عام مر على وفاة عالم اللاهوت الأرثوذكسي جورج حبيب بباوي، الذي مات في المهجر بالولايات المتحدة. بعد أن رفع البابا تواضروس الثاني عقوبة الحرمان الكنسي عنه. وجرت الصلاة عليه من خلال قس أرثوذكسي. إلا أن الرجل الذي عاش حياته باعتباره أحد أشهر خصوم البابا شنودة الثالث لم تنقطع الصراعات والأقاويل عقب وفاته.
ففي حين احتفى تلاميذه بكتابته التي يوفرها على الموقع الإلكتروني كبتولوجي. شن مؤيدو التيار الكنسي التقليدي حملة موازية نشروا فيها سلاسل الرد على جورج حبيب بباوي. التي كتبها الأنبا بيشوي -مطران كفر الشيخ الراحل- متهما بباوي بـ”الهرطقة والخروج عن الإيمان الأرثوذكسي القويم”.
بينما جاء فريق ثالث من الباحثين المتخصصين في العلوم اللاهوتية يتأملون كتاباته ما بين الحفاوة والنقد. كان من بين هؤلاء الباحث مراد يواقيم الذي دعا أحباء المفكر اللاهوتي الراحل إلى ضرورة حفظ وتوثيق تراثه الفكري المكتوب أو الصوتي. بالإضافة إلى توفير حصر زمني لما كتبه. مؤكدًا أن العام الأول لرحيله قد شهد تسرب الكثير من الأقوال والآراء المنسوبة له. والتي يستحيل أن يكون “بباوي” هو قائلها الفعلي لأسباب كثيرة.
استحالة جمع تراث بباوي
بينما أكد باحث في اللاهوت بأحد الجامعات الأوروبية استحالة جمع تراث بباوي لأسباب أولها أن غالبية محبيه من غير الأكاديميين. ما يجعل جمع تراثه أمرا صعبا في ظل غياب أي خبرة أكاديمية بين هؤلاء. أما السبب الثاني وفقا للباحث الذي رفض الإفصاح عن اسمه فهو ما وصفه بالتباين الشديد في كتابات بباوي بين اللغتين العربية والإنجليزية. مؤكدا أن كتابات بباوي بالإنجليزية اتسمت بالدقة العلمية الشديدة وكان كثير منها محكم أكاديميا أي عبر مراجعة الأقران. بينما على العكس تماما كتاباته بالعربية التي غاب عنها الدقة والتوثيق.
باحث قبطي: بباوي نسب أقوالا للبابا كيرلس لا أصل لها
يشير مراد يواقيم إن الدكتور بباوي مثالا نسب أقوالا إلى البابا كيرلس السادس لا أصل لها. مضيفا: الحكاية بدأت معي منذ فترة حين نشرت كنيسة مار مرقس كيلوبترا بالقاهرة كتابين أو ثلاثة. واحد عن خوف الله والآخر عن الثالوث لأب اسمه صفرونيوس قيل وقتها إنه أب راهب من جبل الطير من القرن السادس. أحببت جدا هذه الكتب بل واقتبست منها في بعض الإصدارات. وعندما أصبح للدكتور جورج موقع إلكتروني خاص قام برفع هذه الكتب عليه ضمن كتبه وعرفنا أنه هو مصدرها الأصلي ثم نشر الموقع بعد ذلك الكثير من كتابات هذا الأب.
لا وجود لصفرونيوس إلا في خيال بباوي
وأوضح يواقيم أن الملاحظة الأساسية على هذه الكتب هو “عصريتها الشديدة كأنها كتبت في القرن العشرين”. وهو ما لفت انتباه كثير من الدارسين منهم الأب سيرافيم البرموسي وبالبحث والتحري لم نتمكن من العثور عن أي أثر تاريخي لأب يدعى صفرونيوس من القرن السادس في مصر.
وهنا توجه الكثيرون لدكتور جورج يسألون أين مخطوطات هذه الكتب الكثيرة التي صدرت لهذا الأب لو صحت هذه التعاليم لصار الأب صفرونيوس هذا علامة فارقة في تاريخ الفكر اللاهوتي الأورثوذكسي في العالم كله. مضيفا: هنا بدأ السائلون يسمعون العجب. مثل “لا توجد مخطوطات”. وبلغة الباحثين لا يوجد دليل خارجي (مخطوطات) يثبت صحة هذه النصوص. كما لا يوجد دليل داخلي (الأسلوب والصياغة) يؤيد نسبتها لذلك العصر. لذلك صار لدينا ترجيح بأنها من الخيال.
وضرب يواقيم مثالا ثانيا على اقتباسات جورج بباوي في كتاباته باللغة العربية قائلا: القصة الثانية بدأت بنشر أقوال لأبونا فليمون المقاري. وهي أقوال عصرية جدا تعكس أن قائلها كان فيسلوف المسيحية في القرن العشرين. وقد سألنا عن هذا الأب في دير أبو مقار ولم نجد أي مخطوطات تخصه.
راهب قبطي ظهر في كتابات بباوي ولا دليل على وجوده
يتفق مارك فلبس -الباحث في اللاهوت- مع ما ذهب إليه يواقيم قائلا: لم تكن تلك المرة الأولى التي ادعّى فيها اللاهوتي الأرثوذكسي المرموق وجود شخصيات وكتابات لا نجد لها أساسًا لا في التاريخ ولا الأدب المسيحي. ففضلًا عن صفرونيوس الذي أتاهنا معه وبه في رحلة من القليوبية إلى لبنان ثم إلى كمبريدج. وفي كتاب القديس أثناسيوس الرسولي في مواجهة التعليم الشائع غير الأرثوذكسي. وهو مطبوع صدر في فبراير 2007، تظهر شخصية لوقيانوس الصوري كأنه خُلِقَ من العدم.
هذا المسيحي من القرن الرابع أوجدنا له كتابات بعنوان “سقوط الآلهة” وهي خطابات أمام مجمع نبلاء مدينة صور سنة 374م، يُدبِّج فيها هذا اللوقيانوس الذي لم نعثر عليه في التاريخ خطابًا أخلاقيًا طويلًا يُدافع فيه عن المسيحية التي قدمت بمصلوبها عالمًا قيميًا جديدًا قائمًا على المحبة بدلًا من العقوبة والهمجية. وهي كلمات كان يود بباوي أن يقولها أمام مجمع الأساقفة سنة 2006 إذا ما حاكموه.
صراعاته داخل الكنيسة
يفسر مارك كتابات بباوي على طريقته ويحيلها إلى ما مر به جورج بباوي من صراعات داخل الكنيسة حين تم حرمانه كنسيا بلا محاكمة. فيقول: لم يستطع بباوي أن يوجه التهمة بالوثنية إلى مجمع الأساقفة الأقباط مباشرةً. كما لم يستطع أن ينسب الإعلانات الدقيقة عن سر الثالوث إلى نفسه. أو أن يضع اسمه عليها. بدلًا من ذلك يُحيل بباوي تلك التمثلات عن الشركة والتوحيد والفرح وحركة الحياة على شخصية صفرونيوس. الذي لم نجده لا في زمانه في القرن السابع ولا في مكانه في مصر.
يكتب هذا الأسقف المصري تعاليمه في رسائله على نسق: “أولًا وثانيًا” وهو المخالف لبنية وأسلوب النص الآبائي الذي يستطيع تمييزه أي قارئ مبتدئ.
كتابات سبقت عصرها
لم يكن ذلك هو الأكثر إثارة في تلك الكتابات. بل قد سبقت عصرها بنحو ثلاثة عشر قرنًا. حيث يمكن اعتبار ذلك الأسقف المجهول هو المؤسس للفلسفة الشخصانية في فرنسا القرن العشرين. وتأثر به عدد من اللاهوتيين الأرثوذكس أمثال فلاديمير لوسكي وزيزيولاس وياناراس وبرديائف. بل والكاثوليك أيضًا أمثال إيمانويل مونييه وجاك ماريتان وجملة من آباء المجمع الفاتيكاني الثاني. كل هذا دون ذِكر مرجع وحيد يُسمِن أو يُغني من جوع.
يشدد مارك على أن تلك الشخصيات مُخترعة بالكامل. تمامًا كما لم يكن “فليمون المقاري” الذي يرويه لنا بباوي هو فليمون التاريخ. ولا كان البابا كيرلس الخاص بجورج بباوي هو ذاته بطريرك الأقباط في عهد عبدالناصر.
وأضاف: لم يكن خالق تلك الشخصيات جبانًا. فهو الذي أحدث ثورة لاهوتية داخل الكنيسة القبطية ربما لن تنتهي توابعها أبدًا. ولكن تلك الشخصيات المجهولة تقول لنا شيئًا ربما هو أيضًا مجهول عن خالقها. بل وربما أراد له هذا الخالق أيضًا أن يظل مجهولًا.
باحث لاهوت: بباوي خلق شخصيات ليسرب بها وعيه
يؤكد مارك أن بباوي كان يُدرك امتداد وعيه المسيحي داخل الزمن. وهو لم يكن لاهوتيًا قديرًا فحسب. بل متصوفًا أيضا. وهو ما يؤدي بمارك إلى تفسير آخر لشخصيات بباوي تلك. فيقول: ربما أجزاء من ذات بباوي المتسعة تمثلت شخصية أسقف من القرن السابع. ربما ارتحلت أجزاء أخرى لتتلبس شخصية مدافع مسيحي من القرن الرابع. وربما ما علمه وما خبره بباوي عن الأرثوذكسية طيلة حياته الأكاديمية والروحية كان يُسقطها بلا وعي على كلمات وتعاليم أناس بسطاء مثل كيرلس وفليمون. فجاءت كتاباته عنهم تحمل كل هذا الزخم اللاهوتي الذي ربما ما قصدوه هم أنفسهم. وربما لو فهمنا هذا عن كم كانت حياة هذا الإنسان غنية ومتسعة أن تكفي لشخص واحد ربما عندئذ نتفهم تلك الاختلاقات ونطلب له الغفران.
بباوي يرد على غياب المراجع
أما بباوي نفسه فكتب في رسالة عتاب “للأخوة الذین یتھمونه باطلاً”. مُعلِّقًا على منتقديه ممن أخذوا عليه تأليف شخصية مُختَرعة نسبها للقرن السابع: “لم أكن یوماً من الجبناء الذین یأخذون من الأسماء اللامعة ستراً. كانت مجموعة من مجلدین تُرجِمَت بالاشتراك مع العالم الكبیر المتنیح الأنبا مكسمیوس مطران القلیوبیة. ولأن المجلد الثاني كان یشتمل على دلال المزامیر. وھو كتاب قبطي قدیم یُستخدَم في السحر. احتفظ نیافته بالمجلدین. ولم أكن أتوجس خیفةً منه لأنه كان راھباً أمیناً بالحق ثم جاءت زوابع 80 و81 وسافرت إلى لبنان ومنھا إلى انجلترا -كان نیافته ما یزال حیاً ومعي الترجمات العربیة فقط التي نُشِر أغلبھا. أعتقد أنني من الشجاعة بحیث أقول ھذا الكلام. وأي ادعاء غیر ذلك ھو محض خیال وبطلان. أعود فأُذكِّر القارئ الكریم بكلمات الحكمة التي كثیراً ما كان یرددھا البابا كیرلس السادس: “اسمع فكر ثم تكلم. ولا تنقل كلاماً لست أنت شاھداً عليه. لأن ذلك نقلٌ للشائعات وھو عمل الشیطان”.