتأكيد وضعه كرئيس للأبد بعد أن تخلى عن حيل لم تنطلِ على أحد في العالم بتعيين رئيس مؤقت مكانه (ميدفيدف) بينما يكتفي هو بمنصب رئيس الوزراء لفترة مؤقتة قبل أن يعود مجددا للكرملين.
فوز أوباما بانتخابات الرئاسة في 2008، وإدراك غالبية الأمريكيين أنهم خاضوا حروبا فاشلة في أفغانستان والعراق، كانت بداية دورة انعزالية جديدة في تاريخ الولايات المتحدة وتجاربها في خوض مغامرات عسكرية خارجية كما كان الحال في فيتنام وقبلها كوريا الجنوبية والفلبين. بدأ أوباما في سحب تدريجي للقوات الأمريكية من الشرق الأوسط، وهو أمر استمر فيه ترامب رغم كل خلافاته مع سلفه، بل وزاد عليه رغبته في إجبار حلفاء أمريكا التقليديين، بما في ذلك اليابان وكوريا الجنوبية والسعودية. بل والأوربيين. على دفع تكاليف استمرار بقاء قوات الأمريكية على أراضيها، والموجودة هناك منذ زمن نهاية الحرب العالمية الثانية في إطار تنصيب أمريكا لنفسها قائدة للعالم الغربي منذ تلك الفترة. تزامن ذلك الانسحاب الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط والتوجه نحو الانعزال في الداخل مع موجة ما يسمى بثورات الربيع العربي وما تلاها من فوضى وحروب أهلية في عدة دول عربية في عام 2011. وهو ما فتح مجالا إضافيا لروسيا بوتين لتوسيع نفوذها الخارجي وليصبح لقواتها موطئ قدم في مياه الشرق الأوسط الدافئة عبر دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد بالآلاف من الجنود الروس والحصول على قواعد عسكرية دائمة، بل والتوسع للوصول إلى ليبيا ومناطق أخرى عديدة، إما بشكل مباشر وإما عن طريق قوات مرتزقة شركة فاجنر الروسية.
ولكن الحرب الباردة التي امتدت نحو خمسة عقود كانت ثنائية الأقطاب، بين أمريكا والاتحاد السوفييتي السابق، بينما الآن العالم متعدد الأقطاب والقوى، بانضمام الصين وبروز الاتحاد الأوروبي وكذلك اليابان والهند. كما أن البعد الأيديولوجي غائب عن المواجهة بين القوى العظمى المتنافسة في العالم، ولم يعد هناك فكر رأسمالي في مواجهة فكر شيوعي، بل الأغلب صراع بين قوميات وعرقيات وإمبراطوريات بائدة. فبوتين يحلم باستعادة الإمبراطورية الروسية أولا وقبل كل شيء، ولم تعد هناك اشتراكية أممية أو منح ومعونات سخية تقدمها موسكو لمنافسة المعونات والأسلحة الأمريكية، بل مصالح ومبيعات أسلحة روسية ومقايضات للحصول على قواعد عسكرية. وهذا هو نفس النهج الصيني في التوسع والنفوذ الخارجي، حيث تغيب الأيديولوجيا مقابل تغليب المصالح الاقتصادية، وربما يكون هذا النموذج الأكثر جاذبية للعديد من دول العالم الثالث التي لم تنجح في جذب الاهتمام الأمريكي أو الروسي.
ما يرغب بوتين في إنهائه، وفقا للمحللين الأمريكيين، هو إنهاء ترتيبات مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة والتي أهانت روسيا، والاتفاق على قواعد جديدة للنظام الدولي في ظل الفوضى القائمة حاليا. ونقطة البداية هي تعهد واضح من الأمريكيين والأوروبيين أنه لن يتم ضم أوكرانيا لحلف الناتو، أو نشر قوات تابعة للحلف في أي من الدول التي لها حدود مشتركة مع روسيا. وكان هذا هو الموقف الروسي في سلسلة المفاوضات المكثفة الأسبوع الحالي في عدة عواصم أوروبية، بين الأمريكيين والروس بشكل مباشر في جنيف، ولاحقا بين الروس وحلف الناتو في بروكسل ثم مع دول منظمة الأمن والتعاون الأوروبي في فيينا، بمشاركة أوكرانيا.
رفضت الولايات المتحدة بشكل قاطع المطالب الروسية وأصرت رئيسة الوفد الأمريكي في المفاوضات أن حلف الناتو لن يغلق أبوابه أمام أي دولة تريد الانضمام إليه، وأن كل ما يمكن التفاوض عليه هو مواقع نشر الأسلحة في الدول المحيطة لروسيا إلى جانب العودة لمفاوضات الحد من الأسلحة النووية ومعاهدات منع انتشار الأسلحة التي كان ترامب قد اتخذ قرارا بالانسحاب منها.
في نفس الوقت، يبقي الأمريكيون والأوربيون في حالة شك وقلق من نوايا بوتين، وهل سيقوم بالفعل بغزو أوكرانيا اعتمادا على انشغال إدارة بايدن بقضايا عالمية وداخلية عديدة مثل التعامل مع تفشي وباء كوفيد-19 والمنافسة مع الصين وحالة المواجهة التي لا تنتهي مع الجمهوريين على الصعيد الداخلي من أجل تمرير قوانين وإصلاحات اقتصادية واجتماعية، أم أنه يرغب فقط في تحسين شروط ترتيبات مرحلة نهاية الحرب الباردة والحصول على إقرار من الأمريكيين والأوروبيين أن روسيا قد عادت بقوة ولم تعد تقبل بوضع الدولة العظمى الوحيدة في العالم بقيادة واشنطن؟
يقول المحللون العسكريون الأمريكيون إن الوقت الحالي هو الأكثر مناسبة للبدء في غزو أوكرانيا لو أراد بوتين ذلك، حيث إن موسم الشتاء سيسمح للدبابات والأسلحة الروسية المختلفة بالتقدم نحو الأراضي الأوكرانية.
أما بحلول شهر أبريل المقبل، فسيذوب الجليد ويحل مكانه الطمي والوحل. وبالتالي سيصبح من الصعب عمليا شن حرب روسية. وحتى يحدد بوتين قراره من مخبئه المنعزل خشية الإصابة بفيروس كورونا، وحيث يخضع كل من يلتقونه لاختبارات مكثفة وفترات عزل، يبدو الرئيس بايدن وحلفاؤه الأوروبيين في موقف أضعف في عالم يسوده الفوضى أكثر من الخطوط والمعايير الواضحة التي كانت سائدة في فترة الحرب الباردة والمواجهة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي.