نادرًا ما كان مجال الصراع البشري يتأثر بأهواء رجل واحد. لكن هل فلاديمير بوتين على وشك غزو حقيقي لأوكرانيا كما يوحي حشد القوات الروسية على الحدود بينهما؟ أم أنه يبتز الجارة العجوز والغرب للمزيد من التنازلات؟
ما يريده بوتين الآن؟
وفق افتتاحية مجلة “ذي إيكونوميست” اللندنية في عددها الأخير، فإنه لا أحد يستطيع التأكد من نوايا بوتين، حتى وزير خارجيته. إلا أنه، إذا كان لابد من القتال، فإن العالم بحاجة إلى فهم المخاطر. فربما يخطط بوتين لغزو شامل، مع توغل القوات الروسية في عمق أوكرانيا. ذلك بغرض الاستيلاء على العاصمة كييف والإطاحة بالحكومة. أو قد يسعى إلى ضم المزيد من الأراضي شرق أوكرانيا. ومن ثم إنشاء ممر يربط بين روسيا والقرم -شبه الجزيرة الأوكرانية التي انتزعها في عام 2014.
قد يرغب بوتين في حرب صغيرة، حيث “تنقذ” -كما يعلن إعلامه ومريديه- روسيا الانفصاليين الذين يدعمهم الكرملين في “دونباس” -وهي المنطقة شرق أوكرانيا سبب الأزمة- من الفظائع الأوكرانية المزعومة. وفي نفس الوقت يحط من قدر القوات المسلحة الأوكرانية.
ولأن بوتين لديه المبادرة، فمن السهل استنتاج أنه يتمتع بالميزة. ولكن في الواقع، فإنه يواجه خيارات محفوفة بالمخاطر. مثل حرب شاملة تمتد في أركان الكرة الأرضية. ذلك لأن حربًا أقل تحد من هذه المخاطر قد تفشل في وقف انجراف أوكرانيا نحو الغرب. وإذا لم تجلب حرب صغيرة استسلام الحكومة في كييف، فقد ينجر السيد بوتين حتمًا إلى حرب أكبر.
الخسائر الاقتصادية والاستراتيجية التي تنتظر بوتين
بحسب “ذي إيكونوميست”، فإن الغزو الروسي الكامل سيكون أكبر حرب في أوروبا منذ الأربعينيات، وأول إسقاط منذ ذلك الحين لحكومة أوروبية منتخبة ديمقراطيًا من قبل غزاة أجانب. لذا فالروس لن يخسروا الأرواح فقط. بل سيتسببون أيضًا في وفاة عدد لا يُحصى من الأوكرانيين -أولاد عمومتهم السلاف- الذين تربطهم بهم روابط عائلية. كما ستتعرض روسيا لعقوبات شديدة، وستتعرض بنوكها لعقوبات أشد، وسيُحرم اقتصادها من المكونات الأمريكية ذات التقنية العالية.
سيعاني الروس العاديون -في حال شن الحرب- من مستويات المعيشة المنخفضة. وكانت تتراجع بالفعل على مدى السنوات السبع الماضية. كما أنهم سيواجهون كلفة استراتيجية كبيرة. لأنه في حال تمكنهم من إخضاع أوكرانيا سيدفعون كل الدول إلى مراجعة حساباتها الأمنية. بينما سيعزز الناتو دفاعات أعضائه الشرقيين. وقد تنضم السويد وفنلندا إلى التحالف.
ما يمكن لبوتين تحمله من نتائج الحرب
بالنسبة لبوتين، فإن العواقب الاقتصادية للحرب يمكن النجاة منها. على الأقل في المدى القصير. إذ أن بنكه المركزي لديه 600 مليار دولار من الاحتياطيات. وهي أكثر من كافية لتجاوز العقوبات. لكن المكاسب السياسية في أوكرانيا يمكن أن تطغى بسهولة على النكسات في الداخل والتي -كما يعرف بوتين أفضل من أي شخص آخر- هي المكان الذي يقرر مصيره في نهاية المطاف.
ربما، إذن، سيبدأ بغزو أقل طموحًا. ومع ذلك، فإن حربًا محدودة يمكن أن تودي بحياة العديد من الأشخاص ويصعب احتوائها. وقد تكون العقوبات أخف، لكنها ستظل مؤلمة.
حتى في حال هذه الحرب المحدودة، فإن انفصال روسيا عن الغرب سوف يستمر في التسارع. بينما إذا ظلت الحكومة في كييف مستقلة، فسوف تضاعف جهودها للانضمام إلى الغرب.
وفق “ذي إيكونوميست”، فإن البلطجة التي مارسها بوتين على مدى السنوات الثماني الماضية تعني أنه حتى الروس في شرق أوكرانيا لم يعودوا يتوقون إلى علاقات أوثق مع موسكو.
خسائر أوروبا من الحرب الروسية
في حال الحرب، ستواجه أوروبا احتمال قيام روسيا بمنع تدفق الغاز عبر الأنابيب. وحتى في حالة عدم الإقدام على منع التدفق، كان من المتوقع أن تنفق 1 تريليون دولار على الطاقة في عام 2022. أي ضعف ما تم إنفاقه في عام 2019.
قد تؤثر الحرب على أسعار السلع الأخرى أيضًا. فروسيا هي أكبر مصدر للقمح في العالم، تليها أوكرانيا. وتعد روسيا مصدرًا كبيرًا للمعادن. بينما في بيئة الأسواق المعقدة اليوم، حتى صدمة صغيرة يمكن أن تدفع أسعار السلع إلى الأعلى.
كما أن الغزو الناجح لأوكرانيا من شأنه أن يضع سابقة سياسية مزعزعة للاستقرار. إذ لطالما كان النظام العالمي مدعومًا بالقاعدة القائلة إن الدول لا تعيد رسم حدود الدول الأخرى بقوة السلاح. فعندما استولى العراق على الكويت عام 1990، طردها تحالف دولي بقيادة أمريكا. وبوتين الذي يملك ترسانة نووية تحت إمرته، أفلت بالفعل بضم شبه جزيرة القرم. وإذا استولى على شريحة أكبر من أوكرانيا، فمن الصعب أن يتراجع.
الأرجح، أنه سيواصل مسيرته بمساعدة الوجود الجديد للقوات الروسية في بيلاروسيا. ومن المؤكد -في ظل ذلك- أن يزيد احتمال غزو الصين لتايوان. وسيشعر النظامان في إيران وسوريا أنهما أكثر حرية في استخدام العنف مع الإفلات من العقاب. إذا كانت القوة على حق، فسيتم استخدامها في المزيد من حدود العالم المتنازع عليها، وفق تعبير “ذي إيكونوميست”.
كيف يواجه الغرب نوايا بوتين؟
تنصح “ذي إيكونوميست” الغرب بأن يرد على بوتين بثلاث طرق: الردع، ومواصلة الحديث والاستعداد.
ولردع بوتين، يجب على القوى الغربية -وخاصة ألمانيا- التوقف عن المراوغة، وتشكيل جبهة موحدة، وتوضيح أنها مستعدة لدفع ثمن فرض عقوبات على روسيا، وأيضًا لدعم الأوكرانيين المستعدين لمقاومة جيش الاحتلال.
وفي غضون ذلك، يجب على الدبلوماسيين أن يواصلوا الحديث، وأن يبحثوا عن أرضية مشتركة بشأن -على سبيل المثال- الحد من التسلح. وكذا الضغط من أجل تخفيض يحافظ على الوجوه، بحيث يكون بوتين ووسائل الإعلام الأسيرة له حرية تداولها كما يحلو لهم.
كما يتعين -وفق ذي إيكونوميست- أن تستعد أوروبا للأزمة القادمة من خلال توضيح أن تحولها في مجال الطاقة سيقلل من اعتمادها على الغاز الروسي باستخدام التخزين والتنويع والطاقة النووية.
تقول افتتاحية “ذي إيكونوميست” إنه نادرًا ما كان الفارق بين مصالح الدولة ومصالح زعيمها صارخًا للغاية. وإنه بالطبع تستفيد روسيا من علاقات سلمية أفضل وأوثق مع الغرب. وستكون مثل هذه العلاقات متاحة إذا لم يتصرف بوتين بشكل بغيض. وهو فقط الذي يستفيد من الخلاف، لأنه يستطيع أن يقول للروس إنهم تحت الحصار ويحتاجون إلى رجل قوي للدفاع عنهم.
ولكن حتى أذكى رجل يمكن أن يخطئ في التقدير. إن غزو أوكرانيا يمكن أن يثبت في نهاية المطاف فشل بوتين، إذا تحول إلى مستنقع دموي أو جعل الروس أكثر فقرًا وغضبًا وأكثر توقًا للتغيير.