في نهاية المقال السابق طرحت عددا من التساؤلات حول ما إذا كان ثمة سيناريو يتيح لمشروع التوريث أن ينجح في حينه، ولكن ما أهمية مثل هذا السؤال لنا اليوم؟ إن واقعنا اليوم يبدو وكأنما يبعد عشرات السنين الضوئية عن مطلع عام 2011 عندما كان مشروع التوريث لا يزال، في أعين وتصور الكثيرين، حيا وقابلا للتحقق. ويتراوح الناس اليوم في مقارنتهم للواقع السياسي في مصر بما كان عليه الحال في فترات سابقة، فبعضهم يرى أنه وضع جديد تماما لا يشبه في شيء أي فترة سابقة، وعلى طرف النقيض يرى آخرون أنه استعادة حرفية لفترة سابقة، ربما تكون العهد الناصري، وأخيرا يتواضع البعض فيرون أنه مجرد عودة إلى ما قبل يناير 2011.
والحقيقة في ظني أن أيا مما سبق ليس صحيحا ولا يمكن أن يكون كذلك لأن كل هذه الافتراضات هي إجابات للسؤال الخاطئ الذي يتعلق بالتشابهات الظاهرة، وفي اعتقادي أن ما ينبغي التساؤل عنه هو الظروف الموضوعية التي تنتج واقعا يحاول صانع القرار التعامل معه حسب خبرات وتجارب سابقة، وفي سبيل تحقيق أهداف يعتقد أنها واقعية وقابلة للتحقيق.
الفرضية الأولى التي أرغب في طرحها، والتي يعتمد عليها تحليلي التالي، هي أن الملامح الرئيسية للظروف الموضوعية التي كانت قائمة عشية الثورة لم تتبدل كثيرا في السنوات التالية عليها، وإن تغيرت مقاربات صانع القرار للتعامل معها، وذلك في حد ذاته ما يخلق شعورا بأن ثمة تغييرا كبيرا قد طرأ. استمرار الظروف الموضوعية ذاتها تقريبا في التأثير على واقعنا المعاش اليوم هو ما يبرر بالنسبة لي العودة إلى مشروع التوريث للتأمل في الدروس المستفادة منه. ولكن، لماذا مشروع التوريث، والذي أوضحت في مقالي السابق أنه في الحقيقة كان محكوما عليه بالفشل؟ هذا ما أنوي إيضاحه في السطور التالية، وفي سياق ذلك أحاول تقديم إجابات على ما طرحته من أسئلة.
تتعلق الملامح الرئيسية للظروف الموضوعية التي أشرت إليها بتبعات التحول الاقتصادي الذي بدأ بخطوات مترددة وقصيرة في نهاية السبعينات، ثم تسارع بصورة ملحوظة منذ التسعينات وبدا مع مطلع الألفية وكأنه قد اكتسب قدرته الذاتية للمضي قدما دون انتظار لأن يحدد صانع القرار في مصر له مساره أو خطواته التالية ومدى اتساعها. هذا التحول الاقتصادي إضافة إلى التحولات السياسية الإقليمية والعالمية والتي كانت في معظمها مرتبطة فيما بينها إلى حد كبير، هو ما خلق الظروف الموضوعية التي جعلت مشروع التوريث قابلا للتصور كفكرة في الأساس. على وجه التحديد كان الواقع الذي شكلته هذه الظروف ضاغطا على بنية المنظومة الحاكمة في مصر بصورة كان من المحسوس معها أن استمرار هذه البنية على حالها أصبح مستحيلا. أقول محسوسا لأني أشك في أنه كان ثمة (إدراك) واضح يترجم هذا الإحساس.
وبالتالي، فالاستجابة لم تكن في حقيقتها مبنية على فهم واضح لطبيعة التغيرات ومدى تناقضها مع بنية نظام يوليو الذي كان، ولا يزال بصورة ما، قائما. وفي حقيقة الأمر ما رآه بعض من كانوا يسكنون أروقة السلطة حينها كان فرصة يمكن انتهازها لتحقيق حلم الاستئثار بالسلطة لمدى أبعد وأبقى. وفي سبيل تحقيق هذا الحلم رأوا أن ثمة حاجة إلى تعديلات (محدودة) في بنية النظام، كما فهموها وليس كما هي في الحقيقة، وبالتالي فهم لم يكونوا يدركون مدى عمق التغييرات الضرورية لتحقيق مسعاهم، كما لم يروا مجمل الموارد الاجتماعية المتاحة والتي كان بإمكانها جعل فكرة تعديل بنية النظام قابلة للتحقيق.
النتيجة الرئيسية للتحول الاقتصادي والتي أصبحت ملموسة بوضوح مع بداية الألفية كان إعادة توزيع السيطرة على الموارد الاقتصادية وأدوات الإنتاج لتخرج السيطرة المباشرة عليها من أيدي مؤسسات الدولة. هذا وكما أشرت سابقا أنتج طبقة جديدة من رجال الأعمال تركزت بين أيديهم موارد اقتصادية كبيرة، انتقل أغلبها من سيطرة مؤسسات الدولة إلى سيطرتهم، أي أن نمو موارد هذه الفئة كان بصورة مباشرة على حساب وخصما من سيطرة الدولة على الموارد الاقتصادية. إضافة إلى ذلك فإن التغييرات العميقة في بنية المنظومة الاقتصادية أعادت أيضا توزيع الأوزان النسبية لرؤوس الأموال المختلفة، فانتقل قدر كبير من الوزن النسبي لرؤوس الأموال الاجتماعية والثقافية إلى رأس المال الاقتصادي. ضاعف هذا من ثقل ما توافر لفئة رجال الأعمال الصاعدة من موارد في موازين القوى، وهو ما كان لابد أن يتم التعبير عنه سياسيا بصورة أو بأخرى. من جانب آخر أحدثت التعديلات في بنية الاقتصاد تعديلا في الطلب على المهارات والخبرات المطلوبة للتوافق مع طبيعة المؤسسات الاقتصادية الناشئة أو الوافدة للعمل بالسوق المصري، خاصة مع التزايد السريع لارتباطه بالسوق العالمي. أتى هذا في الوقت الذي شهدت فيه الأسواق العالمية تعديلات عميقة ناتجة عن طفرات تطور تقنيات الحاسب الآلي وشبكات الاتصالات والتطور السريع للإنترنت وتطبيقاتها. نتيجة لذلك لم تكن صورة الواقع هي ترجمة بسيطة لصعود الوزن النسبي لرأس المال الاقتصادي، ففي مقابل ذلك نشأت صور جديدة لرأس المال الثقافي أحدثت إعادة توزيع داخلي في مصادره، وأنتجت فرصا جديدة لترجمته إلى رأسمال رمزي.
يتيح ظهور صور جديدة من أحد أنواع رؤوس الأموال فرصا لما يمكن معه استعارة مصطلح التراكم البدائي من ماركس للتعبير عنه، وبصورة أوضح يتاح لهؤلاء الذين توفر لهم ظروف مختلفة فرص الوصول إلى مصادر الصور الجديدة لرأس المال أن يراكموا قدرا كبيرا منه في فترة قصيرة وبتكلفة منخفضة تجعل لهم ميزة نسبية في أي منافسة لاحقة على هذه المصادر، كما تتيح لهم احتلال مواقع مميزة في الحقول الجديدة أو القائمة التي يكون لصورة رأس المال الجديدة قيمة تبادلية مرتفعة فيها. هذا الإطار يمكن من خلاله فهم شيء مثل خارطة توزيع القدرة على التأثير من خلال وسائل التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت. فالصورة الجديدة لرأس المال الثقافي والمتمثلة في مهارات التعامل مع تطبيقات الإنترنت اعتمدت على مهارات التعامل مع الحاسب الآلي التي سبق إلى اكتسابها أفراد ينتمي معظمهم إلى شرائح اجتماعية بعينها، هؤلاء كانت لديهم فرصة أكبر للسبق في استخدام الموارد الجديدة التي أتاحتها تطبيقات الإنترنت وامتداداتها على الهواتف الذكية. في إطار الفضاء العام الافتراضي الذي سبقت إلى فتحه تطبيقات مبكرة للإنترنت التفاعلي مثل المنتديات والتدوينات، ثم توسعت فيه وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير وعلى نطاق غير مسبوق ﻹمكانية التواصل اللحظي والمباشر بين الناس داخل وعبر حدود الدول، كان ﻷصحاب هذه الصورة الجديدة من رأس المال الثقافي ميزة نسبية كبيرة أمكن تحويلها إلى رأس مال رمزي انعكس في صورة قدرة أكبر على التأثير من خلال الاستخدام اﻷكثر فعالية للأدوات التي تتيحها وسائل التواصل الاجتماعي.
القدرة على التأثير من خلال وسائل التواصل الاجتماعي هي فقط واحدة من بين ظواهر مختلفة كان ﻷصحاب الصور الجديدة من رأس المال الثقافي المرتبط بالتكنولوجيا الحديثة فرصًا أكبر لاحتلال مواقع مؤثرة في الأنشطة المختلفة التي إما نشأت اعتمادا على هذه التكنولوجيا أو اقتضت ضرورات التفاعل مع السوق العالمي أن تستخدمها بشكل واسع النطاق. في المجمل شكل هؤلاء ثقافة فرعية مختلفة ولكن ذات وزن نسبي يتيح لها التأثير بقدر أكبر من حجمها في المجتمع ككل، وبصورة ما لم يكونوا بعيدين عن تطور مواز في الثقافة الشعبية سمح بتأثيرات متبادلة برغم الاختلافات الظاهرية الواضحة بين الجانبين. هذه الفئة الجديدة ذات الصوت المسموع في الفضاء العام الافتراضي، وفي مساحات أخرى ربما أكثر أهمية وإن كانت أقل وضوحا، كانت أيضا في حاجة إلى تعبير سياسي مختلف عن المتاح في ظل ما كان يسمى بهامش الحرية، وتمكن بعضهم من التسلل إلى أروقة اﻷحزاب الديكورية، وفي مقدمتها الحزب الوطني نفسه، والذي سمح نشاط لجنة السياسات فيه بمساحة غير متوقعة لمشاركتهم، لارتباط مهاراتهم باﻷساليب المستجدة للدعاية والتنظيم، التي استخدمت لسنوات في مجال اﻷعمال ومن ثم كان طبيعيا أن تغزو الحزب في ركاب حملة رجال اﻷعمال للوصول إلى مواقع نافذة فيه، قبل ومع مساعي التوريث.
ما علاقة ما سبق بحظوظ مشروع التوريث في النجاح؟ مجموع التغييرات الاقتصادية والاجتماعية وانفتاح كليهما على صلات من نوع جديد باﻹقليم والعالم ككل كان سببا في حلحلة جمود البنى الاقتصادية والاجتماعية التقليدية المرتبطة بشكل وثيق بالترتيبات التي أنشأها أو أقرها نظام يوليو قبل ستة عقود. من ثم كان هناك نافذة مشرعة على أفق جديد يتخطى هذه الترتيبات ومن شأنه لذلك أن يتيح الفرصة لبديل عنها وبالتالي بديل عن نظام يوليو نفسه. شروط استغلال هذه النافذة كانت تتمثل في حدوث تناغم بين نوعي التغييرات والفئات الاجتماعية المعبرة عن كل منهما، دون الحاجة بالضرورة إلى تحالف علني بينها. مثل هذا التناغم كان يكفيه نوع من التوافق غير المعلن على حد أدنى من التوقعات لما ينبغي أن تكون عليه أية قواعد جديدة للعبة السياسية. بصورة خاصة كان باﻹمكان تصور التوافق على الحاجة إلى انفتاح أكبر للعبة السياسية يفتح مجالا للفئات الاجتماعية الصاعدة بأن يكون لها مكان فيها. لكن في ظل احتكار البيروقراطية لشؤون اﻹدارة والسياسة المؤثرة فيها معا، وحماية البيروقراطية العسكرية لهذا الاحتكار، كانت حظوظ هذه الفئات الاجتماعية في النجاح في تعديل اللعبة السياسية ضئيلا للغاية، ومع إضافة تيارات اﻹسلام السياسي كرقم إلى المعادلة كانت التناقضات بين الفئات الاجتماعية ذات المصلحة في تعديل اللعبة السياسية أوسع كثيرا من أن تشكل مثل هذا التحالف غير المعلن. وهو بالمناسبة أمر تجلى بوضوح أكبر في سنوات ثورة يناير نفسها.
كان بإمكان مشروع التوريث أن يقدم نفسه كحل لهذه المعادلة الصعبة مستغلا إمكانية أن يكون على مسافات متقاربة من الفئات الاجتماعية سواء الصاعدة أو القائمة وذات المصلحة في تعديل قواعد اللعبة السياسية، ومستغلا أن بإمكانه أيضا الاعتماد على دعم جزء من البيروقراطية الحاكمة، وإمكان أن يقدم رسائل طمأنة للقوى التقليدية المرتبطة بترتيبات نظام يوليو بأنها لن يتم استبعادها كليا، خاصة وأن كثيرا من هذه القوى قد تمدد إلى مساحات اﻷعمال التي أتيحت مع التغييرات الاقتصادية. ولكن الحقيقة بالطبع أن القائمين على مشروع التوريث كانوا أقصر نظرا وأضيق أفقا وأقرب إلى روح الجمود المخيمة على النظام الذي خرجوا من رحمه بحيث أنهم على أرض الواقع فعلوا تحديدا عكس ما هو مطلوب منهم مضحين بكل المزايا التي كان بإمكانهم استغلالها. فهم أولا اختاروا ألا يكونوا على مسافات متقاربة من الفئات المختلفة التي كان بإمكان المشروع الاعتماد على تعاونها إما الصريح أو المبطن، بل إنهم في اختيارهم لقطاع ضيق من إحدى هذه الفئات أحدثوا انقساما وتشرذما حتى بين أصحاب المصالح المتقاربة، وهم في اعتمادهم على دعم جزء من البيروقراطية الحاكمة اكتفوا بتوثيق روابطهم أيضا بالقيادة العليا للبيروقراطية اﻷمنية، متصورين أن هذه القيادة لطول استمرارها وسيطرتها البادية يمكن أن تؤمن لهم دعما غير مشروط في مواجهة كافة التحديات، وأخيرا وجهوا بأنفسهم الضربة اﻷخيرة إلى مشروعهم بفك الارتباط المفاجئ بالقوى التقليدية من خلال التخلي عن إلتزامات الحزب الحاكم بالترتيبات المرعية تجاهها طيلة عقود ماضية.
إجابة السؤال اﻷول الذي طرحته في نهاية المقال السابق إذن هي: نعم، ربما كان ثمة سيناريو ينجح في ظله مشروع التوريث، ولكن شريطة ألا يكون توريثا إلا للاسم وما يمنحه حينها من مزايا، يمكن استكمالها ببناء مشروع أوسع يقدم بديلا منخفض المخاطر لإعادة ترتيب قواعد اللعبة السياسية، وبما يسمح للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية بأن تجد لها تعبيرا سياسيا مناسبا خارج القفص الحديدي لنظام يوليو. أما إجابة السؤال الثاني حول مصير الثورة في حالة وجود هذا السيناريو فقد تكون أقرب إلى الرجم بالغيب، ولكن باﻹمكان تصور فرصة أكبر ﻷلا تندلع الثورة باﻷساس، إذا ما افترضنا أن شرارتها على اﻷقل كانت تعبيرا عن الطموحات السياسية للفئات الاجتماعية التي كانت تبحث عن أفق أرحب يتيح لها مكانا مستحقا في اللعبة السياسية.
يبقى السؤال الثالث وهو: هل ماتت مع مشروع التوريث أية فرصة لبديل منخفض المخاطر وقابل للتحقق للخروج من قفص نظام يوليو؟ هذا هو السؤال اﻷكثر صعوبة وتعقيدا، وهو لذلك يحتاج إلى مساحة أوسع لنقاشه قد تكون متاحة في المقال التالي بإذن الله.