رأيت أن وفدا برلمانيا مصريا رفيع المستوى توجه إلى هرجيسا عاصمة صوماليلاند في زيارة عمل وكأنه يقتفي أثر الملكة حتشبسوت التي سجلت أحداث رحلتها إلى بلاد بونت على جدران معبدها بالدير البحري في مدينة الأقصر. لقد كانت هذه المنطقة ذات الأهمية البالغة في قلب الفكر الاستراتيجي المصري منذ القدم وحتى بناء الدولة الحديثة. ألم يفقد شهيد الدبلوماسية المصرية محمد كمال الدين صلاح حياته غدرا على يد أعوان الاستعمار عام 1957 نظرا لدفاعه عن القضية الصومالية؟ ولايزال مقر البعثة الثقافية المصرية في منطقة المجمع الحكومي بالعاصمة هرجيسا ، والذي يضم آلاف الكتب شاهدا على حكمة مصر الناصرية في توجهها نحو عمقها الاستراتيجي في الجنوب. خرج الناس الذين أعياهم الحنين لمصر ودورها البارز في مناصرة قضايا أشقائها من كل حدب وصوب يحتفلون بهذا الوفد الذي يمثل لهم بشارة خير.
سرعان ما استيقظت من نومي، وقلت اللهم اجعله خيرا. من الواضح أن ما رأيت كان من قبيل التمني للهروب من عبثية الواقع وتحولاته الدرامية. فقد أضحت الصومال بكل تعقيداتها واختلاف مسارات بناء الدولة في أقاليم الأمة الصومالية وكأنها باتت نسيا منسيا في ذاكرتنا العربية، وهي تلك الأرض المباركة التي دخلها الإسلام عن طريق تجار زيلع قبل أن يصل إلى المدينة المنورة.
عود على بدء: أصل الحكاية
على الرغم من حرب التيجراي وصراع الأخوة الأعداء على سلطة مهددة في مقديشيو ودولة مغلقة أشبه بالنمط الكوري الشمالي يحكمها أسياس أفورقي، تقف جمهورية صوماليلاند وكأنها تقدم لنا شعاع الأمل في غد أفضل حيث أضحت نموذجا يُحتذي في الحوار الوطني وتداول السلطة بشكل سلمي منذ عام 1991 حينما قررت العودة إلى أيام الاستقلال الأولى بعد تصفية الاستعمار البريطاني. في 26 يونيو عام 1960، ظهرت صوماليلاند كدولة مستقلة عن التاج البريطاني بعد أن كانت محمية بريطانية لسنوات عديدة. ومما يجعل تجربتها فريدة في التاريخ الأفريقي الحديث أنها تخلت طوعا عن استقلالها بعد خمسة أيام فقط من الاعتراف الدولي بها لتقرر الاندماج مع إقليم الصومال الإيطالي والاعلان عن تأسيس جمهورية الصومال. كان حلم الصومال الكبير لا يزال يراود جميع أبناء الأمة بما في ذلك إقليم العفر والعيسى (جيبوتي حاليا) الذي استوعبته فرنسا في رابطتها الفرنكوفونية والصومال الغربي الذي ضمته أثيوبيا بالحيلة والمقاطعة الحدودية الشمالية الشرقية في كينيا التي تخلت عنها بريطانيا لصالح الحركة الوطنية الكينية.
بيد أن حلم زعماء الحركة الوطنية في صوماليلاند بالوحدة المتكافئة ذهب أدراج الرياح. في غضون عقد من الزمان، انهارت جمهورية الصومال الجديدة. اغتيل رئيسها الثاني عبد الرشيد علي شارماركي على يد حراسه الشخصيين. بعد ذلك استولى المجلس العسكري الماركسي على السلطة بقيادة محمد سياد بري، الذي تبني نمطا شموليا متطرفا في الحكم. ألغى الرجل الديمقراطية التعددية ودمر الاقتصاد من خلال تأميم كل شيء تقريبًا باستثناء قطعان الإبل. كما شن حربا كارثية ضد إثيوبيا. وعندما تمرد أبناء الشمال، قصف هرجيسا بالطائرات وقتل الآلاف من المدنيين. ومع اشتداد حدة المعارضة ضده، رفض بري التفاوض مع زعمائها قائلاً: “عندما أغادر الصومال، سأترك ورائي مبانٍ لكن بدون قاطنيها”. وبالفعل عندما هرب في عام 1991، كانت البلاد قد غرقت في فوضى لم تخرج منها بعد. أبت صوماليلاند أن تكرر الخطأ مرة أخرى فوضعت نُصب الحرب التذكاري في قلب هرجيسا شاهداً على ما قدمته من تضحيات، حيث يتألف من جداريات فنية تسجل شجاعة المقاومة الوطنية، وفي قمة النُصب بقايا طائرة مقاتلة من طراز ميج-17 سوفيتية الصنع. إنه يمثل الذاكرة الحية في وجدان أبناء صوماليلاند وكأنه جرح غائر لا يندمل. ولعل ذلك هو ما دفع الجميع شبابا وشيوخا إلى العودة إلى نقطة البدء حينما حصلت المحمية البريطانية على استقلالها لأول مرة باعتراف العديد من الدول آنذاك.
منذ إعلانها الاستقلال الثاني عام 1991 أجرت صوماليلاند انتخابات تنافسية حرة مع تداول سلمي للسلطة، ولديها جيش محترف وشرطة مدنية ودستور وعلم وجواز سفر. أي أنها دولة مكتملة الأركان لا ينقصها سوى وثيقة الميلاد التي تعترف بوجودها في المجتمع الدولي.
يبدو أن بنية التنظيمات القارية الأفريقية تخشى من تكرار تجربتي كل من أريتريا وجنوب السودان حيث أدى استقلال كل منهما إلى زيادة عدد الدول الفاشلة في القارة الأفريقية. وعلى الرغم من خطأ القياس والمشابهة مع حالة صوماليلاند فقد تداول الاتحاد الأفريقي هذه القضية في عام 2005 بإرسال بعثة لتقصي الحقائق إلى صوماليلاند. كان التقرير النهائي للبعثة من حيث معناه ومبناه مؤيد لمطالب أبناء صوماليلاند. لقد خلص التقرير إلى أن “بحث صوماليلاند عن الاعتراف هو أمر متفرد تاريخيًا ولا يحتاج إلى تبرير من الآخرين في التاريخ السياسي الأفريقي”. ومع ذلك فقد عمد الاتحاد الأفريقي إلى إحالة هذه القضية للتفاوض بين حكومتي مقديشو وهرجيسا. منذ ذلك الوقت لم يتحمل الاتحاد الأفريقي مسئوليته على الرغم من عبثية المفاوضات التي تمت بين صوماليلاند والحكومة الفيدرالية الضعيفة بوساطات تركية وكينية وجيبوتية.
التحولات الدولية وقضية الاعتراف
على الرغم من وجود بعثات تمثيلية لعدة دول في العاصمة هرجيسا ،بل وقيام بعض الدول بالتعامل المباشر مع حكومة صوماليلاند فإن هناك ثلاثة متغيرات هامة سوف يكون لها ما بعدها من تداعيات بالنسبة لمسألة الاعتراف الدولي الذي تحاول أن تحصل عليه هذه الدولة ولو بشق الأنفس.
أولا: الهرولة الأمريكية تجاه صوماليلاند: في منتصف ديسمبر 2021 زار وفد من الكونغرس الأمريكي هرجيسا ، وهو ما يمثل أعلى مستوى حكومي يزورها منذ أكثر من عشر سنوات. تضمنت بعثة تقصي الحقائق أعضاء طاقم السناتور جيم ريش والسناتور ليندسي جراهام، والنائب كريس سميث، والنائب كاي جرانجر، والنائب مايكل ماكول ، العضو البارز في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب. وقد عاد هؤلاء إلى بلادهم وهم على قناعة تامة بأهمية صوماليلاند في مواجهة النفوذ الإقليمي للصين. ويبدو أن الاغراءات المقدمة لإدارة بايدن لا يمكن مقاومتها في عصر تتعرض فيه الهيمنة الأمريكية لتحديات جمة من قبل كل من الصين وروسيا. تقدم صوماليلاند أوراق اعتماد قوية باعتبارها مناهضة- على غير المعتاد في الخبرة الأفريقية – للنفوذ الصيني: فقد رفضت بإباء وعزة نفس المساعدات والتعاون مع بكين في يوليو 2020 وعوضا عن ذلك وقعت اتفاقية علاقات دبلوماسية مع تايوان، وهو ما أثار حفيظة الصين.
تتمتع صوماليلاند كذلك بإمكانيات جيوستراتيجية بالغة الأهمية من حيث موقعها على خليج عدن وميناء بربرة ، حيث قامت موانئ دبي العالمية بضخ نحو 442 مليون دولار لبناء مرفق جديد لشحن الحاويات ، وهو ما يجعل الميناء مركزا تجاريا وملاحيا مهما في كل من شرق أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط. ولعل ذلك يمثل عامل جذب لصانع القرار الأمريكي نظرا إلى المخاوف الأمنية للقيادة الأمريكية في إفريقيا بشأن قاعدتها في جيبوتي المجاورة حيث تم إنشاء قاعدة بحرية صينية على بعد أميال قليلة في عام 2017. لم يأت هذا التحول الأمريكي من فراغ بل سبقه جهد دؤوب من قبل النشطاء ووزارة الخارجية في هرجيسا من أجل الدفاع عن قضية بلادهم . ومن المتوقع أن يقوم الرئيس موسى بيهي بزيارة إلى واشنطن.
تانيا النقاش في مجلس العموم البريطاني : في تطور نادر وغير مسبوق اجتمع نحو عشرين نائباً بريطانياً في 18 يناير 2022 لمناقشة الاعتراف باستقلال جمهورية صوماليلاند. وقد حظي هذا النقاش العام باهتمام كبير وإجماع حزبي ، وهو أمر قليل الحدوث في التقاليد البرلمانية البريطانية. كانت الحجة البارزة هي الاستقرار مقابل الفوضى. فثمة إجماع على أنه في مقابل دراما بناء الدولة التي تمثله مقديشيو نجد أن تجربة هرجيسا تقدم قصة نجاح بالاعتماد على مواردها الذاتية وسواعد أبنائها في الداخل وفي بلاد المهجر. إنها حقا قصة مدينتين! ويلاحظ في هذا المقام وجود جالية من صوماليلاند في مدينة شيفلد البريطانية، وهو ما دفع مجلس المدينة في عام 2014 للاعتراف بصوماليلاند كدولة مستقلة ذات سيادة.
ثمة تحولات فارقة في قضية الاعتراف بجمهورية صوماليلاند. يلاحظ المستمع لتدخلات أعضاء البرلمان البريطاني تغير الخطاب السائد والتأكيد على المبررات الأخلاقية والقانونية والسياسية والاقتصادية للاعتراف بدولة صوماليلاند. وكما هو في الحالة الأمريكية هناك حركة نشطة من نشطاء المهجر والتي كانت نتيجتها انضمام عدد كبير للجنة البرلمانية العابرة للأحزاب حول صوماليلاند في مجلس العموم البريطاني. بل إن جافن ويليامسون ، منظم المناظرة ، والذي أصبح بطلا شعبيا في وجدان أبناء صوماليلاند ، قام بزيارة هرجيسا خلال فترة عمله وزيراً للدفاع.
ثالثا الاعتراف الأثيوبي الضمني باستقلال صوماليلاند. في خطوة غير مسبوقة قامت أثيوبيا في يناير الحالي (2022) برفع درجة تمثيلها الدبلوماسي مع هرجيسا إلى مرتبة السفارة متكاملة الأركان لتصبح بذلك أول دولة في الإقليم والعالم يقدم على هذه الخطوة دون اعتراض كما هو معتاد من حليفه فرماجو السجين في فيلا صوماليا. صحيح أن دوافع هذه الخطوة تعبر عن نوايا متباينة من الطرفين إلا أنها سوف تغير من نمط التعامل الأفريقي المستند على قاعدة بقاء الأحوال على ماهي عليه. وللمصادفة بينما كان النقاش على أشده في بريطانيا حول مسألة الاعتراف بصوماليلاند كان رئيس جمهوريتها موسى بيهي عبدي والوفد المرافق يزور العاصمة الإثيوبية أديس أبابا حيث تم استقباله بحرارة في المطار من قبل رئيس الوزراء أبي أحمد. وثمة محاولات أثيوبية كذلك لإقامة قنوات اتصال مع زعيم المعارضة عبد الرحمن عيرو. ربما يشكل ذلك تغيرا فارقا في تكتيكات أبي أحمد الذي يحلم بإنشاء أسطول بحري تكون قاعدته ميناء زيلع ذو الأهمية الاستراتيجية. ولعل ذلك يُعيد إلى الأذهان مطالبة أثيوبيا التاريخية الحصول على ممر بحري في ميناء زيلع الذي كان آنذاك جزءا من المحمية البريطانية في صوماليلاند مقابل التنازل عن جزء من أراضي الأوجادين للإدارة البريطانية وفقا لاتفاقية 1944 بين بريطانيا وأثيوبيا. ومع ذلك فإن صوماليلاند تدرك مدي حساسية موقعها الجغرافي ومخاطر الانحياز في لعبة موازين القوى الإقليمية.
لمن الجائزة اليوم؟
بات الجميع يتحدث عن ضرورة الاعتراف بجمهورية صوماليلاند التي تمثل الجائزة الكبرى في منطقة القرن الأفريقي بالغة الأهمية من الناحية الاستراتيجية. لا تزال إثيوبيا منشغلة بمهمة ترتيب البيت ومنع الانحدار إلى سيناريو حافة الهاوية. إن آبي أحمد بحسب وصف أليكس دي وال أشبه بالبحار الذي يحافظ على سفينته من الغرق وسط الأمواج المتلاطمة ولكنه يفتقد مهارة القبطان الذي يأخذ سفينته إلى بر الأمان. ومن هنا نجد تغييرا مستمرا في خريطة تحالفاته. كما أن أريتريا التي تُعيد تجربة كوريا الشمالية في سياقها الأفريقي يحاول رئيسها العجوز إعادة ترتيب خريطة القرن الأفريقي وفق رؤيته الأيديولوجية وإن تجاوز حليفه آبي أحمد وميليشيا الأمهرة. ظهر ذلك واضحا من تشكيل ما يسمى بقوات البحر الأحمر العفرية لضمان استمرار حربه المقدسة ضد التيغراي. في ظل هذا السياق المركب تمثل صوماليلاند بموانئها الحيوية فراغا استراتيجيا سوف يسعى الطامحون إلى ملئه. إنه بديل أفضل من جيبوتى التي اكتظت بالقواعد الأجنبية واختلط فيها الحابل بالنابل . ولذلك من المتوقع أن تكون صوماليلاند مركزا تجاريا واقتصاديا عالميا يخدم منطقتي شرق أفريقيا والشرق الأوسط وما وراءهما. فهل تقود مصر ومن ورائها الدول العربية حملة الدفاع عن العمق الاستراتيجي المصري والعربي من خلال دعم طموحات أبناء صوماليلاند قبل فوات الأوان؟