في مساء يوم الجمعة 14 يناير 2011، أقلعت طائرة الرئيس التونسي، زين العابدين بن عليّ، هربًا من ثورة شعبية جارفة اشتعل لهيبها من شرارة النيران، التي أشعلها محمد البوعزيزي في نفسه سخطًا على الأحوال الاقتصادية المتردية وطغيان جهاز الشرطة. وقد حطت الطائرة في المملكة العربية السعودية، بعد أن رفضت فرنسا استقبالها.
وفي صباح اليوم التالي، كانت أول دعوة مصرية للتظاهر في مواجهة دولة مبارك. وخلال ثلاثة أيام كان المواطن المصري “عبده عبد المنعم حمادة جعفر خليفة” يقف أمام مجلس الشعب المصري مشعلاً النار في نفسه، أملاً في أن يضيء جسده هو الآخر الطريق لثورة مصرية على غرار ثورة تونس، تبعه خلال 24 ساعة قرابة أربعة آخرين. ليبدأ العد التنازلي ليوم 25 يناير، اليوم الذي سترفع فيه مصر بطاقتها الصفراء لنظام مبارك.
قبل 59 عامًا بالضبط، وقف ضباط الشرطة المصرية ببنادقهم الضعيفة يدافعون عن كرامة مصر في مواجهة جحافل قوات الاحتلال البريطانية التي ذهبت لتعاقبهم على حمايتهم للفدائيين والوطنين. ذلك الموقف الذي كان ثمنه 56 شهيدًا من قوات الشرطة، والذي أشعل النيران في قلوب المصريين في اليوم التالي، لتنشر اللهيب في كل مكان صباح 26 يناير، والذي أطلق عليه حريق القاهرة.
وبعد تلك الأعوام التسعة والخمسين، انطلقت حشود الجهاز نفسه لقمع مجموعات الشباب التي خرجت اعتراضًا على الفقر والظلم والفساد وممارسات وزارة الداخلية التي استفحلت وتبجحت حد قتل الشباب في الشوارع أمام المارة، في حادث اغتيال الشاب خالد سعيد، والذي كانت دماؤه لعنة على النظام بأكمله.
بعد يناير الأول (1952) بقليل خرج بعض من شباب الضباط من ثكناتهم لينهوا حكم الدولة العلوية التي كانت في عداد الأموات بالأساس. ورغم كل الدعاية الكاذبة التي تروج الآن عن تلك الملكية، فإن أبلغ دليل على موتها قبل حركة الضباط تلك، كان اقتحام أحد ضباط الجيش البريطاني لقصر الحكم وركل الباب بقدمه ووضع وثيقة التنازل عن العرش أمام ملك البلاد قائلاً: “وقع يا ولد”. ذلك قبل أن يترجاه “الملك” لتركه ومنحه فرصة لتصحيح الأخطاء التي أغضبت ذلك الضابط. ولم تمض سوى سنوات قليلة حتى اقتحم الضباط القصر بوثيقة مماثلة أنهت حكمه وحكم عائلته التي لطالما أذاقت البلاد ظلمًا، وفقرًا، ومرضًا، واستعبادًا.
ومرت السنوات والعقود حتى بلغت دولة الضباط من الكبر عتيًا، واستحال شبابها وعنفوانها تجاعيدًا وأمراضًا. عاد الإقطاع من جديد وصارت ثروات الدولة بيد ثلة من الفاسدين المفسدين، والذين استغلوا تلك الثروة في السيطرة على حكم البلاد عبر حكومات رجال الأعمال. وأصبحت العدالة الاجتماعية دربًا من الأحلام لغالبية الشعب، والديمقراطية فصلاً مسرحيًا مضحكًا مبكيًا. وصمت الجيش عن كل ذلك مكتفيًا بحماية نفسه ومكتسباته قدر الإمكان.
وعاد الاستعمار بشكل جديد من التبعية المهينة حد تصريح مصطفى الفقي، المدير السابق لمكتب رئيس الجمهورية ورئيس لجنة العلاقات الخارجية ببرلمانه، بأن رئيس مصر القادم لابد وأن يأتي برضا أمريكي وموافقة إسرائيلية. وكانت تلك أطلال المبادئ الستة التي أعلنتها دولة ضباط يوليو، والتي كان ما تحقق منها سببًا في صبر الناس على مساوئها وظلمها وفسادها.
وفي صباح الثلاثاء، 25 يناير 2011، خرج من جديد بعض من شباب مصر إلى شوارعها، معلنين أحقية هذه البلاد في حاضر ومستقبل يليق بشعبها، وأن محاولة دولة يوليو في تجديد شبابها بشلة جديدة أفسد من القديمة هي محض استهزاء بهذا البلد وهذا الشعب، وأن مبارك الابن وعصابته لن يكونوا حلاً في الخراب الذي أكملوه وعمقوه بعد مبارك الأب وعصابته.
كان ذلك اليوم يومًا من أيام مصر العظيمة، دوت في شوارعها هتافات الحرية، هتافات تدعو فرعون إلى إدراك الحقيقة، فلقد صبرت هذه البلاد -كعادتها -كثيرًا وطويلاً، صبر الحكيم، وقد كانت تلك الهتافات تحذيرًا من أن يتحول ذلك الصبر إلى غضب. لكن فرعون وجنوده ظنوا أن مدرعاتهم وقنابل غازهم وهراواتهم مانعتهم من الشعب، وظنوا بأن صمت هذه البلاد موتًا وليس صبرًا، ولكن فرعون لا يدرك الحقيقة حتى يدركه الغرق.
المتأمل في تاريخ هذه البلاد سيتعجب من أنه بالرغم من الاختلافات الشديدة بين من حكموها إلا إنهم اتفقوا جميعًا على احتقار وظلم أهلها، ليس المحتلين ولا الأغراب والأجانب وحسب، وإنما كان حكامها من أبنائها أشد قسوة واحتقارًا وطغيانًا.
فمنذ أن قُطع دابر الأسرة العلوية ذات الأصول الألبانية، آخر سلالات الحكم الأجنبية، واعتلاء العرش أبناء هذا البلد، بمن فيهم العقليات الأربع التي تولت السلطة خلال العقد الثاني من هذا القرن، سفهوا جميعًا من حقوق وقدرة وإرادة هذا الشعب.
والغريب أن لا أحد منهم أخذ من نهاية سلفه عبرة أو موعظة، بل على العكس فقد حاول كل منهم تفادي مصير سلفه، ليس باتقاء أسباب زواله، وإنما بالتحوط من طريقة زواله فقط. دون الأخذ في الحسبان حقوق هذا الشعب الذي هو العنصر الوحيد صاحب الأحقية في المنح والمنع. وقد تناسوا جميعًا بأن لهذا الشعب قدراته الجمعية المبدعة، وإنه إذا أراد فعل، لكنه صبور صبر فلاحي النيل على زرعتهم، وفي صبرهم حكمة لا يدركها إلا الزمان أو من يبحث فيه ويتأمله. وعلى قدر صبرهم يأتي عنفوانهم حاصدًا أولئك الذين احتقروه بغضب لا يبقي ولا يذر.
وقد أعطى الشعب والقدر والتاريخ مهلة لأيام ثلاث، من صباح الثلاثاء 25 يناير وحتى مساء الخميس 27 يناير، حتى يراجع هؤلاء الطغمة أنفسهم، لكنهم كانوا -مثل أسلافهم وخلفائهم- لا يعرفون للحكمة سبيلاً ولا للحق صوتًا. وصمت صوت الحكمة في ذلك المساء استعدادًا لصوت الغضب الذي سينطلق عقب صلاح جمعة 28 يناير، والذي لن يكون ما بعده مثلما قبله أبدًا، مهما بدا عكس ذلك.
حينما اعتلى عرش الدولة الأموية، الخليفة السابع، سليمان بن عبد الملك بن مروان، عيّن أسامة بن زيد التنّوخىّ مسؤولاً عن جمع الضرائب والإتاوات من مصر. قال له قبل أن يرسله إلى المحروسة: احلِب الدَّر (الحليب) حتى ينقطع، ثم احلِب الدم حتى يَنصرِم (ينتهي). حيث لم يرِ الخليفة في مصر وأهلها سوى أنعام، فأرسل لها من يحلبها حتى آخر قطرة من دمها بعد أن تنفد آخر نقطة من حليبها.
ويشهد التاريخ أن أسامة لم يُقصّر في تنفيذ الوصية قيد أنملة، وعرف عصره بأنه من أشد عصور الشدائد على المصريين دفعًا للضرائب أو تنكيلاً لعدم دفعها من قطع الأيدي والرمي لتماسيح النيل. وخلف من بعد أولئك خلفٌ ساروا على نفس الدرب الذي لطالما دفع الناس للانفجار غضبًا في وجه الولاة، والحكام، والملوك، والرؤساء.
وكما لم تكن ثورات البشموريين ضد حكم الأمويين أولى ثوراتهم في وجه الطغاة، فإن يناير 2011 لن تكون آخرها حتى ترى هذه البلاد العدل الذي تستحق.