تشكل فاتورة الدم المدفوعة في ثورة ديسمبر السوداني منذ لحظتها الأول وحتى الآن عائقا كبيرا وسدا منيعا أمام فرص نجاح حوار سياسي بين الأطراف السودانية المتصارعة، ذلك أن تداعيات انقلاب 25 أكتوبر، ولجوء المكون العسكري خصوصا قوات الدعم السريع لممارسة عنف وقتل قد اعتادوا عليه في دارفور، جعل الثورار يرفعون شعارات لا شراكة، لا تفاوض لا مساومة، بينما الموقف الثابت للمجتمع الدولي كما ألاحظ وأعرف بالتفاعل المباشر يتمثل في أن المكون العسكري هام في الظروف السودانية، نظرا لموقعه الجيبولتيكي.
ومن محاسن الصدف أن وجدت على جهاز الكمبيوتر خاصتي عرضا لورشة عمل كنت أقودها قبل عدة سنوات عن موضوع العدالة الانتقالية والخبرات العالمية فيها، وكانت المتحدثة الرئيسية فيها والتي قدمت بشأنها ورقة عمل متميزة الباحثة المتميزة والزميلة لي بمركز الأهرام للدراسات الأستاذة أمل مختار، بينما كان المعقب عليها هو القيادي السوداني والسياسي المرموق د. الشفيع خضر.
زميلتنا الأستاذة أمل أنجزت ورقتها البحثية بعد زيارة عمل علمية وميدانية للأرجنتين بهذا الشأن التقت فيها مباشرة مع الأطراف المعنية والمشتبكة مع قضية العدالة طوال أكثر من 30 عاما هناك، بينما قدم د. الشفيع الحالة السودانية ولكن قبل ثورة ديسمبر2018، وقبل ابتعاده عن الحزب الشيوعي السوداني على ما أذكر.
في هذا السياق أرى أن أعرض لأهم نقاط دراسة العدالة الانتقالية وخصوصا أنها مجهود مصري سوداني مشترك، لعلها تساعد في التنوير والتعريف بمسألة العدالة الانتقالية، وكيفية توظيفها عالميا في الأزمات المحتدمة الناتجة عن الانتهاكات فقد نجد طريقا أو ملامح حل للأزمة الراهنة في السودان، والتي بالتأكيد من الممكن استصحابها بإضافات محلية طبقا للتفاعلات السودانية، خصوصا وأن مسألة العدالة الانتقالية عادة ما تواجه تحدي التعثر وذلك لأسباب سياسية داخلية وتحديات خارجية. وهى أيضا عملية صعبة لا تحتاج فقط إلى جهد الحكومات بل أيضا جهد المجتمع المدنى ومراكز التفكير والأكاديميين.
في بداية العرض قامت الأستاذة أمل مختار بتوضيح المعنى الحقيقى للعدالة الانتقالية، حيث أشارت إلى أنها عدالة تتعامل مع ظروف استثنائية، وأن الاستثناء يكمن في حجم التجاوزات من ناحية، وفي طبيعة مرتكب التجاوزات من ناحية أخرى.
وقدمت الباحثة تعريفا مختصرا لمفهوم العدالة يتلخص في ثلاثة محاور أساسية، وهي إيقاف التجاوزات، ومعالجة آثارها السلبية على الضحايا وذويهم، وأخيرا ضمان عدم تكرار هذه التجاوزات في المستقبل.
ليس هناك نموذج واحد لتحقيق العدالة الانتقالية. كما أنه ليس هناك نموذج يمكن استيراده وتبنيه بالكامل في بيئة مختلفة. لكن التعامل مع الخبرات السابقة يكون بهدف الاستفادة والاسترشاد والتعلم والنقل الجزئي أحيانا وليس الكامل أبدا. بالإضافة إلى أن التجارب الدولية اختلفت، فمنها ما غلب على مسارها آلية المصالحة وأخرى آلية المحاكمات وأخرى الإصلاح المؤسسي وأخرى العفو. لكن المؤكد أن كافة الخبرات الدولية اعتمدت آلية توثيق وكشف الحقيقة باعتبارها العمود الفقري لمسار العدالة.
ويمكن القول إن ملامح عملية العدالة الانتقالية في الأرجنتين كانت ثلاثة، هي آليات هذه العدالة وأدواتها، وأن للأجهزة الأمنية شركاء آخرين في المسئولية عن الانتهاكات، وثالثا أنه لاعلاقة بين انتهاك حقوق الإنسان والحفاظ على الأمن القومي.
فيما يتعلق بالملمح الأول، فإن الدور المحورى لمنظمات المجتمع المدني والعمل المنظم لأهالي الضحايا هو أهم هذه الأدوات، حيث عملت المنظمات الأرجنتينية بطريقة منظمة وخاصة في مسألة توثيق الحقيقة وجمع المعلومات والتواصل مع الضحايا وذويهم. ثم الضغط من أجل تغيير القوانين والدستور. بالإضافة إلى الخبرة الأرجنتينية المتميزة وربما المتفردة في وجود منظمة أهلية غير تابعة للدولة تقوم بدور فنى متميز في مجال الطب الشرعي وصلت إلى درجة من التخصص ما جعل تقاريرها معترفا بها من قبل المحاكم الرسمية.
ويأتي دور المرأة في قلب أهمية هذا العمل المجتمعى، والذى تمثل في “جمعية أمهات مايو” أو “Madres de plaza de Mayo”. والتي اعتبرت أول معارضة سياسية بدأت في أثناء الحكم السلطوى في وقت تم فيه حل الأحزاب السياسية وعدم السماح بعمل المنظمات الحقوقية. وقد تشكلت في البداية من أربعة عشر سيدة من أمهات الشباب اليسارى المعارض المعتقل من قبل النظام ثم زادت أعدادهم ليصلوا إلى عشرات الآلاف من الأمهات والجدات ثم الأبناء والأحفاد. وقاموا بالإعلان عن قضيتهم في صمت من خلال التجول وهم يحملون أسماء أبنائهن على رؤوسهن في ميدان مايو أمام القصر الرئاسي أسبوعيا طوال أكثر من ثلاثين عاما. وهو أمر يدل على أن أهم ما يميز الخبرة الأرجنتينية هو سياسة النفس الطويل والإصرار على الاستمرار في العمل على تفعيل مسار العدالة.
النقلة الكبرى في هذا المسار حدث عندما أصدر أول رئيس منتخب بعد نهاية العهد السلطوى “راؤول الفونسين” قرارا بتشكيل اللجنة الوطنية للحقيقة “CONADEP”. وانتهت اللجنة بإصدار تقرير رسمي تم تسليمه لرئيس الجمهورية وإعلانه للمواطنين. وتكمن أهمية هذه اللجنة والتي تعد الأولى في تاريخ مسار العدالة الانتقالية في الخبرة الدولية، إلى أنها قامت بتوثيق الحقيقة وحفظ ذاكرة جماعية للأمة وهو أمر غاية في الأهمية.
من جانب آخر ظل التقرير بمثابة مستند قوي يمكن على أساسه محاكمة رموز النظام السابق. وقد شهدت التجربة الأرجنتينية حالات من التراجع في الإرادة السياسية وعدم الرغبة في تفعيل مسار المحاكمات وتفضيل فكرة العفو العام كما كان طوال فترة التسعينيات في عهد الرئيس الأسبق كارلوس منعم. إلا أن الحقيقة المكتوبة والموثقة ظلت أساسا يمكن الرجوع إليه والاستناد عليه لبدء مسار المحاكمات إذا ما تغيرت الإرادة السياسية في وقت لاحق. وهو ما حدث بالفعل منذ 2003 عندما وصل إلى الرئاسة نستور كريشنر.
كما أن كتابة الحقيقة كانت هي البداية السليمة لوضع خطط إصلاح مؤسسات الدولة. حيث اعتبر التقرير النهائي بمثابة تشخيص لمواطن العلة في مؤسسات الدولة وقوانينها والتي كانت السبب في حدوث تلك التجاوزات وعدم التمكن من إيقافها إلا بعد سقوط النظام. وهذا ما يفسر أن تقرير لجنة الحقيقة جاء تحت عنوان “Nunca Mas” أو “أبدا لن يحدث مرة أخرى”. وهو ما يؤكد على أهمية كتابة الحقيقة في إصلاح الحاضر من أجل ضمان مستقبل خال من تجاوزات الماضي.
وفيما يخص شركاء الأجهزة الأمنية في ممارسة الانتهاكات فقد أثبتت الحقائق وقاعات المحاكم وساعات التحقيقات أنه لا يمكن وقوع هذا الحجم من التجاوزات والانتهاكات بحق المعارضة دون وجود شركاء. وقد كانوا في الحالة الأرجنتينية رجال الدين والإعلام ورجال الأعمال وأخيرا الدور الخارجي المتمثل في هذه الحالة في الولايات المتحدة الأمريكية. فعلى سبيل المثال، أباحت الكنيسة قتل اليساريين تحت شعار فصل الغث عن الثمين، وأنه أمر مشروع لحماية المسيحية من خطر الشيوعية. وعلى الرغم من ظهور شريحة رفيعة من القساوسة الرافضين لهذا النهج وعرفوا باسم “Left wing” إلا أنهم كانوا أقلية وسط أغلبية كاسحة تؤيد بل تبارك تجاوزات النظام.
من جانب آخر أثبتت الاعترافات والتحقيقات أن بعض ملاك الشركات الكبرى ساهموا بشكل مباشر في التخطيط والتمويل بل والتنفيذ أحيانا لعمليات خطف المعارضين اليساريين. أما الإعلام فقد قام بدور كبير في تزييف وعى المواطنين، حيث كان ينفي مسئولية النظام عن أي انتهاكات لحقوق الإنسان.
الداعم الدولي للانتهاكات كان الولايات المتحدة، حيث ظهر منذ 1975 عملية “Plan Condor” وهي عملية مخابراتية مشتركة بين الـ CIA وديكتاتوريات أمريكا اللاتينية بهدف القضاء على الشيوعية فكرا وأحزابا وجماعات. وقد تم وفقا لهذه الخطة قمع حركات المعارضة اليسارية بقسوة في دول القارة حتى وصل عدد ضحاياها إلى نحو 60 ألفا أغلبهم من الشباب والمثقفين اليساريين. وما زال إلى الآن القضاء الأرجنتيني ونظيره في دول لاتينية أخرى ينظر قضايا متهم فيها أفراد من جنسيات مختلفة ضمن هذه الخطة.
أما الملمح الثالث الذي حددته أمل مختار في ورقتها البحثية عن العدالة الانتقالية فيهي أن العلاقة بين احترام حقوق الإنسان والأمن القومي ليست علاقة عكسية وقالت في نتائج البحث الميدانى، إن أهم ما تعلمه الأرجنتينيون أن انتهاك حقوق المعارضين بل وانتهاك حقوق الإنسان لاعلاقة له بالحفاظ على الأمن القومي، حيث قبل الأرجنتينيون فكرة تعرض فصيل من الشعب “اليساريين” لهذه التجاوزات في سبيل الحصول على الاستقرار وحماية البلاد من المخططات السوفيتية لتحويل الأرجنتين إلى كوبا أخرى.
لكن اليوم هناك قناعة كبيرة لدى المواطنين في الأرجنتين وأيضا في معظم دول القارة اللاتينية التي تتشابه تاريخيا إلى حد بعيد أنه يمكن الحفاظ على الأمن القومي في ظل نظام يحترم حقوق الإنسان وقوانين تجرم ارتكاب انتهاكات في حق المعارضة. بل والأكثر أن النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي قد تحقق مؤخرا في ظل أنظمة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان. وفي نهاية الورقة البحثية أشارت الباحثة إلى دور الفن في إصلاح المستقبل، وذلك كأداة لحفظ ذاكرة الأمة وتوثيق حقيقة ما حدث في الأرجنتين من تجاوزات خلال فترة الحكم السلطوي. وباعتباره ثانيا وسيلة لتعليم الأجيال الحالية والقادمة أنه لا يمكن قبول تكرار أخطاء الماضي.
أما التعقيب المهم الذي قدمه الدكتور شفيع خضر عن الخبرات السودانية، وطبيعة التفاعلات بشأن العدالة الانتقالية فقد أشار فيه إلى أن ما حدث في الأرجنتين من قيام النظام وشركائه بانتهاك حقوق المعارضيين تحت اسم الدفاع عن المسيحية ضد خطر الشيوعية حدث في السودان ولكن تحت شعار الدفاع عن الإسلام وحمايته، وقال إن بلاده قد شهدت بداية مسار العدالة الانتقالية في أثناء التفاوض بين الحركة الشعبية لجنوب السودان والحكومة المركزية لوقف الحرب.
وكان المطلوب هو كتابة الحقيقة وتفعيل المصالحة الوطنية، لكن الحكومة قبلت بالمصالحة ورفضت الحقيقة وبالتالي توقفت عملية العدالة الانتقالية قبل أن تبدأ. وأوضح الدكتور شفيع أن مفهوم العدالة الانتقالية في السودان يجب أن يعني التأكيد على فكرة لا إفلات من العقاب. بالإضافة إلى عدم قصر الجرائم على انتهاكات حقوق الإنسان بل يجب أن تتسع لتشمل جرائم الفساد المالي أيضا.
وربما تكون هذه الخبرات العلمية والميدانية مفيدة في فهم أن عملية العدالة هي عملية طويلة ومعقدة وممتدة وتعتمد بالأساس على فكرة النفس الطويل، كما أنها مرتبطة بإيمان المجتمعات بأهمية تحسين جودة الحياة ليس فقط اجتماعيا واقتصاديا بل أيضا في مسألة العدالة.