في أعقاب الإطاحة بنظام الرئيس الراحل حسني مبارك. وفي 9 مارس/ آذار 2011 تم فض اعتصام في ميدان التحرير بالقوة بمشاركة عدد من البلطجية. حيث تم القبض على العشرات منهم بشكل عشوائي، وتم احتجاز المقبوض عليهم بالمتحف المصري، قبل أن يتم نقلهم إلى إحدى الوحدات العسكرية. بعد ذلك بيومين، فوجئت عائلة وأصدقاء الفنان التشكيلي زياد بكير، بخبر مفجع.
زياد، الذي اختفى عن الجميع منذ أحداث جمعة الغضب في 28 يناير/كانون الثاني، عُثر على جثمانه في مشرحة زينهم، واعتبرته السلطات مجهولًا ممن فقدوا حياتهم في تلك الليلة. بعد 42 يومًا قضتها أسرته في اللف والدوران على المستشفيات وما تبقى من أقسام الشرطة. وسط تساؤل يومي من أطفاله “بابا راجع امتى؟”.
جمعة الغضب
تحت شعار “جمعة الغضب”، خرج عشرات الآلاف في مصر بعد صلاة الجمعة في مظاهرات احتجاج يوم 28 يناير/كانون الثاني 2011. بدأت المظاهرات سلمية، لكن سرعان ما تحولت إلى مواجهات عنيفة مع قوات الشرطة التي كان يرأسها وزير الداخلية حبيب العادلي. وهو أحد أبرز من تحركت الاحتجاجات ضدهم.
استخدمت قوات الشرطة -التي انتشرت بكثافة في وسط البلد وعدة محافظات شهدت الاحتجاجات- عدة وسائل لتفريق المحتجين. منها الغاز المسيل لدموع، ومدافع المياه. لكن قبل حلول المساء بدأ المحتجون في السيطرة على الشوارع. وبدأت قوات الشرطة في الفرار. ليتم إعلان قرار الحاكم العسكري بحظر التجوال ونشر قوات من الجيش في الشوارع.
مع حلول المساء انتشرت مدرعات الجيش في شوارع القاهرة، وسارعت قوات من الحرس الجمهوري لتامين المباني الحيوية. مثل مبنى الإذاعة والتلفزيون، والقصر الجمهوري، ومحيط البرلمان. في الوقت الذي اندلعت حرائق في عدة مواقع، وأفادت انباء بانتشار الفوضى الأمنية. بعد قيام ضباط بفتح السجون.
بين المحتجين الذين سالت دماؤهم في أماكن متفرقة، وتلقت صدورهم العارية رصاصاً حياً ومطاطياً. واستقبلت أعينهم واستنشقت أنوفهم معه قنابل مسيلة للدموع، وقف زياد أحمد بكير في ساعاته الأخيرة. بعدها، لم يعثر أحد على الفنان التشكيلي صاحب السبعة والثلاثين عامًا، والذي كان أحد العاملين بدار الأوبرا المصرية.
البحث عن زياد
كان زياد بكير، حسب من عرفوه. فناناً مرهف الحس، شهد له كل من تعامل معه بحسن الخلق والصفات الطيبة. التحق للعمل بدار الأوبرا المصرية في عام 2001، كمصمم للجرافيك للمطبوعات الخاصة بالفرق الفنية التابعة للأوبرا. ثم التحق للعمل بإحدى شركات السياحة كمصمم للديكور، وفي عام 2008 عاد للعمل مرة أخرى بالأوبرا مصممًا ومشرفاً على المطبوعات. وهناك ذاع صيته وأبهر الجميع بحسه الفني وعالمية أعماله.
كذلك كان زياد مثقفاً ومحباً للعلوم إلى أبعد حد. عرف عنه شغفه بالجيولوجيا وعالم الصحراء، ومحبته للتصوير وعشق المغامرات. كان ذلك بجانب مسؤولية كبيرة تجاه أسرته وعائلته، وكان محباً للآخرين وأعمال الخير.
“بعد جمعة الغضب لم يعد مرة أخرى لمنزله”. هكذا أفادت ميريت بكير، شقيقة الفنان الراحل، في تصريح لمنظمة هيومن رايتس ووتش. كان ذلك وقت أن سادت موجة من الفوضى المعلوماتية وسط أيام من الاعتقال والاختفاء المفاجئ للعديدين. لكن مع ذلك ظل الأمل يراود الأسرة طويلًا تحت إلحاح أطفاله الثلاثة الذين لم ينفكوا عن سؤال والدتهم: ” بابا راجع امتى؟ هو فين يا ماما؟”.
كان مبعث الأمل في العثور على زياد حيًا إفادة أحد زملاء زياد لأسرته إنه رآه قرب منتصف الليل في وسط المدينة، بعد أربع ساعات من انسحاب الشرطة من المنطقة، وتولي الجيش مسؤولية الأمن. لكن، صاحب قرار الحاكم العسكري إيقاف خدمات الانترنت والهواتف المحمولة في أرجاء البلاد.
انقطاع الاتصالات قاد الأسرة إلى عمليات بحث طويلة، شملت مراكز الاحتجاز ومعسكرات الأمن المركزي ونقاط الاحتجاز التابعة لقوات الجيش. إلا انهم لم يتمكنوا من الوصول إلى أية معلومات عن زياد، في وقت أبلغ فيه أحد ضباط الشرطة شقيقته أن هناك محتجزين كثيرين، لكنه ليست لديه معلومات عن بكير، حسبما أفادت ميريت وقتها.
خلال عمليات البحث، تلقت الأسرة عدة اتصالات هاتفية من مصادر مجهولة وبأرقام خاصة. كان المتصلون يؤكدون أن زياد على قيد الحياة. بل ومحتجز في أحد المعتقلات لتأديبه “بقرصة ودن”، حسبما أفادت أسرته. بعد إطلاق عدة استغاثات والحديث إلى الإعلام، بدأت التهديدات تصل إلى الأسرة من قبل عناصر أمنية.
شهيد المتحف المصري
لم يتبق أمام الأسرة عمليات بحث أخرى سوى ثلاجات الموتى في المشارح الموجودة بالقاهرة. مع إرسال تلغراف -دون رد- بشأن اختفاء زياد إلى المشير الراحل حسين طنطاوي، وزير الدفاع ورئيس المجلس العسكري الذي أطاح بنظام الرئيس مبارك. لكن ظلت تلك المحاولات أيضًا بلا جدوى.
بعد الكثير من الأمل الذي تلاشى شيئًا فشيء، تيقنت أسرة بكير من فقدان ولدها تاركًا ثلاثة أبناء هم حبيبة وأدهم وأحمد. تراجعت طموحات الأسرة لتصل إلى محاولة العثور على جثمانه حتى يحصل على دفن لائق وزيارات من محبيه. حتى لقب “الشهيد” الذي سيلازمه إلى يومنا هذا، كان أمرًا مرهونًا بانتظار الخبر الأكثر حزنًا في حياة العائلة.
بالعودة إلى ما قبل الأيام الـ 42، التي سبقت العثور على جثمان كبير المصممين الراحل بالأوبرا المصرية. كان زياد يُعاني من الأنفلونزا، وكانت درجة حرارته مرتفعة. لكنه اصطحب زوجته وأطفاله الثلاثة إلى منزل الأسرة يوم 25 يناير، وكان مُصممًا على المشاركة في الاحتجاجات الشعبية المزمعة “عندما طالبته ألا ينزل، استمع لي. لكن عندما جاء يوم 28 يناير، طلب مرة أخرى أن أسمح له بالنزول”. حسبما حكت والدته.
وتابعت: ” قال لي قبل نزوله لن أتأخر ثلاث ساعات وسأعود. كان يرتدي ملابس جديدة وكان يبدو أنيقاً “زي ما يكون عريس”. وقفت أتابعه من الشرفة، رأيته يجري. تمنيت لو لم أسمح له بالنزول، أو أصل إليه لأطلب منه الرجوع، لكنه لم يعد بعدها. عندما وجدت والده يتساءل عن سبب تأخره مساء، رددت عليه دون تفكير، أنه مات. لا أعرف كيف نطقت هذه العبارة، وللأسف كانت الاتصالات مقطوعة، ولا توجد وسيلة نطمئن عليه”.
العثور على زياد
تابعت الأسرة في التلفاز خبر حريق المتحف المصري وهجوم البلطجية. كانت الأم على يقين أن ابنها لن يتوانى عن الذهاب إلى المتحف. تحقق حدس الأم، حيث تلقى زياد في ذلك الموضع رصاصة قناص نافذة من أعلى الصدر من اليمين إلى اليسار. دخلت الرصاصة من الرئة وخرجت من الكلى اليسرى أثناء جريه باتجاه المتحف لحمايته.
بعد 43 يوماً، استقبلت أسرة بكير مكالمة تليفونية من السيدة رانيا زوجة الشهيد طارق عبد اللطيف تبلغهم بأن هناك 7 جثث جديدة وصلت إلى المشرحة. وإنها عثرت على جثة زوجها من بينهم. كان ذلك بعد أن تلقت هي الأخرى مكالمات مجهولة بأن زوجها بأحد المعتقلات.
وللمرة الخامسة، أسرعت الأسرة للبحث في الجثث الجديدة بنفس المشرحة، وعلم أحد الأطباء هناك أن زياد مختفي من يوم جمعة الغضب فأكد لهم أن هناك جثة بالثلاجة من يوم 3 فبراير، ودعا الأسرة للتعرف عليها. دخل أخوه سيف لرؤية الجثة، لكن في المرة الأولى لم يتمكن من رؤية الجثة لاختفاء معالمها.
وفي المرة الثانية، بدأ يتسلل الشك إلى سيف بسبب شكل شعر المتوفى. لكن المرة الثالثة وجدت الأسرة علامة في قدمه أكدت لهم مبدئياً أنها جثة زياد، بعد ذلك تم عمل تحليل الحمض النووي ليؤكد شكوكهم.