نشرت صحيفة الجارديان مقالا بعنوان “هل يمكن لإصلاح السكن أن يصلح كل شيء آخر أيضًا؟”. وذلك حول الكيفية التي يؤثر مكان المعيشة بها على وظائفنا وعائلتنا وحتى تأثيرنا على البيئة.
يعتبر المقال مسألة السكن مشكلة اجتماعية يمكن من خلالها إصلاح وحل العديد من أمراض العصر. بما فيها أمراض عدم المساواة والتلوث والظلم بين الأجيال.
يعالج المقال مسألة نقص المساكن في بريطانيا. فيذكر: “نحن لا نبني ما يكفي. والمنازل التي نبنيها غالبًا ما تكون صغيرة جدًا وفي أماكن خاطئة. وهذا يعني أن المنازل باهظة الثمن. ونتيجة لذلك علينا أن ننفق أكثر على الإيجارات والرهون العقارية. في حين أن التكاليف الحقيقية تتجاوز ذلك بكثير”.
ويشير المقال إلى أن المكان الذي نعيش فيه يؤثر على وظائفنا وعائلاتنا وبيئتنا. ومثلما يدمر التدخين كل جزء من جسمك فإن نقص المساكن يجعل كل تلك الجوانب من حياتنا أسوأ مما ينبغي أن تكون عليه.
وفي لندن يمكنك أن ترى مدى شدة النقص الحالي في المساكن بالنظر إلى الأسعار. إذ ارتفعت تكلفة العقار من متوسط 24 ألف جنيه إسترليني في 1980 إلى ما يقرب من 500 ألف جنيه إسترليني هذا العام.
وبالتوازي ارتفع متوسط الأجور السنوية في المملكة المتحدة من 4370 جنيهًا إسترلينيًا إلى 30200 جنيه إسترليني. كذلك ارتفعت الإيجارات تقريبًا مع ارتفاع الأجور. لذا فقد ذهبت حصة كبيرة من ارتفاع الأجور الجماعية للمستأجرين على مر السنين إلى أصحاب العقارات. والتي يرجع أغلب أسبابها ليس لندرة الأراضي ولكن لمحدودية ترخيص البناء.
المملكة المتحدة ليست وحدها التي تعاني نقص المساكن. أيضا الولايات المتحدة لديها المشكلة نفسها في أماكن مثل نيويورك ومنطقة خليج سان فرانسيسكو. وكانت إحدى الدراسات رجعت إلى أن علاج هذا النقص يمكن أن يجعل البلاد أغنى بنسبة 8.9٪. ومن جهة أخرى يزيد الدخول بنسبة 25٪.
السكن.. من بريطانيا إلى مصر
“تكفل الدولة للمواطن الحق في المسكن الملائم والأمن والصحي، بما يحفظ الكرامة الإنسانية ويحقق العدالة الاجتماعية. وتلتزم الدولة بوضع خطة وطنية للإسكان تراعي الخصوصية البيئية. وتكفل إسهام المبادرات الذاتية والتعاونية في تنفيذها. وتنظيم استخدام أراضي الدولة ومدها بالمرافق الأساسية في إطار تخطيط عمراني شامل للمدن والقرى واستراتيجية لتوزيع السكان. بما يحقـق الصالح العام وتحسن نوعية الحياة للمواطن ويحفظ حقوق الأجيال القادمة. كما تلتزم الدولة بوضع خطة وطنية شاملة لمواجهة مشكلة العشوائيات تشمل إعادة التخطيط وتوفر البنية الأساسية والمرافق. وتحسن نوعية الحياة والصحة العامة، كما توفر الموارد اللازمة للتنفيذ خلال مدة زمنية محددة”.
(كان هذا نص المادة 78 من الدستور المصري 2014).
وتمتد مشكلات نقص السكن من بريطانيا وأمريكا إلى مصر بالطبع. حيث تحضر بشكل وأسباب متمايزة.
وتعد أزمة السكن من أهم الأزمات الملحة التي تواجهها الدولة منذ عقود. فقد رافقها ظهور المناطق العشوائية وتضخم حجم الإسكان غير الرسمي منذ منتصف السبعينيات. وذلك وفقا لما أورده منتدى البدائل العربي للدراسات.
وقد برزت مشكلة الإسكان في مصر بصورة حادة مع ارتفاع معدلات النمو السكاني وتزايد الهجرة المكثفة من الريف إلى المدينة وتدخل الدولة في سوق البناء. كذلك الارتفاع النسبي في تكلفة بناء الوحدات السكنية قياسا إلى القدرة الاقتصادية لغالبية أبناء الشعب ذوي الدخول المتوسطة والمنخفضة.
وبعكس بريطانيا ليس لدينا أي مشكلة في عدد الوحدات الفارغة. بل إن المعروض أكبر من المطلوب. ولكنها المسألة الاقتصادية التي لا تجعل من امتلاك وحدة سكنية مسألة متاحة للجميع أو للأغلبية عموما.
وبحسب آخر إحصائية للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فإن هناك نحو 12.5 مليون وحدة سكنية مغلقة. أي نحو 29% من عدد الوحدات السكنية في مصر. بينها 9 ملايين وحدة سكنية خالية. منها 4 ملايين و662 ألف وحدة فارغة ومكتملة التشطيب والباقي دون تشطيب. بالإضافة إلى 2 مليون و887 ألف وحدة سكنية مغلقة لوجود مسكن آخر للأسرة. ومليون و159 ألف وحدة مغلقة لسفر الأسرة خارج مصر.
السكن.. النفاذ والفساد وأشياء أخرى
في بحث للحقوقي يحيى شوكت بعنوان “سياسة الإسكان في مصر بين استمرار سياسات الماضي ووضع سياسات عادلة للمستقبل”. يناقش مسألة النفاذ والقدرة على دفع السعر. اعتمادا على تعريف العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية. النفاذ بوصفه تلبية الاحتياجات الخاصة بالفئات المحرومة والمهمشة.
فتظهر البيانات الاقتصادية في الأعوام من 96 إلى 2005 أن الأسر الأكثر فقرا والفقيرة تتراوح متوسط دخولها الشهرية بين 600 إلى 800 جنيه مصري على التوالي. وهما الشريحتان المفترض أن يستهدفهما الإسكان المدعم. كما توضح الدراسات المختلفة أن أكبر قدر يمكن للأسرة أن تنفقه من دخلها على جميع النفقات ذات الصلة بالسكن كالإيجار أو الأقساط أو فواتير المرافق أو رسوم الصيانة والضرائب يتراوح بين 20 إلى 30%.
وبالفعل ينطبق هذا الوضع على مصر التي ينفق فيها جزء كبير من الدخل المتقلص على الغذاء والصحة والتعليم. فنجد أن معدلات الإيجار مقارنة بالدخل تتراوح بين 15 و24% من دخل الأسرة. حيث تنفق الشريحة الخمسية الأكثر فقرا 24% من دخلها على السكن. بينما تنفق الشريحة الخمسية الأقل فقرا 22.2%. أي ما بين 150 و170 جنيها في الشهر على التوالي.
ويعنى ذلك أن معدلات الأقساط أو الإيجار لبرنامج الإسكان القومي يجب أن تكون في هذه الحدود إن كان الغرض منها إفادة الفقراء. ولكن التعريف القانوني لمحدودي الدخل بموجب قانون التمويل العقاري -الذي اتبعه برنامج الإسكان القومي- بعيد تماما عن هذه النسب.
في تعريف محدود الدخل
فحتى في عام 2005 -عندما بدأ البرنامج- كان “محدودو الدخل” يتم تعريفهم بمن يتقاضون دخلا شهريّا 1000 جنيه. أو الأسر التي لا يزيد دخلها على 1500 جنيه. وهو ما تم تعديله سنة 2008 مع تعديل اللائحة التنفيذية لقانون التمويل العقاري ليصل إلى 1750 جنيها للفرد أو 2500 جنيه للأسرة شهريا. وحتى الساعة لا تزال النسب غير منضبطة.
وفي البحث ذاته يوضح “شوكت” مشكلات السكن الاجتماعي في عصر “مبارك”. فيسجل: “على مدار حكم مبارك الذي امتد لثلاثة عقود ارتبط برنامجان قوميان كبيران للإسكان باسمه. وهما: إسكان مبارك للشباب، الذي امتد من سنة 1996 وحتى 2005 وإسكان مبارك القومي. وهو البرنامج الذي يتناوله هذا البحث”.
جيل جمال مبارك
علاوة على ذلك ارتبط برنامج آخر كبير للإسكان “إسكان المستقبل” ومشروعان من مشروعات ما يسمى بـ”تطوير العشوائيات” بعزبة الهريدي بالقاهرة والعجوزة القديمة بالعجوزة، باسم المنظمة غير الحكومية التي يشرف عليها نجله جمال مبارك. وهي جمعية “جيل المستقبل” التي استخدمت كلا من الأموال العامة والتبرعات من رجال الأعمال. فضلا عن ثلاثة برامج أخرى لما يسمى “تطويرالعشوائيات” ارتبطت باسم زوجته سوزان مبارك. وذلك من خلال رئاستها جمعية الهلال الأحمر. وأشهرها تطوير “زينهم” ومساكن الدويقة الجديدة.
ومن بين الانشغالات المتكررة نقص الشفافية بالنسبة لتخصيص الوحدات السكنية. “فلا يحتاج المرء إلى أكثر من النظر إلى عمليات القرعة العلنية للمستفيدين ليكتشف أنها في العادة تنتهي أو تتعطل اعتراضًا على الواسطة والمحسوبية في تخصيص هذه الوحدات”.
كما يثبت “شوكت” التشوه الجغرافي في تخصيص تلك الوحدات. ففي الفترة بين 1982 و2005 حصلت القاهرة الكبرى على 45.8% من الإسكان الشعبي. وذلك رغم أن عدد سكانها يمثل 27% فقط من إجمالي عدد سكان مصر.
ومرة أخرى حظيت القاهرة الكبرى من برنامج الإسكان القومي على نصيب الأسد من الوحدات “35%”.
وبالمقارنة خصصت معدلات أعلى بكثير في حالة المحافظات الحدودية مثل شمال سيناء -3960 وحدة- للأسرة.
وكان النصيب الأدنى من المساكن هو نصيب معظم محافظات الدلتا. والتي ليس لها ظهير صحراوي. وهو أمر مفهوم حيث تقل مساحات الأراضي المملوكة للدولة بها وهو الشرط الأساسي لإقامة مشروعات الإسكان الشعبي. ولكن الأمر غير المفهوم هو النصيب المتدني المخصص لمعظم محافظات صعيد مصر. والتي تمتلك ظهيرًا صحراويّا. والتي تتوافر فيها أراضٍ مخصصة لهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة لبناء مدن جديدة. وهي في أسيوط وبني سويف وقنا وسوهاج.
في الخلاصة -وكما يذكر مقال “الجارديان” فإن الضرر الناجم عن نقص السكن يعطل حياتنا بطرق لا حصر لها. وطالما استمر الأمر فنحن أكثر فقرًا وأقل مساواة وأكثر تلويثًا وأكثر تعاسة.
ولكن بطريقة ما هذا سبب يدعو للتفاؤل. هذا يعني أن المكاسب من حل هذه المشكلة قد تكون ضخمة أكبر مما يتخيله أحد.