لما كان الهدف الرئيسي لأي تشريع هو تنظيم العلاقة بين فئة المخاطبين بأحكامه، ولما كان لقانون العمل خصوصية ذاتية لا تنفلت عن ذلك الهدف، ولكنها تزيد عليه في كون قانون العمل بذاته وبصيرورته أهم نماذج القوانين الاجتماعية، فبالتالي فإن الاهتمام بمسألة الصياغة القانونية ليس مجرد اعتناء بالجانب الشكلي والإجرائي، إنما الهدف منه هو الوصول إلى تطبيق دولة القانون والحكم الراشد من خلال سن تشريع جيد ومتطور، في منتهى الوضوح والدقة في الصياغة، منسجما مع الدستور وغير متعارض مع القوانين الأخرى، مفهوم عند عامة الناس وقابل للتطبيق، مراعيا ما لهذا التنظيم التشريعي من أهمية وضرورة مجتمعية. إذن فنحن نحن بحاجة إلى قانون يتصدى للأزمات والمشكلات التي عانى منها العمال وطبيعة العمل خلال السنوات الماضية، والتي لا تؤكد سوى على كون القانون السابق لم يحقق الهدف منه كتشريع ينظم علاقة العمل وطبيعته، وتبدو الحاجة الملحة إلى أن يكون التشريع الجديد مغايرا لما كان من عيوب في السابق، وملبيا لحاجات بيئة العمل، فإذا لم يستجب مشروع القانون الجديد لهذه الحاجات، إذا أبقى على الغالبية العظمى من أحكام القانون الحالي كما هي، إذا لم تكن هناك فلسفة واضحة مغايرة تبرر إصدار قانون جديد، إذا كان الأمر مجرد بعض التعديلات للقانون الحالي، ففيم كان الذهاب إلى إصدار قانون جديد للعمل.

وأهم الملاحظات المبدئية التي يمكن رصدها على مشروع قانون العمل، أنه حتى تاريخ تقديمه لمجلس الشيوخ لم ينظم أحكام العمالة المنزلية بشكل قاطع، حتى وإن تم تقديم ملاحظات بذلك من خلل بعض النواب، والذين حاولوا استدراك ذلك القصور، بالتقدم بمشروع مكمل لتنظيم العمالة المنزلية، كما أن مشروع القانون قد جاء متصادما بشكل كبير مع الضمانة الدستورية للأطفال والنشء، كما أنه جاء ليتعارض أيضا في ذلك المتن مع قانون الطفل، حيث أباح مشروع القانون عمل الأطفال بداية من سن صغيرة تتناقض مع نصوص قانون الطفل، حيث أتت المواد المنظمة لذلك الأمر وتحمل أرقام 26 : 28 مبيحة عمالة الأطفال منذ سن الرابعة عشر، تحت بند التدرج أو التعليم والتدريب، وهذا ما أكدته بشكل واضح المادة 58 من مشروع القانون بنصها “يحظر تشغيل الأطفال أقل من 15 سنة، ومع ذلك يجوز تدريبهم حل وصولهم لسن 14 سنة، فهل يعقل أن يكون هدف القانون السعي نحو تسريب الأطفال من التعليم، أو تقنين العمالة الصغيرة لرخص راتبهم، حتى ولو أحاط القانون ذلك بضمانات شكلية مثل إبلاغ الجهة الإدارية أو ما إلى ذلك، الأمر أبلغ خطورة على حياة الأطفال في ظل حالة السعار الرأسمالي واستهلاك طاقة الأطفال مبكرا.

أما عن أهم ما يوضح التغيير الكامل في النظرة العامة للقانون من جهة المشرع، سواء كانت الحكومة بحسبها صاحبة مشروع القانون، أو كان مجلس الشيوخ حال موافقته على ذلك، أو مجلس النواب حال إقراره لهذا التغيير الممنهج والمقصود في فلسفة قوانين العمل، وذلك بما جاء في نص المادة 79 من مشروع القانون والذي جعل من الأجور، بعد مراعاة الحد الأدنى، من اختصاص المجلس الأعلى للأجور بما يضمن تحقيق التوازن بين طرفي علاقة العمل وضمان زيادة الإنتاج. فهل مثل ذلك الأمر بهذه السهولة، أم أن الحكومة بحسبها صاحبة مشروع القانون قد مالت ناحية الطرف الأقوى في علاقة العمل وهم أصحاب الأعمال، وما يؤكد ذلك ما تضمنته المادة 78 من مشروع القانون في تشكيل مجلس الأجور والذي نص على أن يشمل أربعة من العمال يختارهم الاتحاد العام للنقابات، وهذا أمر محير، كما أن باقية النصوص المتعلقة بالأجور والعلاوات والمكافآت وما إلى ذلك من ملحقات الأجور، ويكفي أن نذكر أن المشروع قد حدد نسبة العلاوة الدورية بـ 3% بدلا من 7 %، حيث لم تأت النصوص بصيغة قاطعة الدلالة بخصوصها، وه ما يحتاج إلى مراجعة كاملة لهذه الحقوق.

كما أن هذا المشروع قد أتى بجديد في خصوص الدعاوى العمالية، والمعروف أن الدعاوى العمالية كانت بدون رسوم، إلا أن المستحدث في مشروع القانون إباحته للمحكمة أن تحكم على صاحب الدعوى بكل المصروفات أو بعضها في حالة رفض الدعوى، فهل يهدف المشروع إلى عدم لجوء العمال إلى المحاكم للدفاع عن حقوقهم خشية من الحكم عليهم بالمصروفات، وقد سبق أن قالت في ذلك محكمة النقض المصرية في الحكم رقم  12770 لسنة 87 قضائية، أنه “حيث يوجد نص قانوني يقضى بالإعفاء من الرسوم القضائية لاعتبارات قدرها الشارع إما لتيسير السبل للمطالبة بما يعتقد أنه حق كإعفاء العامل من مصروفات الدعوى العمالية التي يرفعها وإما تقديرا من الدولة لرفع العبء عن بعض الجهات أو الهيئات كبنك ناصر الاجتماعي والمقصود بالإعفاء من الرسوم ما هو مستحق فقط للدولة عند رفع الدعوى أو الطعن في الحكم الصادر فيها باعتبار أن الرسم مبلغ من النقود تحصله الدولة جبرا من شخص معين مقابل خدمة تؤديها له السلطة العامة”، وما يدعم قولنا أن الحكومة قد مالت لفئة ذوي الأعمال هوما استحدثته المادة 11 من مشروع القانون من وضع أجلا لأصحاب الأعمال للوفاء بحقوق العمال في حالة تصفية المنشأة أو إغلاقها، فليس من معنى مناسب لذلك سوى أن ذلك المشروع يقف إلى جانب أصحاب الأعمال حتى الرمق الأخير، وإن كان الأحرى ففي هذه الحالة أن يكون القانون منصفا للعمال، خصوصا في حالات التصفية أو غلق النشاط، لكون العمال في هذه الحالة معرضون للتشرد والبطالة، وليس متبقيا لهم سوى تلك الحقوق المالية المترتبة على حالات الغلق أو التصفية، فكان من الأهم أن يضمن لهم القانون تلك الحقوق، قبل أن يتعرضوا كفريسة للبطالة والعوز.

فكما يروج أهل مشروع قانون العمل الجديد في بناء عمل متوازنة بين طرفي العملية الإنتاجية والحفاظ على الحد الأدنى لحقوق العمال ضمانا لاستمرارية العمل وزيادة الإنتاج وتحفيز الشباب على العمل بالقطاع الخاص بعد عزوفهم في الفترات السابقة، وذلك بحسب ما روجت له غالبية المنصات الإعلامية لتمرير ذلك المشروع، فإنه يجب إعادة النظر في مجموعة الحقوق المالية المترتبة على علاقة العمل لصالح العمال، وذلك بحسب أن تلك الحقوق هي ثمرة عرق العمال، وهي المرادف الطبيعي لعلاقة العمل، ولكونهم أصحاب الحاجة لتلك الحقوق المقابلة لما يقدمونه من خدمات إنتاجية لصالح رب العمل، وبحسب كوننا دولة إسلامية فأذكركم بقول الرسول الكريم “صلى الله عليه وسلم”: أعط الأجير حقه قبل أن يجف عرقه”، حتى وإن قيل أن درجة ذلك الحديث ضعيفة، فأنقل بكم إلى ما ورد عن أبي هريرة في حديث ورد فيه أن الرسول الكريم قال: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، من بينهم رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره.