إنها ليست –بالطبع– المرة الأولى، ولا يبدو أنها سوف تكون الأخيرة؛ أن ترحل شخصية عامة (سياسية أو إعلامية) فيطولها من خصومها الهجوم اللاذع أو الجارح، بينما يدافع عنها المقربون منها دفاعا لا يمت غالبا إلى حياتها “العامة” بصِلة، وإنما هو دفاع يرتكز على طيبة ولطف وشهامة هذه الشخصية في مجتمعها الخاص، وبين معارفها أو زملائها المقربين، وربما يمتد –ذلك اللطف وهذه الشهامة– إلى من هم أبعد من ذلك، إلى تلامذة ومريدين، أو أشخاص عابرين، أو أناس محتاجين.
وقد قصدت ألا أشير إلى شخصية معينة لا كي أتفادى الانجراف إلى الجدل حول شخص ما بعينه، بل لعلمي أنك ولا بد قد خطر لك أكثر من شخص عندما قرأت هذه السطور، وربما تكون قد خضت دفاعا أو هجوما عن شخص غادر عالمنا، أو تكون ممن اعتصموا بـ “له ما له وعليه ما عليه”، لكننا ربما نكون إزاء ظاهرة، تطول أشد الشخصيات العامة شهرة أو أقلها ظهورا، أقربها من الحكومة – وتنقلها بين الحكومات كافة – أو أبعدها عنها، أكثرها “نفاقا” وأشدها “صلابة”، وإن كان توصيف “الظاهرة” يحتاج إلى ما هو أبعد من الملاحظة الشخصية المباشرة، إلا أننا لا نستطيع تجاهل أننا خضنا مثل هذا الجدال مرارا (بين الانتقاد الشديد للشخصية في مجالها العام مقابل الدفاع عنها بقوة في مجالها الخاص) إلى درجة يصعب –على الأقل- تجاهلها، وهي ككل ظاهرة أو ملاحظة عامة تتجاوز الطبائع الفردية لأصحابها وتشير عادة إلى قانون عام، أو مجموعة من العوامل تتسبب في تكرار الأمر نفسه.
إن ثمة من يلجؤون إلى العامل النفسي في تفسير ما شهدوه من أشخاص يلقون الكراهية العامة –المستحقة- وفي الوقت نفسه شهادات عديدة عن “الجدعنة” في مجالها الخاص، ويتلخص ذلك العامل النفسي في محاولة التعويض أو التوازن الذي يلجأ إليه الإنسان، إذا ما شعر بأنه مكروه هنا فإنه يحاول أن يكون محبوبا هناك، وإذا شعر أنه مذنب هناك، فإنه يحاول أن يكون بريئا هنا. غير أن مثل هذا التفسير يفترض أن تلك الشخصية ترى نفسها –سواء في مجالها العام أو الخاص- كما نراها نحن من الخارج، وهو أمر صعب التحقق، وربما يتناقض مع المجهود الكبير الذي تبذله الشخصيات العامة في حياتها المهنية –كفاحا أو نفاقا– وهو مجهود يصعب أداؤه إذا كان المرء يرى نفسه “شريرا” طوال الوقت.
في مسرحيته الأشهر “هاملت”، يقول شكسبير على لسان الأمير “هناك شيء عفن في الدنمارك”. وكان مصدر العفن في المسرحية هو الفساد، والتواطؤ، والعنف والمؤامرات، التي أفضت إلى مأساة تلو مأساة، ولم تبق أحد بريئا تقريبا. لأنه في مثل ذلك الجو العفن، لم يكن ثمة وسيلة للنجاة، سوى الاندماج في المؤامرات ومحاولة تفاديها، أو الابتعاد عن كل شيء والاكتفاء برواية الأحداث كما فعل هوراشيو صديق هاملت، وإن كان حتى هوراشيو سوف يرويها من وجهة نظر هاملت.
ربما نتوقف لحظة إذًا لنعرف أي شي “عفن” في مجتمعنا، يجعل الأشخاص إذا صعدوا أبسط الدرجات في المجال العام ينخرطون –برغبتهم أو رغما عنهم- في المؤامرة، حتى لو كان موقعهم ذاك كرسيا في مجلس إدارة نادي أو موقعا في جمعية، لنبحث عن شيء يزيد عن ما وصفه الشاعر نجيب سرور بـ”كلنا بننسى على الكرسي”، هل هي الثقافة العامة التي تحابي الأقارب على حساب الغرباء؟هل هو الافتقار المزمن إلى دولة القانون؟ هل هو طول المعاناة التي جعلت من كل منا شهيدا أمام نفسه عدوا للآخر؟ هل هي النظرة السلفية للدين بوصفه جزئيات متفرقة يمكن النجاة عبر بعضها “كالحج وإطعام المساكين” بدلا من النظرة العامة الإجمالية حول مفاهيم الصدق والشرف؟
المؤكد أن الرائحة التي اشتمها هاملت في الدنمارك تزكم أنوفنا لكننا – كالمصابين بالكورونا- لم نعد نشم.