حمل تكرار جماعة الحوثي اليمنية استهداف الإمارات بضرباتها الصاروخية -المرة الثانية خلال أسبوع- رسائل شديدة الخطورة، للدولة التي تقدم نفسها كملاذ آمن للاستثمارات العالمية، ومركزا للمال والأعمال، بفنادقها الفخمة وأبنيتها الحديثة وتقدمها في مجالات التكنولوجيا المختلفة. فمنذ انخراط الإمارات في الحرب اليمنية عام 2015، ضمن التحالف الذي قادته المملكة العربية السعودية، سعت إلى تجنب أسوأ مخاوفها. وهو استهداف لعمقها بضربات، قليلة الكلفة، عميقة التأثير على سمعتها في منطقة الشرق الأوسط التي تعج بالصراعات.
هنا، وجد الحوثيون ضالتهم في استهداف “سمعة الإمارات” في وقت تسعى فيه لاستقطاب مزيد من الحركة التجارية والسياحية. إلى جانب فتح آفاق الاستثمار الخارجي، وإعادة ترتيب أوراقها الاقتصادية والسياسية في الإقليم، للتعافي من التداعيات والخسائر التي خلفتها جائحة كورونا.
الاقتصاد الإماراتي السائل
يعتبر الاقتصاد الإماراتي من الاقتصادات السائلة التي تعتمد على السياحة والتجارة، بالإضافة إلى النفط. وهذا النوع لا يحتمل التداعيات السلبية التي تخلفها التهديدات والأعمال العسكرية. إذ تجني الإمارات معظم دخلها من السياحة والاستثمارات الأجنبية وأبراجها الضخمة والنفط. وهو ما دفع المتحدث العسكري باسم الحوثيين العميد يحيى سريع -في إطار الحرب النفسية- لدعوة الشركات الأجنبية في الإمارات للمغادرة لأنها أصبحت دولة غير آمنة.
وبلغ حجم الرصيد التراكمي لتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في الإمارات، وفقًا لإحصائيات رسمية حديثة، نحو 174 مليار دولار. ويتركز معظمها في قطاعات السياحة العقارات والنفط والغاز والاقتصاد الرقمي والابتكار والتكنولوجيا.
ووفقًا لتقرير الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي للعام 2021 الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “الأونكتاد“، حلت الإمارات في المرتبة الأولى عربياً والـ15 عالمياً من حيث قدرتها على جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، متقدمة 9 مراكز عن ترتيبها في تقرير العام 2020.
وأوضح التقرير أن الإمارات استطاعت جذب استثمارات أجنبية مباشرة في العام 2020 بلغت قيمتها نحو 19.9 مليار دولار. ذلك بنسبة نمو 11.24% عن العام 2019. لتتصدر المرتبة الأولى عربيا، مستحوذة على 49% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة المتدفقة إلى مجموعة الدول العربية.
كما احتلت الإمارات المرتبة الأولى على مستوى غرب آسيا، مستحوذة على ما نسبته 54.4% من إجمالي التدفقات الواردة إلى هذه المنطقة البالغة 36.5 مليار دولار.
أما على صعيد القطاع السياحي، تصدرت الإمارات قائمة الوجهات السياحية العشر الأبرز في العالم. وقد سجلت نسبة إشغال في المنشآت الفندقية والسياحية 62%، خلال النصف الأول من العام 2021. وخلال النصف الأول من العام 2021، حققت المنشآت الفندقية والسياحية في الإمارات نموا نسبته 15%، مستقطبة 8.3 ملايين سائح. بينما بلغت عائدات المنشآت الفندقية خلال النصف الأول من 2021 نحو 11.3 مليار درهم نحو (ثلاثة مليارات دولار)، محققة نموًا نسبته 31%.
مكمن الخطورة في الحالة الإماراتية
يأتي مكمن الخطورة في الحالة الإماراتية من امتلاك جماعة الحوثي للأدوات والوسائل التي تمكنها من الوصول لنقطة ضعف الدولة الخليجية.
ويمتلك الحوثيون طائرات مسيرة، منها ما هو انتحاري. ذلك بخلاف صواريخ متوسطة المدى، زودت بها ترسانتها الحربية من إيران. إضافة لتلك التي استولت عليها بعد السيطرة على مخازن أسلحة جيش الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، بشكل جعلها قادرة على الوصول للعمق الإماراتي.
رغم أن الهجوم الثاني للحوثيين على أبوظبي كان أصغر نطاقًا. إلا أنه يعد مؤشرا خطيرا سيتبعه العديد من الانعكاسات الاقتصادية والسياسية. فلا يمكن أن السائحين أو المستثمرين الأجانب سيأتون على سبيل المثال إلى دبي، وهي معرضة لهجمات صاروخية، حتى لو كانت خسائرها البشرية محدودة.
وفي تحذير أمني نادر، حثت السفارة الأمريكية مواطنيها في أعقاب الهجمات الصاروخية التي تصدت لها الدفاعات الجوية، على “الحفاظ على مستوى عال من الوعي الأمني”. فيما يعد هذا النوع من التحذيرات الصادرة عن سفارات الدول الكبرى، مؤثرا بدرجة كبيرة في توجهات حركة السياحة حول العالم.
وقد أظهرت بيانات لموقع “فلايت رادار” المختص بالملاحة الجوية تعطلا مؤقتا في هبوط وإقلاع الطائرات بمطار أبو ظبي من الساعة 3:20 يوم الإثنين وحتى 4:30 من صباح اليوم ذاته. وذلك حمل رسالة وصلت دلالاتها السلبية لكافة رواد الدولة التي تقدم نفسها كمركز للأعمال والترفيه.
وتواصلت التداعيات السلبية جراء الضربة في هذا اليوم. وأغلق مؤشر سوق أبوظبي للأسهم -في أول رد فعل للضربات- منخفضًا. ذلك بعدما تخلى عن مكاسبه الأولية. كما انخفض المؤشر الرئيسي لسوق الأسهم في دبي 2
%. في حين تراجع مؤشر بورصة أبوظبي 0.3 بالمئة مع استمرار التداول يوم الإثنين الماضي على وقع الضربات.
“أكسبو” في مرمى الخسائر
بمحازاة ذلك تمثل التهديدات الحوثية بمواصلة استهداف الإمارات خطرا حقيقيا يتعلق بمعرض “إكسبو 2020” المقام في إمارة دبي، والتي خططت لاستضافة 25 مليون زائر خلال فعالياته.
وقد حذر جيمس سوانستون من “كابيتال إيكونوميكس” من أن وقوع المزيد من الهجمات قد يتسبب في انزعاج السائحين الذين يخططون للسفر في رحلات إلى الإمارات. وأضاف أن أي ضربة كبيرة لمنشآت إنتاج النفط في الدولة العضو في منظمة أوبك ستشكل خطرًا جسيمًا على نمو الناتج المحلي الإجمالي.
ويمثل دخول الإمارات دائرة أهداف الحوثي، ضربة في مقتل، لصورة الإمارات وسمعتها باعتبارها دولة رفاهية عالية واقتصاد وخدمات رفيعة المستوى. فيما يقيم مركز “ستراتفور” الأميركي للدراسات الأمنية والاستخباراتية -الذي يوصف بقربه من الاستخبارات الأمريكية- هجوم الحوثيين الأخير على أبو ظبي بأنه قد يؤدي إلى سلسلة من الضربات التي تقوض سمعة الإمارات كمركز تجاري آمن.
الضغط على الإمارات.. هدف استراتيجي
المدقق في نطاق الاستهداف الحوثي للإمارات مؤخرا، وتكراره الذي جاء على وقع تقدم ألوية العمالقة اليمنية -المدعومة إماراتيا- وطردها مليشيات الجماعة اليمنية من محافظة شبوة، سيدرك أن الهدف الأساسي للحوثيين وحليفهم الإيراني، هو الضغط على أبوظبي. ذلك في سبيل إبعادها عن الصراع في اليمن، وترك المملكة العربية السعودية بمفردها.
خاصة، وأن الجماعة لن يكون لديها أية حساسية، إذا توقف الدعم الإماراتي عند حد حلفائها الجنوبيين فقط، ولم يتقاطع مع أهدافهم في شبوة، وشمل وقف تقدم القوات الموالية للحكومة الشرعية في مأرب الغنية بالنفط.
المنهج الإماراتي للتعامل مع الصداع الحوثي
تجد الإمارات نفسها في مأزق بالغ الحساسية، كون كافة الخيارات المتاحة أمامها محفوفة بالمخاطر، في وقت يعد الاستقرار أمرًا حيويًا لصورتها. فهي لا تُريد أن ينظر إليها على أنها مكان يعاني حتى من هجمات متفرقة.
فإذا اتخذت قرار التصعيد العسكري في مواجهة الاستهداف الحوثي لأراضيها، على أمل القضاء على قدرات الجماعة العسكرية في وقت قصير، لن تكن في مأمن من ضربات عشوائية عبر الطائرات المسيرة “الطائشة”. وقتها سيقع المحظور الذي تجنبته طيلة السنوات الماضية، وستتلاشى صورة الدولة الأمنة بنسبة مئة بالمئة.
أما الخيار الآخر، فهو امتصاص الضربات والاكتفاء برد شكلي. ذلك في مقابل تكثيف البحث عن قنوات اتصال حقيقية وأهداف مشتركة يسهل تحقيقها مع “الوكيل الإيراني”. إلى جانب ابتلاع مرارة “طعنة الظهر” التي جاءت من طهران، في ظل تنامي العلاقات مؤخرًا بين البلدين، والذي يأتي في وقت كانت الإمارات تستعد لزيارة الرئيس الإيراني إيراهيم رئيسي.
تحرك موازِ
تسعى أبوظبي لتصدير ضغوط دولية على الحوثيين ومن خلفهم إيران. ذلك عبر الدفع لتصنيف الحوثيين جماعة إرهابية. خاصة بعدما نجحت في تمرير مشروع قراراها في الجامعة العربية بالإجماع، والداعي لاعتبار “أنصار الله” تنظيما إرهابيا.
ونجحت الإمارات في مساعيها جزئيا. إذ أكد الرئيس الأمريكي أن وضع ميليشيات الحوثي على قوائم الإرهاب مجددًا مسألة قيد النظر. وكان ذلك في أعقاب الهجمات الأولى التي استهدفت منطقة مصفح. وهو ما يأتي مخالفًا لقرار سابق لإدارة جو بايدن التي ألغت تصنيف الحوثيين اليمنيين ضمن الجماعات الإرهابية في فبراير 2021.
إدارج الحوثيين ضمن قائمة الإرهاب الأمريكية ليس التحرك الأمريكي الوحيد الذي تسعى إليه الإمارات. فهي تستهدف بدرجة كبيرة جر واشنطن للانخراط في المعركة العسكرية في اليمن أو على أقل تقدير تقديم الدعم العسكري.
وبدون قصد ساعدت جماعة الحوثي أبوظبي فيما تحاول الوصول إليه بالاستهداف الصاروخي الثاني للإمارة. ذلك بعدما وجهت أحد صواريخها صوب قاعدة الظفرة التي تتمركز بها القوات الأمريكية. وهو ما دفع قيادة القوات الجوية الأميركية بالقاعدة للتعامل مع الأمر. وقد أكدت -في بيان رسمي- أنها تعاملت مع تهديدات هجوم أبو ظبي، وإن قواتها دخلت حالة تأهب قصوى.
وأكدت القيادة الأميركية الوسطى أنها مستعدة للرد في حال وقوع أي هجمات أخرى. وواكب ذلك، حديث الناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية “البنتاجون” ديفيد كيربي. قال إن إدارة الرئيس جو بايدن ستبحث إمكانية أن يكون الهجوم على قاعدة الظفرة يستهدف القوات الأميركية. وأضاف أن بلاده تأخذ ذلك على محمل الجد.