لم يكن رحيل القس مكاري يونان كاهن الكنيسة المرقسية الكبرى بالأزبكية مجرد خبر في صحف الصباح. إذ لم يصمت الحديث عنه عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وكذا في أروقة الكنائس طوال الأسبوع الماضي. وهو رحيل أيقظ خلافات الطوائف المسيحية، كان الكاهن الراحل يؤمن بضرورة التقريب بينها. ذلك بصلاته مع البروتستانت وفتح بيته لخلوات الصلاة لأتباع الطوائف المختلفة، إلى الحد الذى دفع الكنيسة الإنجيلية بقصر الدوبارة إلى تنظيم حفل لتأبينه اليوم الجمعة. وقد تحدث القس سامح موريس راعي الكنيسة -خلال هذا الحفل – عن فضائل القس الراحل، الذي شغلت عظاته الدنيا وظل أحد أشهر الكهنة الأرثوذكس طوال العقود الثلاثة الماضية.
مكاري يونان.. الكاهن الأكثر شعبوية بين صفوف المسيحيين
القس يونان بدأ خدمته الكهنوتية بدعوة من الأنبا ميخائيل مطران أسيوط الراحل المعلم، الذي جاء من دير الأنبا مقار بوادي النطرون، متمسكًا بتعاليمه الآبائية وبالرهبنة القبطية الأصيلة. تلك التعاليم التي كانت قضية التقارب مع الطوائف المسيحية أبرز معالمها. فلم يكن القس يونان غريبًا عن تلك المدرسة الفكرية التي غابت عن الكنائس الأرثوذكسية طوال العقود الماضية، لصالح تعاليم أكثر تقليدية تُعلي من العقيدة الأرثوذكسية وتنتقص من عقائد الآخرين. وهو أمر ظهر جليًا في قضية قبول معمودية الكاثوليك. حيث أكد القس الراحل أن الكنيسة الأرثوذكسية سلمته تعاليم الآباء الأوائل. وهي تقبل معمودية الكاثوليك. وقد أعلن ذلك متحديًا تيار جارف من آباء المجمع المقدس، الذين تصدوا لهذا التحرك أثناء زيارة بابا الفاتيكان إلى مصر منذ سنوات.
لماذا اختلف مكاري يونان مع الكثير من القيادات الكنسية؟
اختلف القس مكاري يونان مع الأنبا ميخائيل، واضطر بعدها إلى مغادرة أسيوط ليخدم في القاهرة. إلا أن القس مكاري اتسم بشجاعة لافتة في الإعلان عن مواقفه تلك فوق منبر الكنيسة المرقسية بالأزبكية. إذ لم يخشى صقور الكنيسة ولم يرهبه إبعاده كنسيًا، مدعومًا بشعبية جارفة بين صفوف المسيحيين من كافة الطوائف.
كان اجتماعه الأسبوعي في الأزبكية يكتظ بمئات المسيحيين، يتابعون في لهج شديد ما يقوله. حيث كان ينادي دائمًا بالتوبة وبالملكوت. حتى إن عظاته تلك كانت تنتج كشرائط لم يخل منها بيت قبطي في الثمانينيات من القرن الماضي. وكأنها توازي شرائط الشيخ كشك التي لاقت قبولاً واسعًا لدى المسلمين في تلك الفترة.
أما ترانيمه بلهجته الصعيدية تلك، فقد كانت تسمع بشكل لافت في كافة البيوت المسيحية. ذلك دون النظر إلى طائفة معينة. وأشهر ما عرف به القس مكاري هو ما يسمى بموهبة إخراج الشياطين. الأمر الذى منحه شعبية أخرى لدى صفوف المسلمين، الذين كانوا يتسابقون لحضور اجتماعه رغبة في الشفاء من تلك الآلام.
“موهبة” إخراج الشياطين
موهبة إخراج الشياطين منحت القس مكاري رصيدًا شعبويًا تزايد بمرور الزمن. إذ كانت فرصة يعلن من خلالها اسم المسيح أمام الجميع وحتى بين صفوف المسلمين في كافة أنحاء القطر وخارجه. وقد استغل في ذلك أن الراغبين في حضور اجتماعه كانوا يتزاحمون إلى الحد الذي يعطل المرور في شارع كلوت بك المؤدي إلى الكنيسة.
ومع ذلك، لم تخل حياة القس مكاري يونان من صراعات مع قيادات الكنيسة القبطية في العقود الماضية، في ظل استشهاده بالكثير من تعاليم وأقوال القمص متى المسكين في صراعه الشهير مع البابا شنودة. حتى إن الأنبا بيشوي سكرتير المجمع المقدس الراحل قال في أحد عظاته إن القس مكاري يونان قد تمت رسامته في أسيوط دون الحصول على إذن البابا شنودة. وتنبأ البابا الراحل أنه لن يكمل سنة في أسيوط، رغم إنها مليئة بالبروتستانت ومدينة مرحبة بتعاليمه. وبعدها تعرض لمحاكمة كنسية ألزم فيها بالرد على بدع البروتستانت في قضية المعمودية. لكن كان “اللي في دماغه في دماغه”، وفق تعبير الأنبا بيشوي.
أمام كل هذا الحضور الصارخ، شكلت جنازة القس مكاري يونان التي تابعها الملايين على شاشات التلفزيون سببًا جديدًا للجدل. إذ ترأسها الأنبا رافائيل أسقف كنائس وسط البلد. وكان القس الراحل يخدم تحت إشرافه رغم اختلاف وتباين المواقف. فأسقف وسط البلد يعرف عنه انتقاده اللاذع للكنائس الأخرى. بينما تشكل أفكاره وتعاليمه حائط صد ضد قضية اللاطائفية أو الوحدة بين الكنائس المسيحية. وهي القضية التي عاش القس مكاري الراحل مكرسًا حياته لها.
جنازة توقظ خلاف الطوائف المسيحية
هذا الخلاف العميق بين الرجلين ظهر في صلوات الجنازة التي خصص الأنبا رافائيل عظتها للحديث عن سر الكهنوت. وهو أحد أسرار الكنيسة الأرثوذكسية السبعة. مشددًا على أن الكهنة هم أصحاب الحل والسلطان أمام الله. وقد عبر عن ذلك بعبارة “الكهنوت عندنا أبدي، فالكاهن يقصد بها وسيط أو شفيع ويطلب من الله للشعب والكاهن له خصوصية حسب السلطان الذي أعطاني اياه الرب للبناء وليس الهدم”.
بتلك الكلمة التي ذكرت سرًا كنسيًا تتمايز به الكنائس التقليدية عن نظيرتها الكنائس المصلحة مثل البروتستانتية التي لا تعترف بسر الكهنوت، فسرها كثير من المتابعين باعتبارها رسالة موجهة لبقية الطوائف. بينما رأى آخرون أنها تخالف تعاليم القس الراحل، الذي لم يكن يعلن كل هذا السلطان الممنوح للكهنة. بينما كان متواضعًا حريصًا على إعلان اسم المسيح. حتى إنه قال كلمته الشهيرة “المسيح تاه وسط القديسين”
في الجهة المقابلة، فإن القس سامح موريس أحد أكثر القساوسة الإنجيليين شعبوية بين صفوف المسيحيين قد أقام هو الآخر حفل تأبين للقس الراحل في كنيسة قصر الدوبارة. قال عنه في حفل تأبين يوم الجمعة: انظروا إلى نهاية سيرة مرشديكم وتمثلوا بهم. كان الأب مكاري يونان محبوبًا من الجميع، وشرف لي أن يحبني لأنه الكبير سنًا ومقامًا ومحبة، وربط بيننا حلم أن نخدم المسيح سويًا، نفتقده كثيرًا بحياتنا عقب رحيله.
وأضاف موريس: الأب الراحل كان مثالاً حقيقيًا لشخص يحب المسيح، وعاش لآخر لحظة يعيش ويخدم الله، وعاش يمجد الله دائمًا، وكان دائمًا يطلب من الله أن يستطيع إكرامه طوال حياته وخدمته، وليتنا نتعلم من حياته وخدمته.
كان القس مكاري يونان يشكل علامة على عصر يموج بالتغيرات الاجتماعية والسياسية كانت الكنيسة القبطية جزءًا كبيرًا منها. بينما جاء رحيله بعد 88 عامًا قضاها في الخدمة وكأنه يرسم خطا لنهاية تلك الحقبة وبداية زمن جديد بتغييرات مختلفة.