ناجية أم مناضلة، أو كلاهما؟

أنتِ امرأة أي غالباً تعرضتِ للتحرش أو ربما لنوع من العنف سواء في المنزل أو الشارع. وفي الغالب أنا واثقة أنك تعرضت لمرة واحدة على الأقل إلى نوع من أنواع التمييز العنصري بسبب كونك أنثى في مكان عملك نفسه.

وفي حالة أن يكون عملك هو الدفاع عن حقوق المرأة، فالأمر له وجه آخر. سواء كنتِ محامية تحاول الحصول على حق المرأة من أروقة القانون أو مدافعة حقوقية وناشطة تدفع بالكلمات وبصوتها عجلة حقوق المرأة وتصد الهجمات عن ضحايا انتهاكات.

كيف تتعاملي مع واقع كونك ناجية ومدافعة في الوقت نفسه. المهنية والتعامل بشكل احترافي دون تدخل مشاعر خاصة وبدون خلط بين ما هو خاص وما هو عام في تلك الحالة. وكذلك أثر هذا المخزون الشخصي على لغتك وأسلوبك وحياتك سواء اليومية الخاصة أو المهنية العاملة.

نقرأ شهادات عاملات في العمل الحقوقي لننظر للصورة عن قرب. ونتعلم كيف نتعامل مع هذا المخزون من الوجع المتراكم دون تأثير على العمل نفسه مع طبيبة نفسية ومتخصصة في العمل الحقوقي الخاص بالمرأة.

محاميات حقوقيات وصحافيات داعمات والوجه الآخر ناجيات

(أنا لست محامية حقوقية ومدافعة عن حقوق المرأة فحسب، أنا بالأساس امرأة وهذا وجه آخر للموضوع..)

تقول هالة دومة وهي محامية حقوقية ونسوية تعمل في المحاماة منذ ٦ سنوات، منهم ثلاث سنوات في المجال الحقوقي:

كمحامية أرى حجم الظلم الواقع على النساء من المنظومة القضائية ككل. في عملي على قضايا مثل قضية التحرش أو سجينات سياسيات أو امرأة تعرضت لعنف منزلي أو حتى في قضية نفقة. دائما أجد المنظومة كلها تميل إنها تجرد الست من كل حقوقها. بالتالي كمحامية أحتاج بذل أضعاف المجهود في الشغل في تلك القضايا فقط لأضمن الحد الأدنى من الحق لموكلتي. في الوقت نفسه أنا امرأة أتعرض لانتهاكات يومية كالتحرش في الشارع أو من موظفين المحاكم. أو حتى من المحامين أنفسهم، لا زلت أتذكر ذات نهار نزلت المحكمة بفستان ففوجئت بمحامي زميل يقول لي هذا المظهر ليس مناسب ولا يصح. وأنا لا أعرفه أساسا ولا يوجد بيننا أي سابق تعامل.

هذا بخلاف أماكن العمل التي أجد فيها زملاء العمل نفسهم الذين من المفترض إنهم مهتمين بالعمل الحقوقي من زاوية أو أخرى. يتعاملوا معي بمنتهى العنصرية والتمييز لمجرد إنني امرأة.

ممكن أحكي موقف بسيط أمر به حاليا. استراحة المحامين الموجودة داخل المحكمة في معهد أمناء الشرطة مجهزة بحمامين واحد للنساء وواحد للرجال، حمام النساء من يوم تم افتتاح الاستراحة وهو مغلق. من سنة ونصف، وانتِ كمحامية تقضي يوم عملك كامل مضطرة لاستخدام حمام الرجال ولا حل آخر! حاليا يمر أربع أشهر أحاول حل تلك المشكلة البسيطة ولا أحد يلتفت لي من النِّقابة أو من الزملاء المحامين الرجال ففي النهاية هي مشكلة امرأة محامية!

نعم بالطبع كل هذا يؤثر سلباً علي مهنياً ويضع علي حملا مضاعفاً، سؤال: كيف أكون مدافعة قانونية عن حقوق النساء وأنا نفسي أخوض كل يوم معارك من أجل أبسط حقوقي؟

لكن على أية حال في البداية كنت لا استطيع الفصل بين كوني محامية مدافعة عن المرأة. وبين كوني أنا نفسي ناجية، لكن بدأت أفصل وأتعامل مع الموضوع بشكل يفيد عملي أكثر. خصوصا أنه أنا شخصيا كنت أتعرض لعنف أسري فأصبحت قادرة على فهم معنى امرأة مقهورة ومحتاجة شخص بجانبها ويساعدها.

(أنا نسوية أكتب عن حقوق المرأة، هذا يعني في معاجم أغلب الرجال أني امرأة “سهلة”).

تقول رحمة سامي- صحافية:

عملت على القضايا الخاصة بالنساء عموما من حوالي 7 سنوات كان بداية اهتمامي بشكل واضح وظهر آثره في حياتي وعملي. عملت في جرائد قومية في البداية كان الوضع مختلف بشدة. أي شيء يخص قضايا المرأة مازال موضوع قديم ومتأخر وهناك عدم اعتراف ببعض القضايا المطروحة أساساً حتى المصطلحات التي يتم استخدامها نفسها لم تصل بعد لهم. فكانت تلك معاناة خاصة مهنياً وشخصيا فأنا أقضي أغلب وقتي في توضيح أساسا المصطلح الذي استخدمه.

كما أنني حينما أطرح نوع من القضايا مثل الاغتصاب الزوجي أو الحرية الجنسية كانت تقابل غالبا بالرفض. إلا في حالة استخدامها كمحتوى ترويجي غير مهم لكن تناولها كتحليل أو نشر محتوى ثقافي مرفوض.

على خلفية تلك الأحداث تعرضت للتحرش في أماكن العمل سواء من زملائي أو من مديرين. والسبب إيماني ببعض الأفكار الخاصة بحقوق المرأة كان يعطي انطباع عند الزملاء أني “ست سهلة”. فكان يعطيهم هذا الحق تلقائياً حرية المرأة فعادي تسمعي ألفاظ نابية داخل مكان العمل أو تلميحات جنسية. وقبل زواجي كان يعرض علي من رؤسائي في بعض الأماكن عروض جنسية مباشرة داخل مكان عملي.

على صعيد آخر تلك المضايقات جعلتني ابحث عن منصات بديلة تستقبل أفكاري وكتاباتي دون أن يتم تأويلها بشكل خاطئ. واتخاذها ككتابة جنسية أو -صحافة صفراء- مما جعلني دائما تحت ضغط الحَيْرَة والتردد. هل أطرح أفكاري علناً لأكتب عنها أو أصمت. هل أشاركهم إياها في الاجتماع أم سأخرج منه بعروض جنسية ومضايقات وحسب!

بالطبع كل هذا آثر على حياتي الشخصية وكذا المهنية سلباً. شعرت بالانعزال عن مجتمعي سواء داخل أسرتي ودائرة معارفي أو في مكان عملي. وأصبح تناول تلك القضايا محاطاً دائماً بنفس الضغوطات التي ذكرتها ولو بدرجات مختلفة.

تستطيعي أن تتحكمي في الدوامة من قلبها

ترى الطبية النفسية والمناضلة الحقوقية النسوية ماجدة عدلي أن تلك القضية مهمة جدا وتترك أثراً واضحاً في شكل الحراك النسوي. سواء في شكله القانوني من مدافعات محاميات أو من يقدمن الدعم النفسي والمشورة المجتمعية. وكذلك فيمن يطرحن قضايا المرأة في الصِّحافة ويوجهن الرأي العام. جزء من المهنية إننا نتدرب على حاجتين، قد يبدو الحاجتين دوول متضادتين كما يبدو من ظاهر الأمر المساندة غير المشروطة للضحايا. والتعاطف وفي نفس الوقت الحفاظ على مسافة مهنية.

(أنا موضوع والمرأة التي أتعامل معها موضوع آخر)

ما يحدث أنه لو أنا كنت متعرضة لنفس أشكال العنف واستدعتها ووضعت نفسي مكانها بالضبط فأنا لو بقدم دعم نفسي مثلا سيكون لي أسلوب حُكمي. وأصدر خبرتي الشخصية وطريقة تعاملي الخاصة التي قد لا تتناسب مع الضحية ومع ظروفها. مثلا في حالة التعرض لعنف زوجي، أطلب منها الطلاق فوراً وقد يكون هذا غير مناسب لها لأسباب اجتماعية أو مادية، أو أقول لها فوراً اعملي محضر، تعمل محضر وتعود لعلقة في البيت لأنها فضحتهم ودخلت الحكومة بينهم فيزيد العنف.

لذا في كل الأحوال وهنا أتكلم أكثر عن مقدمات الدعم النفسي أو القانوني وليس الكاتبات، أن كل سيدة أو امرأة موضوع بذاته لا يوجد وصفة جاهزه كما في كتاب تعليم الطهي بمقادير محددة. لا يوجد هذا في العمل الاجتماعي، كل قضية لها خصوصيتها. وهناك بنية شخصية واجتماعية ودوائر دعم وإمكانيات مادية مختلفة والقدرة على الاستقلال وغيره من الموضوعات التي يجب تحليلها التي تخص السيدة موضع القضية وليس المحامية أو مقدمة الدعم نفسها.

ثم بعد أخذ تلك الاعتبارات وتحليلها لابد أن ننظر لاحتمالات التدخل بالحوار وصاحبة الشأن هي ما عليها الاختيار. لو كانت منهارة نفسيا يجب تأجيل القرار.  هذا ما يفترض عمله من الناس العاملة على تقديم دعم قانوني أو نفسي.

(اكتئاب واحتراق نفسي.. حتى نيران صديقة!)

لو لسنا قادرين على الحفاظ على هذه المسافة ولسنا متدربين عليها ونأخذ قصة الضحية معنا، يحدث تداعي لأشكال العنف أو توحد مع القصة حتى دون أن يكون عندهم تجارِب شخصية لكن تعاطف لم يُراعْ خصوصية مقدمة الدعم من جانب وخصوصية وفردية الضحية من جانب آخر.

هذا يضع مقدمة الدعم في نفس الأزمة النفسية أو شبيه لها. ومع التكرار يحدث اكتئاب أو قلق أو احتراق ذاتي، ولن تقدر أن تكمل وقتها لأن أيضاً يتكون عندنا بعض الأعراض النفسية تحول دون أن نقدم خدمتنا بشكل مهني جيد.

وإذا استمرينا في العمل بتلك الحالة نسقط رؤيتنا الخاصة على القضايا، لو أنا كاتبة يؤثر هذا على الرأي العام، على سبيل المثال يظهر في السوشيال ميديا في أساليب صياغة الأخبار الخاصة مثلا بالعنف أو التحرش لإعطاء تبرير ضمني أو توقيع اللوم على الضحية كإسقاط لرأي الصحفي وتجربته الخاصة وهو أمر غير مهني نراه كثيراً في الصِّحافة مما يؤثر سلباً على تعافي الضحية ويؤثر أيضا سلبا في الرأي العام لتقبل العنف.

(القلم كالمشرط إما علاج أو مضاعفات جسيمة)

الموضوع شديد الحساسية أنا في مجتمع يميز ضد النساء، ويحد من اختيارات النساء في لبسها وتصرفها وعملها، الأنثى يجب أن يكون واصي عليها ذكر وليس هناك تساوي في الحقوق والواجبات باعتبارنا بشر، مجتمع متواطئ ومتعايش مع العنف. أتحدث عن الأغلبية والصورة العامة وليس الكل.

هذه الوضعية تجعل حساسية القلم مهمة كأنه المشرط الذي نستخدمه لتطهير الجرح لتنظيفه ونجعله يلحم على نظافة إما نزيده تلوث ونجعله يزداد تورم ومزيد من المشاكل.

روشتة إلى النسوية لتكن مهنية

لكي نتمكن من أن نكن مهنيات ولا نسيء للناجية من العنف أو نسيء لقضية هامة كقضايا العنف الواقعة على النساء سواء في المجال العام أو في المجال الخاص يجب التعامل بشكل مهني ووضع الأطراف كلها تحت عيننا. وإذا نحن لدينا أزمة شخصية ونحتاج التعافي منها، فحينما نكن في أوج الأزمة الشخصية ونحن أيضا ضحايا أو ناجيات علينا أن نأخذ استراحة محارب ونطلب الدعم لنتعافى. ثم نعود لعملنا.

لأن الضغط الزيادة بالقصص المؤلمة سيدخلنا بسرعة في الاحتراق أو في اكتئاب عميق أو الكوابيس وغيرها من المشاكل النفسية وحينها لن نعمل بشكل مهني أو لن نستطيع العمل إطلاقاً؟

نحن بني آدم كباقي الناس لسنا أحسن منهم ولا نحن أقوياء وهم ضعفاء ولا أي فرق. كلنا بشر. نتأثر بالوجع وبالأذى ونحتاج وقت للتعافي وطلب الدعم. أيا ما كانت مهنتنا أطباء محاميات صحافيات.