أثار عرض فيلم “أصحاب ولا أعز” على منصة نتفليكس للأفلام، عاصفة من الجدل والجدل المضاد. تعددت تفاصيلها على مواقع التواصل الاجتماعي. وهو جدل كان أقل ما تم مناقشته فيه الجوانب الفنية لعمل “فني”.
لعل نقطة البداية المنطقية للحديث عن الفيلم “القصة/السيناريو”. حيث شاعت مسألة أن الفيلم نسخة مسروقة/مقلدة من فيلم إيطالي. وساد الكسل بخصوص محاولات البحث وراء هذه المعلومة.
وحقيقة الأمر أنه، وعبر سنوات، يوجد ما يسمى format production. إذ تكون الخطة من البداية إيجاد سيناريو يمكن إنتاج نسخ مختلفة منه بعدة لغات بأطقم فنية مختلفة، (وليس فقط من خلال الترجمة أو الدوبلاچ). ذلك لتقريب العمل من ثقافة الجمهور المستهدف.
وبالتالي، لسنا أمام عمل مسروق، وإنما عمل يُعاد إنتاجه (أقرب لإعادة التدوير) بطاقم عربي. ما يجعله أكثر جاذبية للجمهور العربي.
وبناءً عليه، ولتحقيق أقصى درجات الجذب، يتم اختيار الممثلين. وبما أن السوق الأكبر من المشاهدين في الوطن العربي هو السوق المصري، تم اختيار “منى زكي” و”إياد نصار” في رهان اتضح لاحقًا صوابه. إضافة إلى بقية طاقم العمل (الممثلين) الذي لا يخلو من عوامل جذب متنوعة. خاصة المخرجة والممثلة اللبنانية “نادين لبكي”.
وهنا، تبرز المعضلة الكبرى. هل يكفي اختيار ممثلين “عرب” لجعل مضمون الفيلم “عربيًا”؟ وهل يجوز من الأساس في هذه الحالة أن نقول عن فيلم ما بهذه الخلطة “عربيًا”؟ أم هو فيلم بحكم الصناعة “لبناني” شاركت فيه ممثلة مصرية وممثل أردني؟ (مع الأخذ في الاعتبار أن الغالبية من العاملين في الفيلم أمام وخلف الكاميرا لبنانيون).
هذا السؤال -الفني في جوهره- يحمل في طياته إيضاحًا لجذور الجدل الذي ثار اجتماعيًا وأخلاقيًا. فالموضوع المطروح في السيناريو ليس بأي شكل من الأشكال جديدًا لا على مستوى الفكرة ولا المعالجة. وقد سبقه كثير من الأفلام التي تدور حول فكرة العلاقات بين الأزواج والأصدقاء وكشف تعقيداتها والبوح بالمسكوت عنه.
ويحضرني هنا على سبيل المثال لا الحصر أفلام كـ”سهر الليالي” أو “ويچا”. ونحن هنا في إطار مناقشة مسألة إطار الفكرة تحديدًا.
لا أذكر أن تلك الأفلام أثارت ضجة من هذا النوع -حينها- رغم أنها، في اعتقادي، لم تخلُ من جرأة غير معتادة في تلك الفترة. بل قد تكون أكثر جرأة حتى من المشهد محل الجدل في فيلم نتفليكس (وأخص سهر الليالي).
وبالعودة حتى للفيلم الأول في السلسلة (النسخة الإيطالية)، والذي سارت على نهجه بقية النسخ ببقية اللغات، وقد شاهدته منذ عدة سنوات عند عرضه في مصر، نجده أنه وإن سلمنا أن هناك سمات مميزة تاريخيًا للسينما الأوروبية عمومًا والإيطالية خصوصًا، فإنه يصعب أن نرى تلك السمات في الفيلم. بل هو أقرب لكونه فيلمًا شديد الأمريكية من حيث بنية السيناريو وإيقاع الإخراج والمونتاچ.
وهو الأمر الذي استمر في كل النسخ. ولذا يمكننا أن نذهب حتى للقول إننا أمام أفلام على المازورة الأمريكية تنطق بلغات غير الإنجليزية.
فنجد أنفسنا أمام إيقاع همه الأساس السرعة حد اللهاث، بصرف النظر عما تحتاج إليه اللحظة الدرامية. القرار المسبق هو القطع السريع مهما كان تأثير ذلك بصريًا ونفسيًا على المتفرج.
لا توجد فرصة لأي تعاطف أو تواصل من المشاهد، لا توجد فرصة أمام أي ممثل أو ممثلة لصنع إيقاع خاص. والتصوير يجب أن يكون جميلاً وفقط، دون أن يكون لاختيار زاوية أو حجم لقطة وعدسة تأثير درامي بعينه في لحظة ما.
وكأن السرعة واللهاث لا غنى عنهما حتى لا يشعر المتفرج بـ”الملل” كون أحداث الفيلم تدور في مكان واحد (بيت). وكأن السينما لم تمر بسنوات وتجارب فنية مشابهة من حيث مسألة “دراما المكان الواحد”، ولم تضطر لهذا اللهاث. ورغم أن المتفرج لم يشعر بذاك الملل المتخَيَل في تجارب منها الكلاسيكي كفيلم “12 رجلاً غاضبًا 12 angry men”، أو الأكثر حداثة كفيلم “مذبحة carnage”. وكان لكليهما إيقاع سينمائي متميز.
نحن بصدد فيلم تليفزيوني (أقرب للمسرح) يعتمد الحوار سبيلاً واحدًا لإيصال الأفكار والمشاعر. حيث لن يفوتك الكثير إن اكتفيت بالاستماع دون المشاهدة. وهناك بالطبع الكثير من المشاهدين (قد تكون الأغلبية الساحقة) الذين يفضلون هذا الأسلوب شديد السهولة في السرد. وهو حق أصيل لهم.
ختامًا، وللتعليق على الجدل الذي أثاره مشهد للممثلة المصرية “منى زكي” في الفيلم، (وهي العنصر المصري الوحيد في الفيلم). المسألة لا يمكن إخضاعها لتبسيط مُخل. السؤال المبدئي بالنسبة لي هنا: ما نسبة العائلات المصرية التي ثمثلها النماذج الإنسانية بالفيلم الذي يدور بأكمله في لبنان فيتناولون النبيذ “الأورجانيك” مع الملوخية بالأرانب؟
أعتقد أن الموضوع أبعد كثيرًا من ذلك، فملايين المشاهدين المصريين (سواء المشتركين في المنصة أو من شاهدوه مسربًا/مسروقًا) انبروا في الحقيقة للدفاع عمن اعتبروها نموذجًا، قدمته هي نفسها لسنوات طويلة، لما يُسمى “السينما النظيفة”.. نموذج فخر الكثير من أبناء هذا الجيل من الممثلين بأنهم يقدمون من خلاله أفلامًا تصلح لجميع أفراد الأسرة “دون خجل”. فاعتبروا تقديمها نموذجًا مختلفًا وكأنه “خيانة شخصية للأسرة”.
وهي شخصنة للموضوع من المنطقي أن يجدها الفنيون مستهجنة. بينما يجدها جماهير الأفلام منطقية تمامًا من منطلق ارتباطهم شعوريًا بالممثلين.
مُعضلة صعبة الحل نمت عبر سنوات من زرع قوالب أخلاقية بعينها وربطها بكل شيء في الحياة، فصارت تحكم نظرة الجماهير، وخلقت مقدارًا من الازدواجية في الحكم على الأمور مثيرًا للتعجب والاهتمام.
موضوع يطول شرحه والحديث فيه وليس مكانه حصرًا النقد الفني. بل يمتد للحاجة إلى دراسة جوانبه النفسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية. أما فنيًا، فكم أتمنى أن يأتي يوم نتحدث فيه عن العمل الفني “فنيًا” قبل أي شيء.