مقدمة
بدأت حكاية هذا المقال منذ ما يزيد عن السنة، حين هاتفني عَمُنا الكبير مواليمو “حلمي شعراوي” متعه الله بموفور الصحة والعمر المديد مُستحِثًا إياي لعقد ندوة عن الوثيقة التاريخية “للأستاذ” وشريكه. تواصلت من فوري بِعَمِنا الشاعر العظيم “زين العابدين فؤاد” مُقترحًا عليه أن تُعقَد تلك الندوة في دِفء صالونه الأسبوعي يوم ذكرى وفاة “الأستاذ”. رَحَب “العم زين” وطلب التأجيل عامًا كاملًا كي يكون الاحتفال بمئوية ميلاد “الأستاذ” لا بذكرى وفاته، فصَبَرتُ مُمتثِلًا إلى أن أتت ساعةُ الواجب المُستَحَق، وها أنا أكتب هذه السطور في الوقت الذي أُعِدُ فيه لمداخلة بصالون العم زين عن “الأستاذ” في مئوية ميلاده.
(خروج محدود عن النص: لا يحب “العم زين” مناسبات التأبين، هو يعشق لحظات الميلاد ويحتفل بها، وكيف لا وهو من صَكَ تعبيرًا بالغ الرُقي وعميق البساطة عن الموت -باعتباره طَقسُ مُغادرةٍ لا أكثر- ليُضاف هذا التعبير إلى قاموس العامية المصرية، فيصير الناس يرددونه بالشارع، وإن لم يعلم بعضهم قائله: “فلان غَيَّر عنوانه”، وكيف لا وهو القائل في القِسم الثاني من قصيدته “كتابة علي قَبر فاطمة”: “الموت جميل جميل، بس الحياة أجمل، وإنتي عَروسة النيل، غَوَاكي النيل، وتُهتي في الزمان؟، وإلا إنتي راجْعة في الفيضان؟ لَما الغُنا يِكمَل”، لا أحد سوى “العم زين” أطال الله عطاءه يمكنه أن يقول “الموت جميل جميل، بس الحياة أجمل”).
كنت إزاء مأزق حقيقي حين شرعت في هذه الكتابة عن “الأستاذ” الذي قرأت أغلب أعماله، ماذا عساي أن أكتب وأنا الذي لم أعتَدْ الانسياق خلف غوايةِ تدبيج المقالات التقليدية السهلة في مديح عموم حياة المُحتَفى به ومآثره وحُسن طباعه وجميل سجاياه، تلك المقالات التي تتلاشى بمجرد خفوت ضوء الاحتفال وصمت ضجيجه دون إبرازٍ لتجليات ما أضافه من قيمةٍ قابلة للقياس، ماذا عساي أن أكتب و أنا لا أمتلك أدوات التخصص في صنيع “الأستاذ” بما يؤهلني للمساهمة في إبراز تلك التجليات.
هل أرضخ لغواية السهولة فأسير مع الجمع أم أقحم نفسي بساحةِ معركةٍ لا أعرف سَيفُهَا من سَهمِهَا. قررت أن أختار طريقًا ثالثًا فانصعتُ مُتجَاسِرًا لطلب عمنا مواليمو “حلمي شعراوي” بتقديم قرائتي المتواضعة للوثيقة التاريخية -فقط- مع عرضٍ يتعلق بأثرها في تكويني الفكري بالشكل الذي جعلنى أمارس تخصصي -المُختلِف- وفق منهجٍ يستحضر روح تلك الوثيقة وسِرها البديع ليكون ذاك هو عزاءُ الجسارة، فاطمئن قلبي و امتشقت “الكيبورد” متوكِلًا على الله.
الوثيقة التي أحدثك عنها قارئي الكريم في مئوية “الأستاذ”/محمود أمين العَالِم هي “في الثقافة المصرية” التي أعدها مع شريكه الدكتور/عبد العظيم أنيس رحمهما الله. وهي مجموعة من المقالات كتباها في مطلع النصف الثاني من القرن الماضي، ليتم جمعها في كتاب كانت طبعته الأولى في 1955 عن دار الفكر الجديد بالقاهرة، فالثانية في 1988 عن دار الأمان بالرباط، ثم كانت الثالثة في 1989 عن دار الثقافة الجديدة بالقاهرة، والتي تأتي في بدايتها مقدمة كتبها في 1955 المفكر اللبناني الكبير الشهيد “حسين مْرُوِة” رَحِمَه الله، الذي قال عن نفسه “وُلِدتُ شيخًا وسأموت طِفلًا” فاغتيل أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، وهو على فراش المرض في الثمانين من عمره، بعدما أثرى الفكر الإنساني بأعمال كثيرة كان على رأسها كتابه الأشهر “النزعات المادية والفلسفة العربية الإسلامية” حول تأسيس أهمية قراءة التراث تأويلًا يرتبط بواقع البشر.
(خروج ثانٍ عن النص: كان اغتيال صاحب المقدمة سابقًا بمائة يوم بالضبط على اغتيال مفكر لبناني عظيم آخر هو “مهدي عامل” في مفارقة تاريخية بالغة الدلالة، فكلاهما كان ينتمي مذهبيًا للطائفة الشيعية. بل وكان مُقَدْرًا “لمْرُوِة” أن يكون واحدًا من رموزها الدينية، حيث أمضى معظم سنوات شبابه بمدارس حوزة النجف الأشرف بالعراق إلا أنه خلع العمامة السوداء لينتهج طريقًا آخرًا فيقدم قبل “مهدي عامل” طروحاتٍ فكرية ناقدة للطائفية والبورجوازية اللبنانية ومُتمسكة بأصول لبنان العربية ومُبَشِرة بالتقدم والتنوير، وكأنما جاء اغتيالهما المُتتالي ضمن ترتيبٍ زمني لتفريغ حركة الفكر الحر اللبنانية من مفكريها الشيعة التقدميين وقطع طريق التطور الذي لو اكتمل بأفكارهما، لكان لبنان والعالم العربي الآن بِحَالٍ مختلف).
للحديث بقية، إن كان في العُمر بقية.