من المعروف أن جائزة نوبل للسلام هي الوحيدة من بين ست جوائز تُمنح وتُجرى مراسم الاحتفال بتسليمها خارج السويد، في أوسلو، بناء على رغبة صريحة لألفريد نوبل. حيث كانت النرويج آنذاك جزءًا من المملكة السويدية. كان أول الحاصلين عليها من أفريقيا المناضل الجنوب أفريقي الكبير ألبرت ليثولي عام 1960. وفي العاشر من ديسمبر 2019 سجلت يد القدر اسم رئيس الوزراء الأثيوبي الشاب آبي أحمد في نفس السجل الذي خلد أبناء أفريقيا العظام أمثال ديزموند توتو ونيلسون مانديلا ووانجاري ماثاي.
تسلم آبي جائزة نوبل للسلام في قاعة مدينة أوسلو تقديرا لجهوده في حل النزاع مع إريتريا. وقف الرجل مزهوا يخاطب الحضور بلغة كانت مؤثرة في بعض الأحيان قائلا: “أقبل هذه الجائزة نيابة عن الإثيوبيين والإريتريين، وخاصة أولئك الذين قدموا أقصى التضحيات”. واسترجع الرجل ماضيه حينما كان جنديا على خط المواجهة وقت اندلاع الحرب مؤكدا “لقد كنت هناك وعدت. رأيت إخوة يذبحون إخوانهم في ساحة المعركة”.
ومما يثير التعجب والاستغراب لاحقا أن آبي أحمد قال في أوسلو: “الحرب هي صورة مصغرة عن الجحيم”. على أنه لم ينتظر كثيرا حيث ذهب هو نفسه بعد عام واحد فقط إلى الحرب مع غلاة الأمهرة ورفيقه الإريتري أفورقي ليقاتل أخوة له. ولعل ذلك هو ما دفع لجنة مقدرة من خبراء عالميين إلى اختياره هو نفسه ليفوز من العاصمة النرويجية، ولكن هذه المرة في غيابه بلقب “أسوأ رئيس حكومة في العالم” لعام 2021. وقد نشرت الصحيفة اليومية النرويجية مورجينبلاديت مقالا عددت فيه حيثيات هذا الاختيار.
يبدو أن الاختيار المتسرع لهذا الزعيم الشاب الذي لم يمض على حكمه سوى عام واحد في ذلك الوقت قد أثار دهشة بعض الحكماء والكتاب. عندما تسلم آبي الجائزة في أوسلو ، كانت ليز راكنر، أستاذة العلوم السياسية وعضو في لجنة خبراء مورجنبلاديت (الصحيفة النرويجية) التي تمنح سنويا لقب أسوأ رئيس دولة في العام، تجلس في القاعة. على الرغم من أنها لم تكن تعرفه، إلا أنها لم تعتقد أنه بدا سعيدا بما يكفي. لقد صار الموضوع كله أشبه بنكتة عابرة. في محادثة مازحة مع بعض الحضور الذين كانوا في حفل توزيع الجوائز، تساءلت الأستاذة عما إذا كنا أمام أوباما آخر: وهو ما يعني حصول شخص على جائزة نوبل في الوقت الخطأ تمامًا.
آبي أحمد وصناعة الديكتاتور
يقدم لنا فرانك ديكوتر في كتابه “كيف تكون ديكتاتورا: عبادة الشخصية” صورة عامة لشخصية الديكتاتور من خلال دراسة ثمانية نماذج هي: موسوليني وهتلر وستالين وماو تسي تونغ وكيم إيل سونغ ودوفالييه من هايتي ونيكولاي تشاوشيسكو الروماني ومنغستو هايلي ماريام من إثيوبيا.
يولد الدكتاتور في حالة من الغموض، محبطًا في شبابه، يصل إلى السلطة بمحض الصدفة أو المحسوبية أو أي شيء باستثناء الجدارة، ليتحول بعدها إلى حاكم مستبد، في حاجة ماسة إلى الاحترام والإعجاب اللذين ينتزعهما من الجمهور بالاحتيال والتلاعب. غالبا ما يتظاهر بالتواضع، وسرعان ما يخلق لنفسه حالة من المهابة تصل حد التقديس. يشعر الجميع -رجالا ونساء- أنهم يتوارون في حضرته وكأنه الشمس الوحيدة الساطعة؛ تلاميذ المدارس يتغنون بأمجاد باني الأمة؛ الفنانون والكتاب يسبحون بحمد القائد العظيم.
على الرغم من أن الديكتاتوريين غالبًا ما يتوهمون أنهم كتّاب أو فلاسفة، إلا أنهم يفشلون في الارتقاء إلى مصاف المثقف الحقيقي، والكتب التي يؤلفوها هي تزييف. إذا كانوا من أهل اليسار (بالمعني الأيديولوجي)، فإن محاولاتهم للإصلاح الجذري تجلب المجاعة والمعاناة للسكان. أما إذا كانوا من أهل اليمين، فإنهم يخوضون الحرب لتحقيق طموحاتهم، مع نفس عواقب المعاناة الشعبية، ويقودون الأمة إلى هزيمة مخزية. يتوقون إلى الشهرة والمجد، ويبذلون جهدًا كبيرًا في خلق هذا الوهم، لكن كل هذا مزيف. إنهم محاطون بالمتملقين، وهم بلا أصدقاء، يعانون الوحدة ومصابون بجنون العظمة.
على الرغم من هذه الصورة الجماعية التي رسمها ديكوتر للديكتاتور. إلا أن هناك اختلافات في الأسلوب. لكل واحد منهم شخصيته المتميزة. سمح ستالين بتسمية الشوارع والمدن باسمه، بينما لم يسمح ماو بذلك. كان هتلر لا يشرب الكحول، بينما كان دوفالييه يؤمن بالسحر والتنجيم. ويعد تمثال كيم إل سونغ الذي شيد سنة 1972م والمضاء بالكامل فوق بيونغ يانغ ، اتباعا لتقليد تماثيل ستالين.
لكن هتلر اعترض على بناء تماثيل لنفسه، معتقدًا أن هذا التكريم يجب أن يقتصر على الشخصيات التاريخية العظيمة، وشعر تشاوشيسكو ودوفالييه بنفس الشيء. ارتدى بعض الديكتاتوريين زيا موحدا، بينما لم يفعل ذلك البعض الآخر. برع موسوليني وهتلر في فن الخطابة، بينما كان ستالين متحدثًا غير لبق، إذ لم يخاطب أي تجمعات جماهيرية أبدًا. كان ستالين وماو ودوفالييه يكتبون الشعر، بينما كان هتلر يهوى الرسم ويعزف موسوليني على الكمان.
يبدو أن آبي أحمد قدم لنا صورة أخرى للدكتاتور، وإن بدت مغايرة لصورة منغستو التي وردت في كتاب فرانك ديكوتر. كان لدى آبي البالغ من العمر 41 عاما أحلام وطموحات لحقبة جديدة عندما تولى منصب رئيس وزراء إثيوبيا في عام 2018. إنه من أتباع الكنيسة الخمسينية وهو محارب سابق ضد نظام الدرغ القمعي عندما كان في سن الرابعة عشر من عمره. بعد هزيمة الديكتاتورية العسكرية، واصل حياته المهنية في الجيش.
كان تخصصه في مجال الاستخبارات، وفي عام 2006 ساعد في تأسيس وكالة أمن شبكة المعلومات في البلاد، والتي كانت تتجسس على المعارضين والصحفيين وأحزاب المعارضة. عندما اشتغل آبي بالسياسة فيما بعد، كان طريقه الوظيفي وعرا. قام بالتوسط في تسوية النزاعات، وحارب عمليات الاستيلاء على الأراضي، ثم عُين وزيرا للعلوم والتكنولوجيا. قبل انتخابات عام 2018 ، ظهر آبي أحمد على أنه نصف سياسي ونصف مسيح – سواء في بلده أو بين الشتات الإثيوبي وفي الغرب. وهي الظاهرة التي أطلق عليها الإعلام اسم “آبي مانيا” ، إنها حالة أشبه بالهوس الديني. ولعل ذلك يذكرنا بوصف فرانك ديكوتر أن الديكتاتور يسعى إلى خلق هالة من القداسة حول شخصه.
حاول أن يحقق أهدافه السياسية من خلال الإصلاحات السياسية الشاملة: يبدو أنه يقرأ من نفس النص المرجعي لصناعة الديكتاتور، فقام بتأليف إنجيل العهد الجديد الذي بشر به وأسماه “مديمر”، أي التضامن بالأمهرية. حيث يسعى لأن يكون قوة موحدة لأكثر من 90 عرقية في البلاد، وأن يجعل التنوع قوة.
وُلد آبي لأم مسيحية وأب مسلم، وهو من الأورومو (أكبر الجماعات العرقية من حيث عدد السكان في إثيوبيا) ومتزوج من الأمهرة (ثاني أكبر مجموعة عرقية). قدم آبي أحمد نفسه باعتباره رئيس الحكومة الذي يستطيع فعل المستحيل وتحقيق معادلة صفر مشاكل. مباشرة بعد انتخابات 2018، أطلق آبي سراح الآلاف من السجناء السياسيين، وأطلق العنان لوسائل الإعلام المستقلة، وتخلص من نزاع مجمد استمر عشرين عامًا مع إريتريا المجاورة، من خلال اتفاق سلام تاريخي. ولهذا توج بجائزة نوبل للسلام في عام 2019. وقالت لجنة نوبل في ذلك الوقت إن آبي يستحق التقدير والتشجيع.
كشف المستور
تقول اللجنة التي منحت آبي أحمد جائزة أسوأ رئيس حكومة لعام 2021 أنه خلف ستار نوبل، اتضح أن التقدم الاقتصادي والسياسي في إثيوبيا انحرف عن مساره الصحيح.
تحت السطح، استمرت الصراعات العرقية في الظهور. أصبحت لعبة شد الحبل القديمة على الأرض والنفوذ والحكم الذاتي عنيفة بشكل متزايد. عادت الاغتيالات إلى الظهور كأسلحة سياسية. قُتل رئيس أركان الجيش وحاكم منطقة أمهرة في الليلة نفسها في صيف عام 2019.
وفي العام التالي، لقي الموسيقي الشهير من الأورومو هاشالو هونديسا نفس المصير. وقتل أكثر من 200 شخص في المظاهرات التي أعقبت ذلك. ورد آبي بنفس الأساليب المألوفة: اعتقالات جماعية وقطع الإنترنت.
في الوقت نفسه، قام آبي أحمد بتحويل ائتلافه السياسي، الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية، إلى حزب الازدهار. كما تم دفع القوة المهيمنة السابقة في التحالف، الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي، إلى الهامش. إنها جبهة تحرير التيغراي التي أصبحت حزبًا سياسيًا ووضعت أسس السياسة الإثيوبية لمدة 27 عامًا. لم تجد الجبهة أمامها من خيار سوى الانسحاب إلى منطقتهم الإقليمية في شمال البلاد ورفض المشاركة في تحقيق رؤية آبي.
في خريف 2020، أرجأ آبي أحمد الانتخابات الوطنية بسبب جائحة كورونا. وفي منطقة تيغراي، كان يُنظر إلى الأساس المنطقي الذي استند إليه على أنه ذريعة للسماح له بتعزيز سلطته. نظمت جبهة التيغراي انتخابات إقليمية في 9 سبتمبر 2020. بيد أنه لم يتم الاعتراف بنتيجة الانتخابات من قبل الحكومة الفيدرالية. كإجراء عقابي، فقدت منطقة التيغراي التحويلات المالية من الدولة.
كانت القوة السياسية والاقتصادية المستمرة للجبهة الشعبية لتحرير التيغري بمثابة شوكة في ظهر رئيس الوزراء آبي. وعليه فإن اتفاقية السلام المفاجئة مع إريتريا، والتي كانت تقليديًا العدو اللدود لجبهة تحرير تيغراي، جعلت أهالي تيغراي يشعرون بالتهديد من الدولة المجاورة في الشمال ومن العاصمة أديس أبابا في الجنوب. وعندما نشر آبي قوات حكومية على طول الحدود مع منطقة تيغراي في صيف 2020، تمت مهاجمة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي وطردها من العاصمة الاقليمية. قال رئيس الوزراء إن جنوده استعادوا بسرعة القانون والنظام. كما شارك جنود من إريتريا لدعم آبي، وكذلك فعلت القوات الخاصة من منطقة أمهرة المجاورة. في أوائل نوفمبر 2020 ، كانت الحرب الأهلية في إثيوبيا حقيقة ماثلة للعيان.
راسبوتين والخديعة الكبرى
في الآونة الأخيرة، نشرت صحيفة نيويورك تايمز مؤشرات قوية تؤكد أن الحرب في التيغراي لم تكن “حربًا مفروضة”، كما ادعى آبي أحمد، ولكنها كانت “حربا متعمدة” مخطط لها حتى قبل أن يصبح رئيس وزراء إثيوبيا “أيقونة اللاعنف” من خلال جائزة نوبل للسلام كما كتبت الصحيفة. لقد تعاون آبي مع راسبوتين القرن الأفريقي، الرئيس الإريتري أسياس أفورقي لمهاجمة الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي، عدوهما المشترك. إن ما تم الكشف عنه هنا هو أن آبي تآمر مع دولة أخرى لمهاجمة شعبه.
وقد اعترف أسياس أفورقي في مقابلة أجريت هذا الشهر يناير 2022 أن جبهة التيغراي تمثل خطرا على أمن أريتريا وأن بلاده ليست بحاجة إلى إذن من أحد للتدخل لمساعدة أثيوبيا. بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك حيث انتقد صيغة الفيدرالية العرقية المنصوص عليها في الدستور الأثيوبي وأنه لا مناص لتحقيق الوحدة سوى تحقيق رؤية آبي أحمد الخاصة بدعم مشروع أثيوبيا الموحدة.
هل يُحاسب آبي باعتباره مجرم حرب؟
وفقًا للأمم المتحدة، حاصرت حكومة آبي بشكل فعال تيغراي حتى لا تصل المساعدات الإنسانية إلى المنطقة. لكن لا يمكن لأي طرف من أطراف النزاع التذرع بالبراءة. أظهر تحقيق أجرته رويترز في أغسطس الماضي أنه عندما قامت جبهة تحرير تيغراي بهجمة مرتدة على الجيش الحكومي وتقدمت بالقرب من العاصمة، قُتل مئات المدنيين من أبناء الأمهرة ونُهبت أموالهم واغتصبت نساؤهم. قبل عيد الميلاد بقليل، أبلغت منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش عن عمليات قتل جماعي وتشريد سكان تيغراي على يد قوات أمهرة.
كما أظهرت تقديرات حذرة أن عاما من الحرب أودى حتى الآن بحياة 50 ألف مدني على الأقل في منطقة تيغراي. بالإضافة إلى ذلك، هناك زيادة في معدل الوفيات نتيجة الأمراض ونظام الرعاية الصحية المعطل. توفي مئات الآلاف من الأرواح في البلاد كنتيجة مباشرة أو غير مباشرة للحرب.
وحاليًا يعيش ما يقرب من نصف مليون شخص في تيغراي في مجاعة، بينما يوجد 5.2 مليون “في حاجة ماسة” للمساعدات الإنسانية. كما أُجبر حوالي 1.2 مليون شخص على الفرار من غرب إقليم تيغراي منذ بدء الصراع. لايزال آبي يرفض إمداد التيغراي بالبنزين والطعام والأدوية. وفي يوم واحد، طرد عدد من موظفي الأمم المتحدة يفوق ما فعله بشار الأسد خلال 10 سنوات من الحرب.
وفوق ذلك كله استخدم آبي أحمد خطابا يرمي إلى نزع الإنسانية عن التيغراي. إنها أداة كلاسيكية في مجال نظرية الإبادة الجماعية. إنه نوع من الخطاب يجعل قتل العدو بأعداد كبيرة عملا بسيطا، والقتل يكاد يكون واجبا. أشار آبي إلى إقليم التيغراي على أنه “الورم السرطاني” في البلاد، والتيغراي على أنهم “أعشاب ضارة” والجبهة الشعبية لتحرير التيغراي على أنهم “جرذان انتهى بهم الأمر بعيدا عن جحورهم”.لم يقف الأمر عند هذا الحد، حيث دعم الفائز بنوبل العنف الجنسي على ما يبدو. يقول آبي مازحا في مارس 2021: “يسألونك عن نساء تيغراي؟ هؤلاء النساء لم يغتصبهن سوى رجال، بينما جنودنا اغتصبوا بالسكاكين”. إنه أحد الأمثلة العديدة التي كان يمزح فيها آبي عن العنف الجنسي، ما أدى إلى ضحك الجمهور. لعل ذلك كله يجعل آبي أحمد فائزا جديرا بلقب أسوأ رئيس دولة في عام 2021.