يبدو أن الدولة المصرية تتجه نحو الوقوع في فخ إثيوبي جديد. ففي الوقت الذي يدعو فيه رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد مصر والسودان إلى “رعاية خطاب نحو البناء والسلام والتعاون والتعايش المشترك” اتخذت حكومته خطوات تمهيدية لتوليد الكهرباء وبدء المرحلة الثالثة من ملء سد النهضة وبشكل منفرد. قبل الجلوس إلى مائدة المفاوضات مع دولتي المصب من أجل وضع النقاط على الحروف والتوصل إلى اتفاق قانوني ملزم لتشغيل السد.
آبي أحمد استهل البيان الذي نشره على صفحته الرسمية بموقع “تويتر” قبل نحو أسبوع بسرد الأهداف الإثيوبية للسد. وعلى رأسها توفير طاقة متجددة ونظيفة ورخيصة للملايين من أبناء شعبه. فضلا عن إمكانية توريدها إلى السودان، مشيرا إلى أن مصر أيضا ستستفيد من الحفاظ على المياه خلف السد بدلًا من “إهدار مليارات الأمتار المكعبة من المياه في التبخر”.
لا خلاف على أن لهجة خطاب آبي أحمد الأخير مختلفة عن أسلوب ومفردات بياناته وتصريحاته السابقة التي كان يصر فيها على استفزاز دولتي المصب وإثارة النعرة الوطنية لجموع شعبه المتناحر بهدف توحيده حول مشروع وطني قومي. حاول رئيس الوزراء الإثيوبي خلال الأعوام الثلاثة الماضية أن يستخدم السد كقضية وطنية جامعة معتقدا أنه بإمكانه القفز بها على الصراعات الأهلية التي كادت أن تنهي مسيرته في الحكم.
ونحن نقرأ هذا البيان ونحلل ما جاء بين سطوره، يجب ألا ننسى أن ذات الرجل زار القاهرة قبل 3 سنوات، وبناء على طلب من الرئيس عبد الفتاح السيسي أقسم بالله العظيم أنه لن يلحق الضرر بمصر فيما يخص مياه النيل “والله لن نقوم بأي ضرر بمياه مصر”.
آبي أكد حينها في مؤتمر صحفي مع الرئيس السيسي أنه يسعى إلى التعاون مع مصر في كل المجالات، متعهدا بضمان حصة مصر من مياه النيل، “سنعتني بالنيل وسنحافظ على نصيبكم. وسنعمل على زيادة هذه الحصة. وسأعمل أنا والرئيس السيسي على ذلك”.
ورغم التعهدات والابتسامات التي وزعها الرجل في القاهرة، عاد إلى بلاده وشرع في استكمال بناء السد ونفذ المرحلة الأولى من الملء ثم الثانية دون أي اعتبار لقسمه ولوعوه السابقة، ولاحقا رفض كل المبادرات التي طرحت سوء من الاتحاد الأفريقي أو من وسطاء إقليمين ودوليين وعلى رأسهم الولايات المتحدة والتي دعته إلى التوقيع على اتفاق ثلاثي يضمن حقوق دولة المنبع ودول المصب على حد سوء، وعندما لجأنا إلى مجلس الأمن الذي اكتفى بإصدار بيان باهت إثر الضغوط الروسية الصينية، عاب آبي على مصر والسودان ورفض ما أسماه “إصرار دول المصب على تدويل الأزمة”.
يهدف آبي أحمد من خطابه الذي نشره في 20 يناير الماضي إلى تثبيت الأمر الواقع، وتخفيف حدة الضغوط الدولية سواء المتعلقة بملف سد النهضة أو بملف الصراع الأهلي في بلاده، ويُخشى أن يكون هذا البيان، محاولة جديدة لجر مصر إلى متاهة المفاوضات العبثية التي ندور فيها منذ أكثر من 10 سنوات، ثم نفاجأ بعد أسابيع أن أديس أبابا شرعت في تنفيذ الملء الثالث دون الرجوع إلينا، حينئذ سنكون مضطرين إلى التعامل مع السد باعتباره أمرا واقعا، علينا التعامل معه ووضع الخطط والآليات للتقليل من تبعاته، حيث إن صلاحية الورقة الأخيرة التي كان علينا استخدمها منذ فترة ستكون منتهية، فالتدخل العسكري وضرب السد فى هذه الحالة سيؤثر وبشكل كارثي على السودان وسيعرض حياة الملايين من أشقائنا هناك للخطر، وهو ما يجعلنا أكثر حرصا على سلامة السد من الإثيوبيين.
الشكوك في نوايا الإثيوبيين لها ما يدعمها، فبموازاة الرسائل المتبادلة بين القاهرة وأديس أبابا بشأن إمكانية الوصول إلى نقاط تلاق والجلوس إلى مائدة التفاوض مجددا، باشرت إثيوبيا اختبار أول توربين منخفض في السد كخطوة أولى للبدء في توليد الكهرباء، وقبلها بأيام أعلنت أديس أبابا عن اعتزامها إزالة 40 ألف فدان من الغابات بمحيط السد تمهيدا لتنفيذ عملية الملء الثالث.. حاكم إقليم بني شنقول الشاذلي حسن قال إنه سيوفر الدعم والتأمين اللازم لاكتمال عملية إزالة الغابات التي من المتوقع أن تنتهي خلال 60 يوما.
أما دينا مفتي المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية، فأكد أن بلاده ماضية في استكمال المرحلة الأخيرة من مشروع السد وتوليد الكهرباء، واتهم في مؤتمر صحفي عقده قبل أيام دولتي المصب بالتردد والتسبب في عدم الاستمرار في المفاوضات، «”التوصل لاتفاق ملزم بشأن سد النهضة يعود إلى قائدي بلدي المصب».
وحول دعوة الرئيس السيسي خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره السنغالي مكيسال لاتفاق ملزم ومتوزان بشأن سد النهضة، قال مفتي: «دخلنا في مفاوضات ثلاثية متعددة وما زالت إثيوبيا متمسكة بالوساطة الأفريقية إلا أن السودان ومصر تشاركان في المفاوضات أحيانا وأحيانا نلاحظ ترددا».
ربما يكون رئيس الوزراء المراوغ الذي لم يتمكن حتى الآن من حسم الحرب الأهلية الدائرة في بلاده بشكل كامل، يبحث عن غسل سمعته ولفت الأنظار عن الدماء التي تسبب فيها والجرائم التي ارتكبها في حق أبناء شعبه خلال العام الماضي، وقد يكون سعيه إلى إعادة طرح ملف التفاوض حول سد النهضة جزءا من خطة لتعويمه إقليميا ودوليا بعد أن تحول إلى حاكم منبوذ ترفض العديد من الدول استقباله والتعامل معه باعتباره متهما بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
خلال الأيام القلية الماضية شهد ملف سد النهضة تحركات دبلوماسية بدا منها أن هناك أطرافا ذات صلة مهتمة بجمع الفرقاء الثلاثة مجددا بعد سنوات من الجفاء، فبعد ساعات من زيارة الرئيس السيسي إلى العاصمة الإماراتية الأسبوع الماضي، استقبلت أبو ظبي رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، وبحسب مصادر عليمة حاولت الإمارات تقريب وجهات النظر بين البلدين وطرح مبادرة جديدة مقبولة من أطراف الأزمة الثلاث، قبيل اجتماعات القمة الأفريقية التي ستنعقد في أديس أبابا الأسبوع المقبل، مطالبة الدول الثلاث بالتهدئة وإبراز مفردات التعاون والتعايش المشترك في بياناتهم وخطاباتهم قبيل الجلوس إلى مائدة المفاوضات.
وينظر إلى الإمارات باعتبارها دولة لها تأثير قوي على حكومة آبي أحمد، إذ كانت من أهم الداعمين له في حربه ضد شعب أقليم تيجراي خلال العام المنقضي، ومكن الدعم الإمارتي آبي من قلب معادلة الصراع مع قوات التمرد المشتركة، فتحول جيشه من الدفاع إلى الهجوم، بعد أن كادت قوات تيجراى أن تصل إلى العاصمة أديس أبابا.
في ذات الوقت تعد الإمارات من أبرز حلفاء القاهرة الإقليمين، رغم مرور العلاقات بين الدولتين العربيتين بأزمة مكتومة في الفترة الماضية إثر تباين وجهات النظر والخلاف في التوجهات حول عدد من ملفات الأقليم.
سنوات التفاوض مع إثيوبيا أثبتت سوء نوايا حكامها في التعامل معنا فيما يخص قضية السد، وما جرى خلال السنوات الثلاث الماضية يجعلنا نتوقع أن أديس أبابا ماضية في استكمال بناء السد دون النظر إلى المصالح المائية لمصر والسودان، وهو ما يجعلنا نقرأ الخطاب الأخير عن التعاون والشراكة على أنه محاولة جديدة للعب على حبال الدبلوماسية، بهدف كسب مزيد من الوقت لإنفاذ المخطط وتحقيق الهدف الذي سبق لهم أن أعلنوه مرارا، وهو أن مياه نهر النيل إثيوبية وأن بناء سد بل سدود على مجرى النيل شأن إثيوبي خالص، وأن من يريد المياه فعليه أن يدفع ثمنها، بحسب ما تفلت لسان دينا مفتي المتحدث باسم الخارجية الإثيوبيبة في مداخلة سابقة مع قناة الجزيرة القطرية.
إن أراد آبي أحمد ووكلائه الإقليميين والدوليين أن نصدق نواياهم وخطابهم الجديد وأن نقبل الدخول في جولة تفاوض أخرى، فعليهم أولا أن يعلنوها وبصراحة ومن خلال القنوات الرسمية بأنهم يقبلون بأن يعلن الاتحاد الأفريقي خلال اجتماعات دورته المنتظرة أجندة واضحة وجدولا زمنيا محددا ينتهي باتفاق قانوني تلتزم فيه دولة المنبع بعدم اتخاذ أي خطوات تخص تشغيل وملء السد دون الرجوع إلى دولتي المصب، وأن تضمن الولايات المتحدة والاتحاد الأفريقي تنفيذ هذا الاتفاق المجدول قبيل البدء في عملية الملء الثالث للسد.