في مثل هذا اليوم، 27 يناير، من عام 2014، أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة عن ميلاد الجمهورية المصرية الثالثة، بفتح الطريق لتولي المشير عبد الفتاح السيسي، رئاسة الدولة. وقد أعاد هذا القرار مصر من جديد إلى قواعد دولة يوليو الحاكمة، والتي جعلت من المؤسسة العسكرية وصيا على الدولة والشعب والمجتمع. ذلك بعد هدنة قصيرة من شبه الاستقلال لم تكمل العام الواحد، آخذة بمقولة رئيس المخابرات الأسبق، اللواء عُمر سليمان، بأن الشعب المصري ليس مؤهلا بعد للديمقراطية.
في 18 يونيو عام 1953، تأسست الجمهورية المصرية الأولى بقرار من مجلس قيادة الثورة، بعد قرابة عام على الانقلاب العسكري الذي نفذته مجموعة من الضباط الشباب فجر 23 يوليو عام 1952. وقد تأسس واستمر هذا النظام على مجموعة من القواعد والمبادئ والظروف والسلوكيات المتباينة والمتضاربة أحيانًا.
فقد كان هؤلاء الضباط أبناء لحظة تاريخية فريدة سياسيا واجتماعيا، حيث كان يسيطر على هذا الجيل أفكار وقضايا ابنة عصرها مثل الاستقلال وإعادة توزيع الثروة وتغيير البُنى الاجتماعية. لكن اتسمت سلطتهم بالحكم المطلق دون رقيب. وهو ما جعل من الفساد السياسي والأمني والمالي والديكتاتورية والقمع جزءا أصيلا من جمهوريتهم. كما كان سببا رئيسيا وجوهريا في نهايتها المأساوية في الخامس من يونيو عام 1967 بهزيمة عسكرية من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي.
وعقب تلك الهزيمة بدأت إرهاصات الجمهورية الثانية، والتي تأسست على يد الرئيس الأسبق أنور السادات. وأعتقد بأن إشارة تأسيسها رسميا قد انطلقت عام 1975 مع زيارته للولايات المتحدة الأمريكية. وقد حاول نظام الحكم خلالها بتفادي ما رأى إنه سبب هزيمة سلفه، متمثلا في الحماس والاندفاع والمغامرات السياسية والعسكرية والزعامة الإقليمية والدولية، واللعب غير الآمن بين القوى العُظمى.
وقد سار النظام في ذلك الدرب حتى وصل إلى النقيض من سلفه. وأصبح على العكس تماما من تلك السياسات، فآثر التبعية والسكون والتبلد حتى وصل مع نهاية عهد مبارك إلى أبعد مما تخيل أحد يوما ما. حيث صارت مصر تسير في ركب القوى الإقليمية والدولية، ووهن دورها، وتخاذلت عن القضايا المؤسسة لتاريخها الحديث، تزامنا مع تدهور حالة رأس النظام، الذي أصبح أشبه بالجثة الهامدة الممددة فوق عرشه. بينما يتنازع أركان حكمه -وأسرته- مقدرات الدولة والسلطة. وقد انتهت هذه الجمهورية أيضا نهاية ساحقة عصر يوم الجمعة 28 يناير عام 2011.
وعقب سقوط نظام مبارك، احتدم صراع شديد بين القوى والأيدولوجيات والرؤى والتحالفات والمشاريع السياسية، بين نظام سقط لكنه لم يمت، ونظام جديد لا يكاد يرى له ملامح من شدة الاضطراب، والذي أججه توغل نافذ من القوى الإقليمية ذات المشاريع المتضاربة نتيجة ضعف الدولة. ووسط كل ذلك الزحام العنيف كانت هناك المؤسسة العسكرية وعلى رأسها الجنرال العجوز، صاحب الخمس وسبعين عامًا، تحاول تحجيم هذا الصراع، وإدارة الدولة.
وهو ما كان فوق قدراتها، وصارت لعام ونصف بكثير من التخبط وانعدام الرؤية ناتج عن الضعف السياسي الشديد. إلى أن قررت تسليم مقعد الحكم واسناد مهمة إدارة “بعض” شؤون الدولة لجماعة الإخوان المسلمين، مع احتفاظ المؤسسة بدور المراقب لبعض الملفات، والمشارك في إدارة البعض الآخر، والمسيطر تماما على شؤون بعينها مثل الشأن العسكري.
كان قرار تسليم الجماعة حكم مصر مستندا لكثير من العوامل الداخلية والإقليمية والدولية. فداخليا كان لدى المؤسسة العسكرية اعتقاد بقوة الإخوان وقدرتهم على تيسير شؤون الدولة وإدارة الخلاف. وهو ما عملت الجماعة على التأكيد عليه خلال فترة الحكم الانتقالي منذ خروج مبارك وحتى موعد الإعلان عن الانتخابات الرئاسية بالحشد الجماهيري ضد المجلس العسكري تارة وبالحشد لصالحه تارة أخرى، وبمواجهته أحيانا ومواجهة خصومه أحيانا أكثر. وقد أظهرت الإدارة العسكرية للبلاد إبان فترة الحكم الانتقالي كثير من الود والتقارب والدعم للجماعة منذ اللحظة الأولى.
وجدير بالذكر أن المؤسسة كانت تنظر للجماعة نظرة مختلفة عن نظام مبارك قبل اندلاع الثورة. وقد كان بعض أعضائها -لا سيما نواب مجلس الشعب الممثلين عن الجماعة- يدعون إلى لقاءات مع المشير طنطاوي وبعض قيادات الجيش. وربما كانت تلك النظرة سببا في عدم وجود رفض قاطع لحكم الجماعة من قبل المؤسسة، على عكس مؤسسات أخرى بالدولة كجهازي الاستخبارات العامة وأمن الدولة، والذي تغير اسمه للأمن الوطني بعد الثورة.
كما كان الظرف الإقليمي مواتي للغاية. حيث استطاعت القوى ذات الطابع الإسلامي بما يشبه احتواء الربيع العربي في معظم دوله. وربما كان ذلك نتيجة الرعاية الإقليمية والدولية لهذا التيار منذ عقود. ثم تحوله إلى مشروع سياسي مدعوم ماليا وإعلاميا وسياسيا بشكل منظم لعقود خلت.
كما أن القوى الديمقراطية الغربية كانت -رغم توجسها- تتبنى بدرجة معينة افتراضا بقدرة القوى السياسية الإسلامية المعتدلة -أي تلك التي لا تتبنى العنف بشكل علني- مثل الإخوان المسلمين على مواجهة القوى الإسلامية المتطرفة والعنيفة مثل القاعدة ثم داعش لاحقا. وهو ما كان له تأثيرُ أيضا على الآراء داخل المؤسسة العسكرية التي كانت تنظر إلى الدعم الإقليمي والدولي كأحد أهم ركائز استقرار الدولة.
وبالفعل، في الثاني من أغسطس عام 2012، أدى المشير محمد حسين طنطاوي اليمين الدستورية وزيرا للدفاع أمام الرئيس المنتخب، محمد مرسي، والذي -لسوء حظ مصر- لم يستوعب ذلك المنصب ولا اللحظة الاستثنائية التي تعيشها البلاد والإقليم بأكمله. وكما كان مفاجئا للجميع هشاشة نظام مبارك، تفاجئ الجميع أيضا بأداء جماعة الإخوان.
فبين قلة الحكمة والحنكة السياسية مع انعدام الخبرة في إدارة شؤون الدولة، وفي نفس الوقت الرغبة الشديدة والعزم على فرض أجندة بعينيها، وأيدولوجية غير واضحة ومبهمة للجميع، وكذلك الاستحواذ على كل ما تطاله أيدي أفرادها من نفوذ، أدى إلى انفصال الجماعة انفصالا تاما عن الواقع الذي يحيط بها. وذلك تزامنا مع استمرار الحالة الثورية واشتداد الاضطراب السياسي داخليا واقليميا ودوليا. وهو ما أكسب الجماعة عداء قطاعات واسعة وكثيرة جدا من فئات الشعب ومن القوى الإقليمية والدولية ومن مؤسسات الدولة التي من المفترض أن تكون أداة الحكم، حتى وصلنا ليوم الثالث من يوليو عام 2013.
منذ ذلك اليوم هرولت الأحداث بشكل هيستيري وعنيف كاد أن يتحول إلى حرب أهلية واسعة بين العديد من الأطراف. فهناك جماعة تم إقصاؤها من الحكم قبل أن ترتوي من مغانمه، ومؤسسة أمنية تريد أن تنتقم، وقوى سياسية وشبابية متشرذمة وضعيفة، وقوى إقليمية ودولية متصارعة، وتحالف داخلي سياسي وأمني وعسكري ليس لديه خطة ولديه من الهواجس والمخاوف الداخلية والخارجية أكثر من خصومه أصحاب اليقين بالنصر والحق والقوة.
وقد دفعت هذه الخلطة المعقدة والعنف الواسع نحو الديكتاتورية العسكرية من جديد. ولكن بشكل أعمق وأشد وأقوى، ورغم الآراء والظنون والاتهامات التي تروج منذ ذلك اليوم. إلا أنني اعتقد -اعتقادا مدعوما بكثير من الشواهد والأحداث والشهادات- بأن السيسي لم يكن لديه طموح ولا أمل في حكم مصر قبل 30 يونيو ولا حتى قبل مظاهرات التفويض.
على كلٍ، فقد بدأت مصر منذ تولي المشير عبد الفتاح السيسي رئاسة الجمهورية عهدا جديدا، ونظام حكم متصل بدولة يوليو لكنه يختلف عن نسختيها السابقتين تماما.
كان لدى الضباط الأحرار سابق خبرة سياسية وعمل عام لسنوات قبل الاستيلاء على الحكم فجر يوم 23 يوليو عام 1952. كما كان لديهم مشروعا سياسيا وإن شابه الكثير من التخبط والفساد والظلم.
كما كان للرئيس السادات قبل تولي الحكم تاريخا طويلا من العمل داخل الدولة والنظام، وكان لديه رؤية في الحكم والسياسة, كما كان لمبارك تاريخ من العمل الإداري والتنظيمي والوظيفي في أروقة الحكم. أما الرئيس السيسي، فرغم مؤهلاته وقدراته ومقوماته الشخصية التي أهلته لتولي أعلى المناصب داخل الجيش إلا أنه قد تولى رئاسة البلاد دون خبرة سياسية ولا برنامج ولا خطة إلا ما تعلمه من قواعد داخل المؤسسة العسكرية. وهو ما أصبح لاحقا أهم قواعد ومبادئ حكمه.