في حوار قصير له مع “مصر 360” بعد عرض أولى تجاربه الإخراجية -فيلم “فرق خبرة“- تحدث المخرج والكاتب شريف نجيب عن رحلته الطويلة التي سبقت الفيلم بالانتقال بين عدد من المهن الفنية. وقد تنوعت انتقالاته بين الجرافيكس والمؤثرات البصرية التي درسها. وصولًا إلى الكتابة التي يمتهنها بشكلٍ أساسي.
انتهى “نجيب” من المسودة الأولى للفيلم في 2018 لكنه عمل على تطويرها ثم ترك العمل ذاته لكتابة أعمال أخرى. مثل مسلسل “بدل الحدوتة تلاتة” وغيره ليعود إلى فيلمه أخيرًا ليظهر على منصة “شاهد” قبل وقت قصير.
ذات مرة كتب الماركسي السجين “جرامشي” حول أزمته الحياتية، التي يصلح الحديث عنها خارج إطار الطبقات الاجتماعية والسياسة. موضحا أن الأزمة تكمن بالتحديد في أن القديم يُحتضر والجديد لم يستطيع أن يولد بعد.
وفي هذا الفاصل تظهر أعراض مرضية كثيرة وعظيمة في تنوعها. وربما يمكن مط تلك السردية على واقعنا الثقافي والفني. بالتوحد ذاته على عدد شديد الندرة من المواهب التي تسعى لخلق هذا الجديد.
في فيلم “فرق خبرة” تجريبية ملفتة للنظر تصل للحد الذي جعله يخرج بأغنية دعائية بصوت مغني راب شاب لم يسبق له العمل في الصناعة. سوى من خلال إعلانات وبطل ربما لم نشاهده متورطا قبل ذلك في مواقف مركبة حديثة العهد على شاب الطبقة المتوسطة. ذاك الذي لا يجد نفسه سوى في أفلام الغرب وهوليوود ومشاهد “إدجيرية” ربما مستلهمة بوعي أو دون وعي من المخرج الذي يمكنه صناعة صورة بصرية مضحكة إدجار رايت.
كلاهما -مطرب الراب وبطل الإعلانات- قادمان من مدرسة ربما تناستها السينما المصرية حول كوميديا الموقف غير التهكمية. تلك التي لا تضطر لصناعة إنسان مغفل غبي للاستهزاء به والضحك عليه كما نرى في غالبية أفلامنا.
لدى شريف نجيب رحلة. ثمة تجربة قصيرة لكنها ملهمة أكثر مما يبدو. متجاوزة لكونها وصلة مديح لصاحبها إلى اعتبارها فلسفيًا تمثّل تساؤلا حول السينما والتليفزيون الذي نسعى لصناعته في السنوات الأخيرة.
فرق خبرة.. ودرس الدراما
لماذا هي تجربة مهمة تسبق الحديث عن الفيلم أساسًا؟
لأنها تجريبية أكثر مما يبدو. تسعى للتساؤل حول موهبة صاحبها أكثر من سعيها للفذكلة على المشاهد. متحررة من كل ما سبقها رغم الاستفادة منه والبناء عليه. إرهاص واضح لثقافة صاحبها في خلق منتج فني على القدر ذاته من الموهبة وصقلها تعليميًا. درس كوميدي نحتاج إلى الوقوف أمامه والتفكر فيه.
قبل سنوات بعيدة خرجت مجموعة شباب هواة يصنعون سينما من بيوتهم. وهم غير محسوبين على صناعة السينما الأوسع. سيقدمون فيلم يتهكمون فيه على فيلم “الطريق إلى إيلات” الشهير. يصنعون فيلما اسمه “رجال لا تعرف المستحيل“. سيصبح حديث الشباب آنذاك كمادة مهربة تناسب سخريتها جيلهم. وسيضطر رجال الأمن وقتها للقبض على أصحابها. وقتها كان شريف نجيب يصنع جرافيكس الفيلم ومؤثراته البصرية. ولاحقًا سيصبح أبطاله الثلاثي “أحمد فهمي-شيكو- هشام ماجد”.
في عام 2010 قدم شريف نجيب فيلمه الأول. كان فيلم لا تراجع ولا استسلام القبضة الدامية هل تصدق أن ذلك الفيلم الملهم كان أولى تجارب كاتبه؟
في الغالب لن تصدق خصوصًا لو شاهدت الإيرادات المذهلة التي حققها تجاريًا والنجاح النقدي الساحق الذي تناولته الصحف والإعلام والإعجاب العام الذي استمر حتى الآن.
“بارودي” فرق خبرة
خلق “نجيب” شخصية “حزلقوم” من العدم خلال هذا الفيلم. وظل “مكي” يستخدمها بعدها كلما ضاقت أمامه التجارب الجديدة. كان “حزلقوم” بمثابة تيمة الحظ والعصا السحرية التي تضحك الجمهور بمجرد فتح فمها. شخصية شديدة الطيبة والضعف كثيرة اختلاق القصص غير الحقيقية. بالتأكيد ستصبح أضعف من كل مشاهد لها. ستنال إعجابه والتعاطف معه سواء من أجل شكله العام أو ملابسه أو صوته المميز.
البارودي الذي خلقه “نجيب” هنا ربما سيستمر معه بعد ذلك كثيرًا. سيظهر في حلقات “SNL” بالعربي. التي يشرق على ورشة كتابتها. كما في حلقات أخرى. بالسخرية من الكليشيهات المعتادة عليها الجمهور المصري بطريقة تتهكم على الطريقة دون وضعها تحت لسان إنسان وضيع أو غبي.
في العام ذاته شارك ككاتب في مسلسل “عرض خاص” الذي ربما تصلح حبكته لتكون أرشيفًا لنجوم كانوا في بداية عهدهم الآن. أصبح بعضهم نجوم شباك مثل دينا الشربيني وياسمين رئيس وكريم فهمي. واختفى أكثرهم موهبة علاء حسني دون معرفة سبب منطقي.
لم ينل المسلسل حظه المستحق في الدعايا والحديث حوله. ظُلم بشكل أو بآخر واختفى نوعًا ما وأصبح حكرًا على المهتمين بالصناعة فقط. خصوصًا أن قصته الرئيسية كانت حول سعي كل أبطاله ليصبحوا نجوم سينما وتليفزيون بدلًا من مهنهم. لكنه نقديًا نال الإشادة ذاتها التي نالها “لا تراجع ولا استسلام”.
في العام التالي سيكتب فيلم “سيما علي بابا” الذي ستمتد فيه التجريبية لمساحة فعلًا لم تشهدها السينما المصرية قبلها أو بعدها. بالطبع سيفشل تمامًا في السينمات دون معرفة هل كان السبب تلك التجريبية الجامحة أم طرحه في 2011 العام الذي بدأت فيه بشائر الثورة المصرية وتوجه أنظار الناس للسياسة كما لم يجربوها في السنوات التي سبقت هذا العام وربما التي تلته أيضًا.
التجربتان الأوليان في مسيرة شريف نجيب نالتا الحد الأقسى والأقصي من المديح والذم. وربما في ذلك أكبر قدر ممكن من اعتبارها فلسفيًا ملهمة تمامًا لصانعها ومجالا للمسامرة بين النقاد حول ماهية كاتبهما وعدم توقع القادم منه سينمائيًا وتليفزيونيًا.
حكاية شاب مصري أصيل في فرق خبرة
يحكي فيلم “فرق خبرة” قصة الشاب ناجي. الحالم الهادئ وهو يخوض رحلة مفاجئة يكتشف فيها الحياة والحب والعلاقات البشرية عندما تدفعه مقابلة غير مخطط لها مع سلمى إلى خوض مغامرة والهروب من مشكلاته العائلية. كوميديا درامية عن مرحلة النضج تتابع ناجي وهو يتعلم أن يتحكم في مصيره بعد أن عاش عبر نظرة المحيطين.
يقول “نجيب” لـ”مصر 360″ خلال العرض السينمائي الخاص للفيلم أنه الفيلم الأخير الذي مثلت خلاله الفنانة دلال عبد العزيز قبل رحليها. وأنها كانت من أوائل قراء السيناريو على اعتبارها أول سيدة تأتي لتفكيره لدور الأم الذي قدمته معه خمس مرات كان أولها كأم لحزلقوم.
شاب مصري من طبقة متوسطة. نجّاه القدر من التجربة. يدخل إلى الصيدلية لشراء واقي ذكري!
في قلب هذا المشهد الكوميدي المذهل كل شيء يمكن أن يخص أغلب أبناء الطبقة المتوسطة المصرية من الرجال. وبالتبعية على بناتها. هؤلاء الذين يمكن وصول أعمارهم إلى مستويات يصبح الخجل فيها من هذا التصرف مصدرا للسخرية.
شاب يافع لم ينل حظه بعد من معرفة الطرف الآخر. وخجل يعلو وجهه إرهاصًا لأعوام من سيطرة أسرته عليه في كل شيء. بالإضافة إلى سيطرة والدته على زمام حياته واستمرار وجوده في شقته ذاتها مع والديه رغم تخرجه وعمله.
فيلم “فرق خبرة” هو قصة كل شاب مصري أصيل مارست أسرته سلطتها عليه بكافة الوسائل. تمامًا كما مارست عليه الرأسمالية سلطتها من خلال العمل المستمر من خلال الضغط والقلق من فقدانه إلى جانب علاقة مشوهة بالجنس الآخر غير خبيرة يغلب عليها العشوائية. في إطار شاب وصديقه “الشبح” الذي يحاول بجرأة أكبر لكنه يقف على المساحة ذاتها من الفشل.
شبح موظف تشيكوف
في قلبه كوميديا موقفية يضحك فيها مشاهدها على ذاته أكثر من البطل. إذ تعبر عن قطاع كبير من جيلنا المسحوق تحت آلة العمل وضغط الأهل وندرة التجربة والوحدة المركبة وتخبّط أبطاله الشباب. سواء غير المجرب تمامًا مثل ناجي (محمد الشرنوبي). أو التي نالت تجربة مشوهة بشكل أو بآخر مثل حبيبته (هدى المفتي). والنجاة التي تتحق لكليهما فقط بالسعي الصادق المخلص الساذج نوعًا ما للإمساك بالحياة قدر الإمكان رغم كل شيء.
في فيلم قصير كتبه حول قصة تدور في العصر الحديث. حيث انتشار المادية والتركيز على العمل والخوف من فقدانه. يعطس موظف حكومي أمام مديره في العمل. ومن بعد هذه الواقعة التي قد تبدو عادية لأي شخص آخر يقضي هذا الموظف طوال الوقت خائفًا بشدة مما فعله -استلهاما من موظف تشيكوف- ومترقبًا أثر ما فعله أمام مديره. سيصدر عنوان فيلمه “ما بعد وضع حجر الأساس لمشروع الحمام بالكيلو 375” كأحد أطول أسماء الأفلام المصرية.
حصد الفيلم جوائز عدة وكان أولى تجارب إخراجية للمخرج عمر زهيري الذي سينتج بعد ذلك فيلم “ريش” الذي سيحصد جائزة النقاد من مهرجان كان السينمائي. التجريبية التي يقدرها هؤلاء ونهاجمها نحن.
تجربة شريف نجيب الفنية تثبت ذاتها في فيلم “فرق خبرة” على اعتبارها اختمرت جيدًا. يمكن البناء عليها. وتستحق أن يُثتثمر فيها أكثر لتفردها أكثر من مدى عظمة هذا التفرد. فقط لكونها تخلق نظرة مغايرة للأمور وربما في تسمية فيلمه الأول ما يستحقه هو أكثر من ناجي بطل الفيلم. ما يملكه شريف نجيب في داخله “فرق خبرة” عن السينما التي اعتدناها في مصر.