في مطار أديس أبابا الدولي هبطت طائرته يوم السبت، 22 يناير/كانون الثاني، ليترجل منها بلباس أنيق ومُهندم وابتسامة واسعة -لم تُخفها كمامته- صافح بها وزير الدفاع الإثيوبي الذي كان في انتظاره أسفل سلم الطائرة، رفقة مسؤولين أمنيين آخرين. بعدها توجه نائب رئيس مجلس السيادة وقائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو الشهير بـ”حميدتي”، إلى مقر وزارة الدفاع حيث كان في انتظاره رئيس الوزراء آبي أحمد. زيارة نادرة وأولى لمسؤول كبير من السودان إلى الدولة المجاورة. ذلك بعد عام من التوتر في منطقة حدودية متنازع عليها، وقلق من تبعات سد النهضة وتأثيرات حرب التيجراي على نزوح اللاجئين الإثيوبيين صوب الجارة العربية.
ما ظهر من زيارة حميدتي النادرة إلى إثيوبيا
ما كان مُعلن من الزيارة هو بحث “مسار العلاقات الثنائية وسبل دعمها وتعزيزها بما يخدم مصالح البلدين الشقيقين”. فضلًا عن إزالة التوتر نتيجة التنازع على أرض إقليم الفشقة الحدودي، الذي استعاد السودان نتيجة عمليات عسكرية 92% من أراضيه الخصبة، قبل أشهر. وذلك لأول مرة منذ 25 عامًا، بعد انسحاب الجيش السوداني منها. وجاء الانسحاب عقب محاولة اغتيال الرئيس، حسني مبارك، في أديس أبابا عام 1995، والتي اتهم السودان بارتكابها.
قالت مصادر دبلوماسية إن المسؤول السوداني أجرى مع نظرائه الإثيوبيين مباحثات بشأن تطورات الأوضاع في السودان. وكذلك الجهود المبذولة لتحقيق الوفاق الوطني. بالإضافة إلى بحث القضايا العالقة بين البلدين، واستئناف فتح المعابر الحدودية.
وقد أظهر آبي أحمد دفئًا كبيرًا، لافتًا ومقصودًا، عند استقباله حميدتي. وقد وصل إلى سيرهما معًا متشابكي الأيدي بينما يفتر ثغرهما عن ابتسامة كبيرة.
ثم تبعها آبي ببيان باللغة العربية رحب فيه بدقلو. قال: “أود أن أعرب من جديد عن تقديري للأواصر التاريخية العميقة التي تربط بين شعبينا الشقيقين والتي لا يجوز فصلها مهما كانت الظروف. سوف نسعى ببذل قصارى جهدنا للحفاظ عليها ولتعزيزها بما فيه الخير لبلدينا ولأبناء شعبينا”.
وأتت تلك الخطوة بعد يومين فقط من تغيير آبي أحمد لهجته بشأن سد النهضة. رغم إعلان استعدادات الملء الثالث. قال إن الوقت حان للدول الثلاث -مصر والسودان وإثيوبيا- لرعاية الخطاب نحو بناء السلام والتعاون والتعايش المشترك والتنمية لجميع الشعوب. ذلك دون الإضرار ببعضها البعض، مؤكدًا أن السد سيحقق فوائد لمصر والسودان.
اقرأ أيضا: ما بين الانقضاض والتحيّن: طموح حميدتي الصعب
زيارة تشير إلى ترتيبات دولية وإقليمية
توقيت الزيارة “المفاجئة” يشير إلى ترتيبات دولية وإقليمية تجري في هذه الأثناء، بحثًا عن تهدئة في منطقة القرن الأفريقي الزاخرة بالصراعات والأزمات. وبطبيعة الرجل وطبائعه، يظهر حميدتي مجددًا كمن يحاول توظيف المجريات لتحقيق مكاسب شخصية.
تزامنت زيارة حميدتي إلى أديس أبابا مع ثلاثة أشياء: انسداد في أفق الحل السياسي، وغضب متصاعد بالشارع السوداني. بالإضافة إلى تقارير عن تخطيط الجيش الإثيوبي لدخول مدينة ميكيلي عاصمة إقليم تيجراي. وكذا تقارير أخرى عن سعي الرئيس الإريتري أسياس أفورقي إلى لعب دور الوسيط للتهدئة بين البلدين، بدفع إماراتي.
وإماراتيًا، حميدتي هو “الرجل المناسب لذوقها”، بتعبير باتريك سميث محرر Africa Confidential. وبالتالي سيكون مناسبًا أن يلعب هذا الدور مع آبي أحمد. خاصة وأنه يميل إلى أن تكون هناك مصالح مشتركة بين البلدين. كما أنه يميل إلى التهدئة، وعدم المضي قدمًا في عمليات التصعيد. ذلك وفق ما يرى ممثل المجموعة المدنية السودانية المناهضة لمخاطر السدود، وليد أبوزيد.
وقد استقبل ولي العهد الإماراتي، محمد بن زايد، آبي أحمد يوم 29 يناير/كانون الثاني. ذلك بعد ثلاثة أيام من استقباله الرئيس عبد الفتاح السيسي. فيما يشير إلى توقعات بأن تلعب الإمارات دورًا في الوساطة بين مصر وإثيوبيا والسودان حول ملف السد.
الضوء الأمريكي الأخضر
والجهود الإماراتية تبدو هي الأخرى بضوء أخضر أمريكي، ففي تقدير أماني الطويل، مديرة البرنامج الأفريقي في مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، فإن زيارة حميدتي ترتبط بطبيعة جهود واشنطن في هذه المرحلة بشأن ترتيبات القرن الأفريقي.
وتقول الطويل إن الترتيبات الأمريكية في هذا الشأن تتعلق بالأوضاع داخل إثيوبيا. ثم بالعلاقات الإثيوبية السودانية، وهي مسألة مهمة، لأن واشنطن لا تريد انزلاق البلدين إلى أي من أنواع المواجهات المسلحة على الحدود. بينما لا تعتقد أن تكون أزمة السد قد وضعت في الملف الذي حمله حميدتي إلى أديس أبابا. فرسائل سد النهضة “لا يحملها سوى عبد الفتاح البرهان نفسه أو وزير الري”.
وتبحث كل من أديس أبابا والخرطوم إذا عن الطريق الذي يقود إلى تحسين العلاقات الخارجية وتقليص الخلافات مع بعض القوى الدولية. ووجد كلاهما أن إنحناءة سياسية قد تتكفل بهذا الدور. ذلك لأن الجهات المنخرطة في أزمتي السودان وإثيوبيا واحدة تقريبًا. فالولايات المتحدة من أكثر الدول التي تقوم بتحركات مكوكية على الجبهتين، وفق تحليل الكاتب محمد أبو الفضل.
وقد أصبح دور المبعوث الأميركي الجديد إلى القرن الأفريقي، ديفيد ساترفيلد، محصورًا في مدى قدرته على استيعاب التوترات داخل السودان وإثيوبيا. بينما نجاحه مرهونًا بهذه المهمة، و”لن يتمكن من تحقيق اختراق واضح في غياب التهدئة المشتركة بينهما”.
زيارة حميدتي والبحث عن مكاسب شخصية
كان هذا الإطار الأوسع للزيارة، أما الإطار الأضيق فتلوح منه عدة أهداف لحميدتي. منها أنه “يحاول الظهور كرجل دولة دوليًا والابتعاد عن سمعته كقائد ميليشيا”، وفق رؤية كاميرون هادسون، الخبير في الشأن السوداني بالمجلس الأطلسي.
ويشير المدير السابق لمكتب المبعوث الأميركي الخاص إلى السودان، في حديثه مع “مصر 360” إلى أن حميدتي “ربما يحاول أيضًا تأكيد نفسه باعتباره ثقلًا موازنًا للجنرال البرهان والقوات المسلحة السودانية أو كقناة خلفية لإثيوبيا في المواجهة العسكرية على طول الحدود بين البلدين”.
ويلفت إلى أحاديث غير مؤكدة عن وجود مصالح اقتصادية لقائد قوات الدعم السريع. إذ “يشاع أن حميدتي يمتلك عقارات كبيرة وممتلكات تجارية أخرى في إثيوبيا”.
وفي ذات الإطار وبعيون سودانية، يظن الصحفي والمدون محمد أحمد الجاك أن حميدتي يحاول إضفاء الشرعية على دوره في الإقليم. فهو “لا يتحرك وفق رؤية سودانية واضحة بل وفق رؤية إماراتية تخدم أغراضه الشخصية”. كما أن الإمارات “سهّلت وفتحت له قنوات للحوار والتواصل أكثر مع حكومة آبي أحمد لتلميع صورته؛ لتجعل له قبول وشرعية في الإقليم لترتيب أن يكون ذراعهم حال غادر البرهان المشهد السوداني وهذا ما قد يحدث حسب التقديرات”.
ولكن هناك رسائل أخرى ترغب أديس أبابا في تمريرها إلى مصر -بحسب الجاك- من زيارة حميدتي وهي: “لدينا علاقة قوية برجل بمثل هذا الثقل”.
ويشير المدوّن السوداني إلى أن السياسة الخارجية السودانية قد تحوّلت في مواقفها نحو الميل للقاهرة بعيدا عن أديس أبابا. و”ربما جاءت الزيارة لتلمس نقطة في منتصف الطريق تخلق توازنات تخفف التوجس الأمريكي والغربي والإسرائيلي من انفجار حدودي يهدد الأمن العالمي”.
العلاقة مع إسرائيل
في التاسع عشر من يناير/ كانون الثاني الجاري زار وفد إسرائيلي الخرطوم. حيث التقى قادة “قوات الدعم السريع” الذين كانوا في استقباله بمطار. وعلى رأسهم شقيق حميدتي، عبد الرحيم دقلو.
ووفق ما نشره الإعلام الإسرائيلي، فإن الوفد حط رحاله في مدينة شرم الشيخ قبل وصوله إلى الخرطوم. ما أوحى بأن الزيارة متصلةٌ بمشاورات إقليمية تتعلق بالأزمة التي خلّفها الانقلاب في السودان. وبالتالي اُفترض أن تستهدف الزيارة قيادة المؤسسة العسكرية ممثلة برأسها، عبد الفتاح البرهان. لكن ما اتضح لاحقًا أن الزيارة تتوجه بشكل رئيسي إلى حميدتي.
ولهذا يعتقد الصحفي السوداني محمد الجاك أنه يمكن الجزم بأن حميدتي ما كان ليجرؤ على زيارة إثيوبيا بهذا التوقيت لولا الضوء الأخضر الإسرائيلي الإماراتي. إذ يتناغم الخطاب الإماراتي الموجه لأفريقيا في الآونة الأخيرة مع الخطاب الإسرائيلي.
وبحسب تقرير سوداني، فإن الوفد الإسرائيلي اتفق مع قيادة الدعم السريع على توفير الدعم التقني من جانب إسرائيل لمشروعات زراعية خاصة بالقوات التي يتزعمها حميدتي.
وقال مصدر مُطلّع على كواليس الزيارة إنها امتداد لزيارات عديدة تمت بشكل سري. من بينها زيارة مسؤول أمني إسرائيلي الخرطوم في وقت سابق، استضافته قيادة الدعم السريع في أحد مساكنها الخاصة لأسباب تأمينية. وذكر المصدر “على الرغم من أن قائد الجيش عبد الفتاح البرهان هو من أسس للتطبيع، لكنه لم يعد الرجل الأول في هذا الملف”.
زيارة لم تكن الأولى من نوعها
ويرى كاميرون هادسون أنه من الواضح أن إسرائيل تتطلع إلى فهم أفضل و”ربما يكون لها تأثير على الأحداث داخل السودان”. إذ تسعى لإقامة علاقات مع من هم في القيادة، حميدتي والبرهان.
وإلى جانب التعاون الاقتصادي الكبير، فإن الزيارة بحثت ملفًا أمنيًا يتعلق بإسرائيل. حيث يسود اعتقاد أن السودان لا يزال معبرًا لتقديم الدعم للمقاومة الفلسطينية على الرغم من اجتهاد العسكريين في السودان لإغلاق أي ثغرات ممكنة، طبقا لصحيفة “السفير العربي”.
وتذكر الصحفية السودانية، شمائل النور، في التقرير أن زيارة الوفد الإسرائيلي ليست الأولى من نوعها. فقد سبقتها زيارات متبادلة بين الطرفين. وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2021، زارت قيادات من “الدعم السريع” تل أبيب. حيث شاركت مؤسسة الجيش بممثل واحد في الوفد، وهو مسؤول رفيع في منظومة الصناعات الدفاعية -أضخم مؤسسات الجيش الاقتصادية- لكن ممثل الجيش كان أشبه بالغريب في ذلك الوفد الذي سيطرت عليه أجندة “الدعم السريع”. ومما تسرّب من تلك الزيارة التي استضافتها مقار “الموساد”، أن ممثل الجيش لم يحضر سوى اجتماع واحد.
بوابة نحو الولايات المتحدة
تكشف هذه الزيارة هرولة العسكريين وسباقهم نحو إسرائيل في ظل معاناتهم من خناق شعبي داخلي. لكنها أزاحت أيضًا النقاب عن مثابرة حثيثة لحميدتي لتأسيس حلف إقليمي ودولي. فلقائد الدعم السريع علاقات معروفة مع بعض دول أوروبا، وخاصة فرنسا.
هذه العلاقات أسس لها إبّان تصاعد ملف الهجرة “غير الشرعية”، حيث تنشط قواته بكثافة على حدود السودان، خاصةً تلك الممتدة مع الجوار الليبي.
ويبدو أن دقلو يتطلع بحماس لتأسيس علاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، أو على أقل تقدير أن تقبل به الولايات المتحدة كعنصر رئيسي لا يُمكن تخطيه في المشهد السوداني. وفي سبيل ذلك يبذل الرجل مجهودات جبارة مع الولايات المتحدة الرافضة للاعتراف به، بكلمات شمائل النور.
وسعي الرجل الحثيث لتقوية علاقاته مع إسرائيل يكشف تعويله على بوابة تل أبيب للدخول إلى أمريكا، وربما ينطلق الرجل مما هو معلوم في السياسة السودانية، من أن إسرائيل لعبت دورا محوريا في رفع العقوبات الأمريكية عن السودان.
نحو فك الارتباط مع البرهان
يقول هادسون لـ”مصر 360” إن هناك قدر كبير من التكهنات حول الانقسامات بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. و”لطالما كان حميدتي حريصًا على تنمية علاقاته الخاصة لمواجهة القوات المسلحة السودانية، سواء كان ذلك في إثيوبيا أو في السعودية أو الإمارات. هذه العلاقات سوف تخدم حميدتي إذا قرر أن شراكته مع الجيش باتت عبئًا كبيرًا”.
يعلم حميدتي أن الشارع، إذا تصاعد غضبه فليس أمام الجيش إلا إيجاد مخرج آمن لقائده البرهان بعد عزله، مثلما حدث مع البشير. لكن بالنسبة له، فإن ذهاب البرهان ربما يعني أن مصيره هو على”كف عفريت” بحسب السفير العربي.
لذا فهو بحاجة بشكل مضاعف لتأمين أوضاعه، أو على الأقل بأن يفك ارتباط مصيره بمصير البرهان، الذي يبدو أنه استسلم للخروج، خاصةً بعدما أصبحت شبكات النظام البائد، وبعض تيارات الإسلاميين تقف منه موقف الحياد.
وعلى الرغم من أن مصيرهما يبدو واحدا، لا يُعتقد أن حميدتي يُمكن أن يكبِح طموحه في الحكم بمجرد ذهاب البرهان، كما لا يُعتقد أنه سيظل مكتوف الأيدي إلى أن يطيح الجيش بالبرهان ويصبح هو في مهب الريح.
“في الوقت الحالي، لا داعي للقلق بشأن انقلاب قوات الدعم السريع. الشخص الوحيد الأقل شعبية في البلاد من البرهان هو حميدتي. إنه يعرف هذا ولهذا السبب يفعل الكثير لتغيير سمعته وكسب الناس”، يقول هادسون.