وجدت مصر في أزمة الغاز الأوروبية والصراع الروسي-الأوكراني فرصة لن تتكرر لتعزيز صادرات الغاز المسال إلى دول تعاني موسم شتاء قارس تتخلله أزمات في الطاقة هي الأعقد منذ سنوات، وقارة عجوز تعتمد في اقتصادها على التصنيع. بينما تستهلك قرابة 560 مليار لتر مكعب من الغاز، منها 35% تأتي عبر روسيا.
استقبلت هولندا، ليل الثلاثاء، شحنة غاز مسال مصرية، هي الأولى منذ عقد. وتعاني هولندا حاليًا من إغلاق جزئي بحقل جرونينجن، أكبر حقل للغاز الطبيعي بأوروبا، والذي اكتشف عام 1959. ذلك بعد تعرّضه لسلسلة من الزلازل الناجمة عن عمليات الحفر والتنقيب.
ومنذ إغلاق الحقل الهولندي جزئيًا، وهو أمر سيستمر بنسب أكبر حتى 2025، بات الاتحاد الأوروبي معتمدًا على روسيا فيما يقرب من ثلث إمدادات الغاز. وقد هبطت المخزونات لديه لأدنى مستوى لها منذ أكثر من عقد مع تقليص موسكو الإنتاج خلال أغسطس الماضي. وقد دفعت الأزمة “الأوكرانية – الروسية” أوروبا لمخاوف أعمق فيما يتعلق بقدرتها على تأمين احتياجاتها من الغاز عاجلًا. إذ أن الإمدادات الروسية تمر عبر أوكرانيا، وستتأثر حال نشوب حرب أو حتى حال توقيع عقوبات أمريكية على موسكو.
قال الدكتور طارق الملا، وزير البترول، في تصريحات صحفية أخيرًا، أن مصانع إسالة الغاز الطبيعي المصرية تعمل بكامل طاقتها حاليا لإمداد أوروبا باحتياجاتها.
والغاز الطبيعي المسال هو الخام بعد تحويله من حالته الغازية التي يوجد عليها في الطبيعة إلى الحالة السائلة، عن طريق تبريده إلى 162 درجة مئوية تحت الصفر. إذ يؤدي التبريد إلى تقليص حجم الغاز الطبيعي بمئات المرات ما يجعل نقله عبر السفن التبريد اقتصاديا ليتم تسخينه في الدول المستوردة.
الغاز المسال المصري.. صادرات قوية
وصلت الصادرات المصرية من الغاز المسال في 2021 إلى 5 ملايين طن. ذلك بفضل إعادة تشغيل محطة دمياط للإسالة في فبراير الماضي. وقد عادت بعد اتفاق تسوية بين الأطراف المالكة للمجمع الذي توقف عن التشغيل لنحو 8 سنوات.
وكانت ملكية محطة دمياط للإسالة تنقسم بين شركة يونيون فينوسا جاس “يو.إف.جي” الإسبانية بـ40%، وشركة إينى الإيطالية بـ40%. بالإضافة إلى 20 % موزعة بالتساوي بين الشركة المصرية القابضة للغاز الطبيعي “إيجاس”، والهيئة المصرية العامة للبترول.
وفي عام 2012 أوقفت الحكومة تدفق الغاز للمصنع. كما حولت الإنتاج للسوق المحلي، مدفوعة بنقص الإمدادات وقتها. فيما دخلت الشركة الإسبانية في دعاوى تحكيم مع الحكومة انتهت بالاتفاق على تغيير الملكية ليصبح المشروع مملوكًا بنسبة 50% لإيني و40% للشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية “إيجاس”، و10% للهيئة العامة للبترول.
لدى مصر أيضًا مجمع آخر للغاز المسال “إدكو”. وتبلغ طاقته الإنتاجية نحو 7.2 مليون طن سنويًا. وهو مشروع بشراكة بين كلا من الهيئة العامة للبترول 12%، والشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعة “إيجاس” 12%، وشركة بريتش جاز التي استحوذت عليها شركة شل 35.5%، وشركة بتروناس الماليزية 35.5%، وشركة إنجى الفرنسية “جاز دى فرنس سابقًا” بنسبة 5%.
مصر شحنت سبع شحنات تعادل 7.2 مليون طن
وقد ارتفع الإنتاج المحلي من الغاز الطبيعي إلى 6.7 مليار قدم مكعبة يوميًا مع فتح الباب أمام التصدير. خاصة في الشتاء الذي يقل فيه الاستهلاك المحلي بمحطات توليد الكهرباء.
مؤسسة ستاندرد آند بورز أكدت، في تقرير أخير، أن مصر شحنت في يناير الماضي سبع شحنات تعادل 7.2 مليون طن. ذلك بما يعادل اثنتين كل أسبوع، بعد 17 شحنة في الربع الرابع من العام الماضي تكافئ 1.6 مليار متر مكعب من مكافئ الغاز.
وصدّرت مصر في الربع الأول من 2020 نحو ست شحنات مقابل شحنة واحدة فقط بحلول أبريل من العام ذاته. ذلك مع هبوط أسعار الغاز المسال حينها إلى 1.825 دولار للمليون وحدة حرارية بريطانية حينها. لكن مع ارتفاع الأسعار مجددًا لمستوى 32.5 دولار للمليون وحدة في منتصف يناير (تجاوز 40 دولاراً حاليًا)، عاودت الصادرات المصرية النشاط مع شحنات جديدة متوقع تصديرها في 14 فبراير الحالي.
فرصة الغاز المسال لاستغلال الأزمة الأوروبية
بالنسبة للإنتاج المصري، فإن الفترة الحالية هي موسم ذروة الطلب على الغاز المسال في أوروبا، التي تراجعت مخزوناتها يوميًا لتبلغ نسبة امتلاء الغاز في المخازن حوالي 40%. وذلك مقابل 53% ممتلئة في الفترة ذاتها من العام السابق.
وتحافظ مصر على التصدير بكميات كبيرة. ذلك مع زيادة كميات الغاز الإسرائيلي التي تستوردها، وتعيد تصديرها من 450 مليون قدم إلى 650 مليون قدم مكعبة يوميًا حتى مارس 2022.
تمتلك محطتا إسالة الغاز في دمياط وإدكو مزايا تجعل العائد منهما مرتفع للغاية وغير قابل للمنافسة. فبناؤهما القديم قبل 18 عامًا بمتوسط تكلفة حينها تعادل 250 دولارًا لكل طن من الغاز المسال. بينما يتكلف إنشاء محطة الغاز المسال الآن 1500دولار للطن تقريبًا.
تتراوح تكلفة الاستخراج بين 2.5 و3 دولارات للمليون وحدة حرارية على الأقل. إلى جانب تكلفة إضافية للتسييل والشحن وإعادة تحويل السائل إلى غاز تقدر بحوالي 3 إلى 4 دولارات.
جعلت تلك الأرقام الكثير من الدول المنتجة للغاز الطبيعي لا تفكر في إنشاء محطات إسالة. خاصة وأن تكلفتها بأسعار اليوم ستكون6.5 دولار. وهو سعر غير مجدٍ في ظل الأسعار التي لا تزيد في الأوقات الطبيعية عن 7 دولارات.
قبل سنوات، وقعت الحكومة اتفاقية حكومية مع قبرص لتشجيع المستثمرين لإنشاء خط غاز بحري بين الدولتين. ويهدف الخط إلى نقل الغاز من حقل أفروديت القبرصي لمصانع الإسالة بمصر وإعادة تصديره مجددًا.
ما جعل محطتي الإسالة المصريتين تنعشان التصدير عدم وجود طلب محلي كبير بعد خطة توصيل الغاز الطبيعي إلى 1.5 مليون عميل منزلي جديد في الفترة ما بين 2016 و2019 بمساعدة البنك الدولي والوكالة الفرنسية للتنمية. وتحولت مصر من استيراد الغاز الطبيعي المسال للتصدير عام 2018 بعد اكتشاف حقل ظهر العملاق للغاز الأكبر بالبحر المتوسط.
مركز صادرات الغاز المسال المصري
احتلت مصر المركز الأول عربيًا خلال الربع الثالث من 2021، فيما يتعلق بحجم صادرات الغاز الطبيعي المسال. بينما تحتل المركز الرابع في إنتاج الغاز بوجه عام. وذلك بنحو 5.6 مليار قدم مكعب يوميًا، و11% من إنتاج الدول العربية.
ساهم في نمو التصدير المصري أيضًا تراجع الإمدادات من بعض الدول المصدرة مثل النرويج وأستراليا. بسبب أعمال الصيانة الدورية والطارئة للمحطات.
وتحتل قطر المركز الأول بقائمة الدول العربية المنتجة للغاز بإجمالي 16.5 مليار قدم مكعب يوميًا، بحصة 29% من الإجمالي العربي. تليها السعودية بإنتاج 10.8 مليار قدم مكعب يوميًا، بحصة تقدر بـ 18.7%. ثم الجزائر بإنتاج 7.9 مليار قدم مكعب يوميًا، بحصة سوقية 14.7%.
لكن على المستوى العالمي، انفردت الولايات المتحدة بالصدارة في إنتاج الغاز الطبيعي حينما بلغ 617.4 مليار متر مكعب، مقابل 616.3 مليار متر مكعب لروسيا، التي كانت تحتل الصدارة قبل اكتشافات النقط الصخري الذي دفع بواشنطن للصدارة.
وأكدت الإدارة الأمريكية أنها ستعمل مع حلفاء أوروبيين لإيجاد إمدادات غاز طبيعي إضافية من شمال إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى والولايات المتحدة في حالة اندلاع صراع عسكري وتعطل التدفقات الروسية.
من المتوقع ارتفاع صادرات الغاز الطبيعي المسال الأمريكية بنسبة 20٪ تقريبًا لتصل إلى 13.9 مليار قدم مكعب يوميًا بحلول نهاية العام. لكنها لن تكفي وحدها الاحتياج الأوروبي حال قطع روسيا الإمدادات.
وأكدت قطر، قبل ساعات، أنها لا يمكنها بمفردها تلبية جميع احتياجات الاتحاد الأوروبي من الغاز.
رئيس قسم المحللين الاقتصاديين ببنك كومرز بانك الألماني، يقول إن مرافق تخزين الغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي ممتلئة حاليًا بنسبة 55% فقط. وهي أقل بكثير من المتوسط طويل الأجل. ولم تحل شحنات الغاز الطبيعي المسال التي تنقلها ناقلات بديلة عن الغاز الروسي المفقود.
استثمارات جديدة متوقعة في مشروعات الإسالة بمصر
يرى خبراء طاقة مصريون أن محطتي الإسالة المصريتين حال وصولهما للطاقة القصوى للإنتاج ستصبح مصر واحدة من أكبر 10 مصدرين للغاز المسال. وأضافوا أن البنية التحتية مؤهلة فمصنع أدكو يحتوي على ميناء لتصدير الغاز المسال لاستقبال ناقلات بسعة 165 ألف متر مكعب.
وتدور التكهنات حول إمكانية إنشاء مصر محطة جديدة لإسالة الغاز مع تقارير دولية تشير إلى أنه بحلول 2035 سيزيد الطلب على الغاز الطبيعي المسال العالمي ليتراوح بين 560 و600 مليون طن مقابل 315 مليون طن سنويًا في 2018.
مشاريع الغاز الطبيعي المسال معقدة فيما يتعلق بجدول التخطيط والمواد وشراء المعدات ونشرها. لكن تنفيذ حلول رقمية مجربة، وتحسين جودة الهندسة وإدارة المواد في تخفيض التكلفة واستدامة أكبر للإنتاج.
بحسب الدراسات الاقتصادية، فإن التقنيات الرقمية والصيانة التنبؤية يمكنها تقليل متطلبات التوظيف وخفض التكاليف في الموقع والجداول الزمنية بنسبة 15 إلى 20 % ما يتيح ضخ استثمارات جديدة.
مصر لديها أفضلية الوصول لأوروبا
الفرصة حاليًا سانحة أمام مصر لمد خط غاز طبيعي بتمويل أوروبي مع اليونان وقبرص شرائكها النشطين حاليًا للخروج من رحمة التحكم الروسي في مصادر الطاقة بقارة أوروبا وعدم قدرة الموارد المتجددة في تلبيتها خاصة للغرض الصناعي.
بحسب المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية، فإن محدودية الإمدادات التي تصل إلى أوروبا من الغاز الروسي، وتراجع إنتاج بحر الشمال، والمنافسة المحتدمة فى آسيا على الغاز الطبيعي المسال؛ قد تؤدى إلى تأجيج حالة ارتفاع الأسعار لتدفع المشهد القادم إلى سيناريو هو الأشد قتامة.
يقول المحلل الاقتصادي نادي عزام إن مصر لديها أفضلية للوصول لأوروبا عن أمريكا وحتى أسواق الخليج فما يفصلها عن الجنوب الأوروبي هو البحر المتوسط فقط.
يضيف عزام أن الاتحاد الأوروبي بخلاف بريطانيا يستهلك قرابة 560 مليار لتر مكعب بمعدل زيادة يناهز الـ 20% سنويًا والأزمة التي يمر بها حاليا ستجعله يفكر في مصر ويدعمها أكثر في مجال تحولها لمركز إقليمي للطاقة.
لا يمكن للقارة الأوروبية حاليًا الضغط على النرويج لزيادة الصادرات. فالكميات الواردة منها عبر خط الأنابيب، وتعادل 20% من احتياجات القارة وصلت للذروة لا يمكن زيادتها. ودولة قطر التي تمد القارة بنحو 5% من احتياجاتها أكدت هي الأخرى أنها لا تستطيع أن تلعب دورًا أكبر من ذلك. فهل تصبح مصر لاعبًا أساسيًا في الإمدادات الأوروبية مستقبلًا؟