تهدف الصين من استراتيجياتها التوسعية إلى تعزيز نفوذها في مختلف المناطق حول العالم. ذلك استنادًا على الأدوات الاقتصادية أكثر من مثيلاتها السياسية والعسكرية. كما هو الحال بالنسبة للدول العظمى الأخرى. وفي إطار تحقيق ذلك، تتنوع الآليات الاقتصادية الصينية بين الاتفاقيات الثنائية أو الجماعية، وعلى المستويين الإقليمي والدولي. مثلما هو الحال مع اتفاقية التجارة الحرة مع دول منطقة الخليج. وهي تحتل أهمية كبيرة في التأثير على مجريات الأوضاع الاقتصادية العالمية. لما تحتويه من ثروات وموقع جغرافي مفتوح على حركة التجارة العالمية.
وإلى جانب كافة صور الدبلوماسية الاقتصادية التي تمارسها الصين مع الدول الخليجية، يقع على رأس أولويات السياسة الخارجية الصينية إرساء مبادئ اتفاقية التجارة الحرة، والتي بدأت بمفاوضات 2004 وصولًا إلى الاجتماع الأخير أوائل يناير الجاري، بحضور وزراء خارجية كل من السعودية والكويت وعمان والبحرين والأمين العام لمجلس التعاون الخليجي نايف الحجرف. ولعل التأكيد على استمرارية هذه المباحثات يعكس أهمية الاتفاقية بالنسبة للجانبين. وهي ذات تأثيرات تمتد إلى البيئتين الإقليمية والدولية.
أولًا- محددات إبرام اتفاقية التجارة الحرة بين الصين والخليج:
شكلت مجموعة من المتغيرات الإقليمية والدولية الدوافع الثنائية للصين ودول منطقة الخليج العربي للشروع في التوصل إلى صيغة مشتركة حول طبيعة اتفاقية التجارة الحرة بينهما. وقد تأثرت بالمتغيرات السياسية والاقتصادية التي تشهدها البيئة الدولية بفعل تداعيات جائحة كورونا. وكذا ترجيح الأولويات الاقتصادية في العلاقات بين الدول. إلى جانب التغيرات في الإدارة الأمريكية، وصعود الرئيس جو بايدن للحكم. وقد خلقت بيئة مواتية للدفع بعقد اتفاقية التجارة الحرة بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي.
1. تنامي حجم التبادل التجاري.. الصين تتخطى الاتحاد الأوروبي
تتسم العلاقات الاقتصادية بين الصين ودول الخليج بنشاط كبير. إذ استطاعت الصين تحقيق مكانة متقدمة في السوق الخليجي على مدار ما يزيد عن 30 عامًا. وبحلول عام 2020، تمكنت من أن تصبح أكبر شريك تجاري لدول مجلس التعاون الخليجي، متخطية بذلك الاتحاد الأوروبي.
وبصورة عامة، قفزت تجارة الدول الخليجية مع الاقتصادات الآسيوية من 247 مليار دولار في عام 2010 إلى 336 مليار دولار في عام 2019. ذلك بنسبة زيادة 36٪. وتستحوذ الصين على نسبة 19% من إجمالي الصادرات السلعية الخليجية إلى الأسواق العالمية، بقيمة 83.1 مليار دولار في عام 2020. وفي المقابل، بلغت قيمة الواردات الصينية إلى الخليج نحو 80.4 مليار دولار أمريكي في عام 2020.
2. حجم الشراكات بين الصين والخليج
وبدأت الصين خطوات حثيثة في تعزيز العلاقات الاقتصادية مع دول الخليج بصور مختلفة، منها الاتفاقيات الثنائية.
على سبيل المثال، وقع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان صفقة بقيمة 10 مليارات دولار لإنشاء مجمع للتكرير والبتروكيماويات في الصين خلال 2019. كما شهد حجم الاستثمار الصيني في السعودية ارتفاعًا بنسبة 100% خلال عام 2019. وفي أثناء انعقاد منتدى الاستثمار السعودي الصيني، تم التوقيع على 35 اتفاقية تزيد قيمتها على 28 مليار دولار. وكذلك اتفاقية 2018 بين شركة قطر غاز وشركة بتروتشاينا لتوريد 3.4 مليون طن من الغاز الطبيعي المسال القطري لمدة 22 عامًا.
3. الوزن المالي لدول مجلس التعاون الخليجي
طبقًا لأحدث البيانات الصادرة عن المركز الإحصائي الخليجي، شهدت حركة التجارة الخارجية السلعية لدول مجلس التعاون الخليجي لعام 2020 قيمة تريليون و70 مليار دولار في عام 2019.
وتمتلك صناديق ثروة سيادية تقدر بأكثر من 2 تريليون دولار أمريكي. بالإضافة إلى ذلك، تعد دول مجلس التعاون الخليجي من الأعضاء المؤسسين في البنك الآسيوي للاستثمار. وهو ما سمح للصين بتعزيز نفوذها المالي في الخليج من خلال البنوك الصينية.
4. حجم الواردات من الطاقة
تمثل الموارد الاستخراجية كالنفط والغاز ركنًا رئيسيًا في العلاقات التجارية بين الصين والخليج. إذ تعتمد الصين على الدول الأخرى في الحصول على حوالي 72% من احتياجاتها من الطاقة. وتستورد الصين حوالي 35% من احتياجاتها من النفط الخام من الخليج. وقد يرتفع هذا إلى ما يصل إلى 60% بنهاية العقد، حيث بلغت واردات النفط من السعودية إجمالي 1.67 مليون برميل يوميًا. كما توفر قطر في الوقت الحالي ما يزيد عن 20% من واردات الصين من الغاز. وهذا المستوى من الاعتماد على الواردات يرفع بطبيعة الحال القيمة الاستراتيجية للمنطقة بالنسبة لبكين، خاصة في ظل التوترات الأخيرة التي تشهدها كازاخستان وأثارت العديد من المخاوف على أمن الطاقة الصيني.
5. طريق الحرير BRI
يعتبر مشروع الحزام والطريق الذي تم إطلاقه في عام 2013، أحد الأولويات الاستراتيجية بالنسبة للصين. وهو ما دفعها إلى اتباع نهج تعاوني من خلال الاتفاقيات الثنائية والإقليمية مع أكثر من 150 دولة، بما في ذلك دول الخليج. نظرًا لأهمية الممرات البحرية الخليجية لتأمين مسار الاتفاقية.
على سبيل المثال، وقعت قطر مع الصين شراكة استراتيجية في عام 2014 بعنوان “التعزيز المشترك القطري الصيني للتعاون ذي الصلة على حزام واحد، طريق واحد”. بالإضافة إلى الاتفاقيات الأخرى التي تعزز الترابط الاقتصادي لدول الخليج بالصين.
ثانيًا- إجراءات عقد اتفاقية التجارة الحرة بين الصين والخليج:
انطلاقًا من هذه المقومات، رأت الصين والدول الخليجية ضرورة عقد اتفاقية تجارة حرة كرد فعل طبيعي لارتفاع حجم التعاون الاقتصادي، وتنوع مجالات التعاون. بالإضافة إلى التغيرات في مفاهيم الأولويات الاقتصادية لدى الصين بموجب انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، وما يتعلق بسياسات تحرير السوق.
وتجب الإشارة هنا إلى أنه تم طرح الاتفاقية لأول مرة في عام 2004، ثم توقيع مذكرة التفاهم في 2010. وترتكز على إرساء مبادئ العدالة، وتعزيز الأمن الجماعي المشترك، وتعزيز أمن الملاحة البحرية.
وفي إطار تحقيق ذلك، عقدت الصين ودول مجلس التعاون الخليجي 9 جولات للوصول إلى الأركان الرئيسية للاتفاقية مع التركيز على المنتجات المتعلقة بالطاقة. إذ تطرقت الزيارة الجماعية الأولى من نوعها لدول مجلس التعاون الخليجي إلى الصين، التأكيد على ضرورة التعجيل بعقد الاتفاقية، والاتفاق على موعد الجولة العاشرة من المفاوضات التي تتضمن إقامة شراكة استراتيجية. إلى جانب عقد حوار استراتيجي بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي. وكذا إقامة منطقة التجارة الحرة، والتوقيع على خطة عمل 2022-2025.
ويتوقع أن تنجم عن عقد اتفاقية التجارة الحرة مجموعة من التداعيات من أهمها:
تعزيز نفوذ اليوان العالمي
في إطار خطتها لعولمة اليوان، وفق ما أكدته صحيفة “ذي إيكومونست” في مقال لها بعنوان ” الصين تهدف إلى جعل اليوان العملة المفضلة لدى البنك المركزي”، وعلى الصعيد الخليجي، حقق اليوان نجاحًا واسعة في مختلف الأسواق، ومن أهمها السوق الخليجي. وصارت العديد من الدول الخليجية تصدر سندات دولية بالرنمينبي مثل بنوك دبي. وهو ما يعني تقدمه على قائمة العملات الدولية بما يشكل تهديدًا مباشرًا لحضور الدولار.
1. استدامة توريد النفط
تعد اتفاقية التجارة الحرة أداة فعالة لدرء الضغوط الحمائية المستقبلية من قبل الشركاء التجاريين، وإدارة التوترات التجارية الثنائية بطريقة مؤسسية. وخاصة فيما يتعلق بالنفط الذي يشكل العمود الفقري للصناعة بالنسبة للصين. وكذلك الأساس المالي الأول بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي.
2. العلاقة بين الولايات المتحدة والخليج
تضع هذه الاتفاقية العلاقات الأمريكية الخليجية على حافة مزيد من الغموض. ومن المتوقع أن تمارس الولايات المتحدة العديد من الضغوط على الخليج، في قطاعات حيوية مثل الاقتصاد الرقمي والطاقة النووية والدفاع. وكانت انتقدت التعاون بين الصين والخليج فيما يخص الحصول على تقنية الجيل الخامس.
3. التمييز التجاري
تحرص دول الخليج على تنويع اقتصاداتها. وبالتالي تساعد هذه الاتفاقية إلى جانب غيرها من الاتفاقيات إلى تعزيز مفهوم التمييز التجاري لدى دول الخليج. وكذا عدم اعتمادها على سوق واحد في تأمين احتياجاتها من مختلف السلع والخدمات.
ثالثًا- معوقات راهنة تواجه اتفاقية التجارة الحرة بين الصين والخليج
هناك مجموعة من العقبات والمخاوف التي تحيط بتوقيع هذه الاتفاقية، والتي يمكن أن تسهم في إيجاد عقبات أمام تفعيلها على النحو الآتي:
1. توتر العلاقات بين دول الخليج
تسببت الأزمة الخليجية بين الإمارات والسعودية والبحرين من جهة وقطر من جهة أخرى في إبطاء وتيرة عقد الاتفاقية. ذلك في ظل سعي بعض الدول إلى انتهاج شيء من الاستقلالية في علاقتها التجارة مع الدول الأخرى. كما أنها تثير بعض المخاوف من احتمالية عودة الاختلافات في ظل وجود خصوم إقليميين مثل إيران وتركيا.
2. التسارع الدولي
لا تشكل اتفاقية التجارة الحرة بين الصين والخليج الأولى من نوعها. ولكن هناك العديد من الدول التي اتجهت لهذا النوع من الشراكات الاقتصادية.
على سبيل المثال، أكدت بريطانيا خلال المباحثات الأخيرة مع دول الخليجية في ديسمبر العام الماضي، على عقد الاتفاق في خلال 12 شهرا، وكذلك كوريا الجنوبية، خلال زيارة رئيس الجمهورية “مون جيه إن” منذ أيام، والتي صاحبها الإعلان عن استئناف المفاوضات بشأن توقيع اتفاقية تجارة حرة مع دول مجلس التعاون الخليجي.
3. العلاقة بين الصين وإيران
تشكل العلاقة الوطيدة بين الصين وإيران قلقًا لا يمكن التغافل عنه بالنسبة لدول الخليج. إذ أبرم الطرفان -الصين وإيران- في مارس 2021 اتفاقية تمتد إلى 25 عامًا. وهي تستهدف تعزيز التعاون في مختلف المجالات. ولعل ذلك كان أحد الدوافع الرئيسية للزيارة الخليجية الأخيرة إلى الصين.
4. مشكلات سلاسل التوريد
تعرضت سلاسل التوريد إلى ضربة قوية خلال جائحة كورونا، والتي أثرت على توازن الاقتصاد العالمي، وأفرزت مجموعة من التحديات التي تواجه الشراكات الاقتصادية بين الدول وبعضها، وكذلك بين الصين والخليج التي شهدت تراجع ملحوظ في حجم الواردات خلال الجائحة نتيجة اختناق شبكات النقل، والتهديدات اللوجستية. كما أنه ومع ظهور متحورات جديدة للفيروس يتوقع أن تعود أزمة سلاسل التوريد عالميًا.
وبالنسبة للسيناريوهات المحتملة، من المتوقع بدرجة كبيرة، أن تعجل الصين من خطوات تنفيذ الاتفاقية في إطار التسارع الدولي على الاستفادة من ثروات الخليج، في ظل وجود دوافع من الجانبين تؤكد حاجة كلا منهما لدعم التبادل التجاري والحفاظ على العلاقات الاقتصادية المشتركة بمزيد من المواثيق.
الاحتمال الآخر، أن تطرأ بعض المتغيرات في العلاقات البينية بين بعض دول الخليج تعطل من الاتفاق على موقف موحد من حيث إبرام الاتفاقية من الصين.