أعاد حادث غرق أطفال أشمون خلال عودتهم الي قريتهم بسيارة نصف نقل تحمل 23 طفل وشاب تتراوح أعمارهم بين 9 سنوات و17 سنة، وبعد يوم عمل شاق في أحد مزارع الدواجن مقابل أجور تتراوح ما بين 40 جنيه و80 جنيه وقيل في بعض الصحف إنها 25 جنيه. وتم استخراج ثماني جثث للضحايا منهم سعيد سعد سعيد الطناني 13 سنة، زياد أحمد حسن 13 سنه، هاجر عبد الصمد 13 سنة، ودعاء نبيل عبد السلام 13 سنة. ليعود الحديث حول ظاهرة عمالة الأطفال وتسربهم من التعليم في ظل معدلات الفقر المتزايد والتي بلغت 29.7% في عام 2020 وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء وأكثر من 60% من السكان وفق معايير البنك الدولي لقياس الفقر.
عمالة الأطفال الفقراء
أعدت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) دراسة حول فقر الأطفال في مصر عام 2010 وقدمت الدراسة تحليلا شاملا لوضع الأطفال شمل 7.2 مليون طفل يمثلون 26% من الأطفال في مصر والمحرومين من حقوقهم في أن يكونوا أطفالا، وأن يتمتعوا بطفولتهم. (بلغ عدد الأطفال في عام 2008 حوالي 28 مليون طفل) وقالت دراسة اليونيسيف “إن النمو الاقتصادي المرتفع في السنوات الأخيرة لم يكن مساندا للفقراء والأطفال. فقد تمتعت مصر بمعدلات نمو مرتفعة منذ عام 2004، بلغت 7.2 في المائة في عام 2008، ولم يسفر معدل النمو هذا عن انخفاض متناسب في معدل الفقر الناجم عن الدخل أو الحرمان”. كما جاء بالدراسة أن ملايين الأطفال يعيشون محرومين من واحد أو أكثر من حقوقهم في أن يكونوا أطفالا. هناك أكثر من 7 ملايين طفل (واحد من كل أربعة) يعيشوا محرومين من حق واحد أو أكثر من حقوقهم في أن يكونوا أطفالا، وأن يتمتعوا بطفولتهم. فحوالي 5 ملايين طفل محرومون من أحوال سكنية ملائمة (بما فيها المأوى والمياه والصرف الصحي، وحوالي 1.6 مليون طفل عمره دون 5 سنوات يعانون الحرمان من الصحة والغذاء. (اليونيسيف – دراسة فقر الأطفال والتفاوت في مستوى معيشتهم في مصر – فبراير 2010)
كما اعتبرت منظمة العمل الدولية أن عمالة الأطفال أحد أخطر الظواهر التي تهدد المجتمع المصري فقد بلغ حجم عمالة الأطفال في مصر وفق تقديرات المنظمة نحو ما يقرب من 2.2 مليون طفل، بنسبة تصل إلى 26% من الأطفال المصريين، ووفقا لأرقام الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لسنة 2013، فإن حجم عمالة الأطفال يبلغ نحو 1.6 مليون طفل، منهم 83% يعملون في الريف مقابل 16% في المدن، وأن 46% من إجمالي هؤلاء الأطفال العاملين تتراوح أعمارهم بين 15 و 17 سنة ، وأن 78% منهم من الذكور و 21% من الإناث، وأن عدد ساعات العمل التي يقضيها هؤلاء الأطفال في العمل تتعدى أكثر من 9 ساعات يومياً في المتوسط، وأكثر من ستة أيام في الأسبوع.. أي أن عدد ساعات العمل بالنسبة للطفل قد تتجاوز عدد ساعات عمل الكبار.
ووفقا للدراسات الإحصائية الصادرة عن مركز الطفل العامل، فإن حجم عمالة الأطفال يبلغ نحو 3 مليون طفل عامل، يمثلون ثلث الشريحة العمرية الموجودة بالتعليم الأساسي، وطبقا للمسح القومي لظاهرة عمل الأطفال في مصر والصادر عن المجلس القومي للطفولة والأمومة فإن هناك ٢.٧٦ مليون طفل عامل في مصر، يمثلون حوالي ٢٦% أي أكثر من ربع الأطفال في الشريحة العمرية من ١٦:١٤ سنة. ولذلك تتفاوت التقديرات حول حجم وانتشار الظاهرة بين الأطفال في مصر رغم التقديرات التي تؤكد أن 29.7% من السكان فقراء، إلا أننا لا نزال نفتقد للمسوح الإحصائية الحديثة حول عمالة الأطفال في ظل معدلات الفقر المرتفعة.
آراء الخبراء والمختصين
على مدى السنوات الماضية نشرت عشرات الدراسة العلمية حول عمالة الأطفال إضافة إلى مئات التحقيقات الصحفية والبرامج التليفزيونية ومن بين تلك الدراسات نذكر:
- دراسة الدكتورة سحر عبد الستار إمام التي نشرت عام 2017 حول ظاهرة عمالة الأطفال في مصر في ظل قانون مكافحة الاتجار بالبشر جاء فيها “لاشك أن سوء الأحوال الاقتصادية في المجتمع المصري، وانتشار الفقر وارتفاع نسبة الأمية، تدني مستوى التعليم على اختلاف أنواعه، فضلا عن نقص الوعي المجتمعي لدى الأسر المصرية وعدم الإدراك لأهمية التعليم، وعدم الثقة في النظام التعليمي خاصة في ظل تزايد نسبة البطالة بين المتعلمين، والحاجة الماسة للمال شجع الأسر على الدفع بأبنائها في سن مبكرة للخروج لسوق العمل الذي يعد بمثابة طوق نجاه لأسرهم رغم المخاطر التي يتعرض لها الأطفال صحيا واجتماعيا ونفسيا خاصة في ظل غياب الرقابة القانونية والمجتمعية على أرباب الأعمال وعدم فاعلية القوانين القائمة وعدم كفايتها لضمان احترام حقوق الطفل”.
- كما كشفت دراسة كلية الحقوق بالاشتراك مع كلية الآداب بجامعة المنوفية أن أكثر نسبة من عمالة الأطفال تقع بين الذكور توجد في الورش الفنية (الحدادة والخراطة الميكانيكا) وقيادة المركبات الصغيرة (التوك توك)، والعمل في محلات الحلاقة والمساعدة في أعمال البناء (المناولة) بينما يتركز عمل الإناث في الحقول خاصة في مواسم الجنى والحصاد ويتم نقل الأطفال إلى هذه المزارع نقلا جماعيا غير إنساني مما يعرضهم لكثير من المخاطر، حيث يتم تجميع العشرات من الأطفال في سيارات نصف نقل مكشوفة، وحشدهم فجرا إلى المزارع بالمناطق الصحراوية التي تبعد مئات الكيلومترات عن المنوفية، مما يؤدى إلى إصابة الأطفال بالنزلات الشعبية والأمراض الصدرية، بالإضافة إلى وقوع العشرات من الحوادث التي تتكرر شهريا، ويروح ضحيتها المئات من الأطفال. (الأهرام -12 ديسمبر 2015)
تشريعات الحماية
حرص الدستور المصري لسنة 2014 على تحديد مرحلة الطفولة وذلك في نص المادة (80) بأنه يعتبر طفلا كل من لم يبلغ الثامنة عشر من عمره، ومد مظلة التعليم الأساسي حتى نهاية المرحلة الثانوية أو ما يعادلها (م 19) وأكد الدستور في المادة (80/3) على التزام الدولة برعاية الطفل وحمايته من جميع أشكال العنف والإساءة وسوء المعاملة والاستغلال الجنسي والتجاري، ونص في الفقرة الرابعة من ذات المادة على حظر تشغيل الطفل قبل تجاوزه سن إتمام التعليم الأساسي، وأضاف بأنه يحظر تشغيله في الأعمال التي تعرضه للخطر.
كما صدر قانون الطفل رقم 12 لسنة 1996 وجاء في المادة (2) من القانون فإنه يقصد بالطفل في مجال الرعاية المنصوص عليها في هذا القانون كل من لم يبلغ ثماني عشرة سنة، إلا أن المادة (59/1) من ذات القانون قصرت مرحلة التعليم الأساسي على الحلقتين الابتدائية والإعدادية دون الثانوية. ولذا فإنه يتعين تعديل هذا النص بما يتوافق مع أحكام الدستور وباقي القوانين ذات الصلة.
وأفرد المشرع في الباب الخامس فصلا كاملا (الفصل الأول المواد من 64: 69) يتناول فيه الأحكام والقواعد المنظمة لرعاية الطفل العامل (السن – طبيعة العمل- التزامات رب العمل – المكافأة أو الآجر) إذ تنص المادة 64 من القانون المذكور علي حظر تشغيل الأطفال قبل بلوغهم أربع عشرة سنة ميلادية، كما يحظر تدريبه قبل بلوغ اثنتي عشر سنة، وأجاز المشرع في الفقرة الأخيرة من ذات المادة الترخيص بتشغيل الأطفال من سن اثنتي عشرة إلى أربع عشرة سنة في أعمال موسمية مأمونة المخاطر بحيث لا تضر بصحتهم أو نموهم ولا تخل بمواظبتهم علي الدراسة، وإجازة تشغيلهم في هذه الأعمال مرهون بصدور قرار من المحافظ المختص بعد موافقة وزير التعليم، وأحال القانون للائحة التنفيذية لبيان نظام تشغيل الأطفال والظروف والشروط والأحوال التي يجوز فيها التشغيل .
ولاشك أن فتح باب الاستثناءات بالسماح بتدريب الأطفال اعتبارا من 12 سنة، يعد ثغرة يمكن أن يتسلل منها أصحاب الأعمال لتشغيلهم عند هذه السن تحت ذريعة تدريبهم لتعلم مهنة. كما أن السماح للأطفال بين 12 – 14 سنة بالاشتغال في أعمال موسمية تكون عادة في الزراعة التي لا يخضع العاملون بها صغاراً أو كباراً لأحكام قانون العمل وبالتالي لا يلتزم فيها صاحب العمل بأي قواعد في تشغيل الأطفال والتي يحدث فيها انتهاكات صارخة لحقوق الطفل.
كذلك صدر قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 المعدل بالقانون رقم 180 لسنة 2008 ويشمل:
تنص المادة (98) على أنه يعتبر طفلا- في تطبيق أحكام القانون – كل من بلغ الرابعة عشرة سنة أو تجاوز سن إتمام التعليم الأساسي ولم يبلغ ثماني عشرة سنة كاملة. ويلتزم كل صاحب عمل يستخدم طفلا دون سن السادسة عشرة بمنحه بطاقة تثبت أنه يعمل لديه وتلصق عليها صورة الطفل وتعتمد من مكتب القوى العاملة المختص.
تنص المادة (99) على أنه يحظر تشغيل الأطفال من الإناث والذكور قبل بلوغهم سن إتمام التعليم الأساسي، أو أربع عشرة سنة أيهما أكبر، ومع ذلك يجوز تدريبهم متى بلغت سنهم اثنتي عشرة سنة.
تنص المادة (100) على أنه يصدر الوزير المختص قرارا بتحديد نظام تشغيل الأطفال والظروف والشروط والأحوال التي يتم فيها التشغيل. وكذلك الأعمال والمهن والصناعات التي يحظر تشغيلهم فيها وفقا لمراحل السن المختلفة.
تنص المادة (101) على أنه يحظر تشغيل الطفل أكثر من ست ساعات يوميا، ويجب أن تتخلل ساعات العمل فترة أو أكثر لتناول الطعام والراحة لا تقل في مجموعها عن ساعة واحدة، وتحدد هذه الفترة أو الفترات بحيث لا يشتغل الطفل أكثر من أربع ساعات متصلة، ويحظر تشغيل الطفل ساعات عمل إضافية أو تشغيله في أيام الراحة الأسبوعية والعطلات الرسمية. وفي جميع الأحوال يحظر تشغيل الطفل فيما بين الساعة السابعة مساء والسابعة صباحاً.
إضافة للقانون رقم (64) لسنة 2010 بشأن مكافحة الاتجار بالبشر والذي يعتبر عمالة الأطفال نوعا من الاتجار بالبشر. كما دعت جامعة الدول العربية في 11 / 9 / 2019 الدول الأعضاء إلى اتخاذ تدابير فورية وفعالة للقضاء على عمل الأطفال وكافة الظواهر السلبية الناتجة عنه، ووضع توصيات “دراسة عمل الأطفال في الدول العربية” التي أقرتها القمة العربية الاقتصادية التنموية الاجتماعية التي عقدت في بيروت يناير 2019 موضع التنفيذ عبر خطط وبرامج واستراتيجيات وطنية.
إذا لدينا اتفاقيات دولية وقعت عليها مصر ونصوص دستورية وتشريعات تحمي حقوق الطفل ولكنها غائبة في ظل الاستغلال الرأسمالي المكثف والباحث عن تعظيم الأرباح والهروب من أنظمة العمل والتأمينات وتشغيل واستغلال أطفال مقابل أجور هزيلة وساعات عمل طويلة وشروط عمل غير لائقة لتحقيق أعلى أرباح وفي ظل غياب الرقابة الفعالة.
برامج الحكومة للمواجهة
- على صعيد التنظيم كان لدينا المجلس القومي للأمومة والطفولة وهو المسئول عن هذه الظاهرة ولكن جري تعديل قانون المجلس وأفقده الاستقلالية وجعله جهازا تابعا لوزارة الصحة. ففقدت قضية عمالة الأطفال أحد الأجهزة المسئولة عن مراقبتها والحد منها.
- نظام “تكافل” هو أحد أنظمة الحماية الاجتماعية بعد توقيع مصر الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وتفجر موجة كبيرة من غلاء الاسعار وعجز بعض الأسر عن تدبير احتياجاتها الأساسية وهو ما يرفع من نسب التسرب من التعليم. لذلك فإن البرنامج يستهدف دعم الأسر الفقيرة وتوفير دخل يدعم استمرار أطفال الأسر الفقيرة في التعليم حيث اشترط البرنامج لاستمرار الدعم اثبات حضور الأطفال 80% من أيام العام الدراسي. تبلغ قيمة معاش تكافل الأساسي 320 جنيه يضاف إليه 60 جنيه عن كل طفل قبل السن المدرسي و80 جنيه للابتدائي و100 جنيه للإعدادي و140 جنيه للثانوي. أي أن الأسرة المكونة من 4 أفراد بينهم تلميذ بالابتدائي وآخر بالإعدادي تحصل على 500 جنيه شهريا كمعاش.
تعلن وزارة التضامن الاجتماعي أن عدد مستفيدي برنامج تكافل بلغ في 15 ديسمبر 2021 حوالي 2.1 مليون أسرة أي يستفيد منه 7.5 مليون مواطن فقط منهم جزء غير مستحق ويحتاج لتنقية المستفيدين (لدينا 34.5 مليون يعيشون في فقر وفقر مدقع). بيانات الفقر في مصر تقول انه يوجد 4.5 مليون شخص يعيشون في فقر مدقع ويعجزون عن تدبير احتياجاتهم الأساسية حيث يقل دخلهم الشهري عن 550 جنيه للفرد و2200 جنيه للأسرة المكونة من 4 أفراد شهرياً وبالتالي لا يغطي برنامج تكافل سوي 22% فقط من احتياجات الأسرة الفقيرة العاجزة عن تدبير احتياجاتها الأساسية. وإذا ذهبنا إلى الأسر الفقيرة وفق خط الفقر الذي حدده جهاز التعبئة والإحصاء وهو 857 جنيه للفرد و3428 للأسرة المكونة من 4 أفراد وبذلك يكون معاش كرامة لا يغطي سوى أقل من 15% من احتياجات الأسرة الفقيرة وبالتالي لا يساهم البرنامج في خروج هذه الأسر عن خط الفقر. وإذا أضفنا لذلك الرفع الذي تم في رسوم التعليم الحكومي سيتضح لدينا سبب آخر لخروج هؤلاء الأطفال مجبرين ومضطرين للعمل.
كذلك أطلق وزير القوى العاملة، محمد سعفان، الخطة الوطنية لمكافحة أسوا أشكال عمل الأطفال في مصر ودعم الأسرة (2018-2025)، بالتعاون مع منظمة العمل الدولية. وحددت الخطة الوطنية لمكافحة أسوا أشكال عمل الأطفال في مصر ودعم الأسرة، أنه وفقا لاتفاقيتي منظمة العمل الدولية رقم 138 لسنة 1973 بشأن الحد الأدنى لسن الاستخدام ورقم 182 لسنة 1999 بشأن أسوأ أشكال العنف، يشير عمل الأطفال للعمل الذي يشمل خطرا وضررا على الأطفال من الناحية العقلية والبدنية والاجتماعية أو الأخلاقية، وأي عمل يتعارض مع دراستهم ويؤثر عليها حيث يحرمهم من الالتحاق بالمدارس ويجبرهم على ترك المدرسة.ورغم مرور أربع سنوات على إطلاق هذه الاستراتيجية إلا أنه لم تتوفر بيانات عن عدد الأطفال الذين تمت حمايتهم وعودتهم للتعليم.
نخلص من كل ما سبق إلى أن عمالة الأطفال ظاهرة وجدت وتستمر لأنها جزء من آليات الرأسمالية الساعية لتحقيق أقصى أرباح، ورغم وجود ترسانة تشريعية لحماية الأطفال إلا أنها غير مفعلة وغير رادعة لأصحاب المشروعات الذين يستغلون الأطفال الفقراء ويرفضون تشغيل الشباب العاطلين للتحايل على قوانين العمل والتأمينات. كما أن برامج الحكومة مثل تكافل لازالت قاصرة ولا تغطي إلا نسبة ضئيلة من الأسر الفقيرة المستحقة. أما برنامج حياة كريمة فلا نعرف حتى الآن نتائج عن مدى مساهمته في الحد من الظاهرة وكذلك استراتيجية وزارة القوى العاملة. إن التصدي لظاهرة عمالة الأطفال يحتاج إلى انحيازات مختلفة لصالح الفقراء ومواجهة مع المستثمرين ورجال الأعمال والحد من استغلالهم. يحتاج إلى مواجهة حقيقية للفقر ولدعم الفقراء وإخراجهم من دائرة الفقر وسياسات تعليم فعالة ومجانية. فهل تفعل الحكومة الحالية ذلك؟!