تلك البقع الخضراء المتناثرة وسط النهر وتمتد بطوله من أسوان جنوبا حتى شمال الدلتا. حيث تكونت الجزر النيلية بفعل تراكم طبقات الطمي عبر آلاف السنين. وهي جزر ذات طبيعة صخرية نحتها النهر وهو يشق مساره الطبيعي داخل التربة. وتعتبر واحات خضراء وسط الماء جذبت إليها السكان لزراعتها والعيش وسط طبيعتها الخلابة لكنها تعاني الإهمال ونقص الخدمات بشكل كبير.
وتجذب هذه الجزر المتنوعة والممتدة آلاف الطيور المهاجرة متعددة الأنواع، مما يضعها في مقدمة المحميات الطبيعية الأكثر ثراء. لما تحويه من موارد طبيعية وعناصر بيئية وجمالية نادرة. تزيد من فرص التنمية الاقتصادية والسياحية لوقوعها في مسار هجرة الطيور المائية سنويا.
ووفقا للدكتور أيمن حمادة مدير الإدارة المركزية للتنوع البيولوجي بوزارة البيئة. هناك 255 نوعًا من الطيور المائية المُهاجرة تعيش على تلك الجزر، من أهمها طيور (الفلامنجو، النوارس، البشاروش، الخطاطيف والبلاشونات).
وترتبط هذه الطيور بالمياه لاستكمال دورة حياتها البيولوجية، ويعد النيل من مناطق الجذب الهامة لها. ومصر ملتزمة بحماية هذه الطيور بموجب التشريعات الوطنية والاتفاقيات الدولية. من بينها اتفاقية الأمم المتحدة للتنوع البيولوجى واتفاقية «الأيوا» لحماية الطيور المائية الأفريقية الأورو أسيوية المهاجرة.
تضارب في الإحصائيات
ولا توجد أي قاعدة بيانات موحدة أو صحيحة ولا حتى أولية عن تلك الجزر النيلية. فوفقا لمعهد بحوث الأراضي والمياه يبلغ عدد هذه الجزر “209”. وتقول وزارة الموارد إن عددها “197” وتشير هيئة المساحة العامة أن عددها “181” بينما يؤكد معهد بحوث النيل أنها “128”.
وتبلغ عدد الجزر النيلية على أرض الواقع حسب حصر مجلس الوزراء 144 جزيرة موزعة على 818 “مركز – قرية – نجع” وفي 16 محافظة. منها 3 بالقاهرة الكبرى “القاهرة– الجيزة– القليوبية” و7 بالوجه القبلي “أسوان– قنا– الأقصر– سوهاج– أسيوط – المنيا- بني سويف”. و6 جزر نيلية مواقعها بمحافظات الوجه البحري “المنوفية – الغربية – كفر الشيخ – البحيرة – الدقهلية – دمياط”. وتقدر مساحات تلك الجزر بما يقرب من 38 ألف فدان، متنوعة بين غاطس وشبه غاطس.
ومع مرور الوقت ازدحمت هذه الواحات الخضر بالسكان ومع تزايد النشاط الإنساني عليها. حتى أصبحت تعج بالمشاكل وتضج من حجم التلوث والتدهور ونقص الخدمات الأساسية.
ويقدر عدد السكان الذين يعشون على هذه الجزر بــ 3 مليون نسمة محاصرون. فلا يربطهم في الغالب باليابسة إلا وسائل مواصلات بسيطة من خلال المراكب أو الصنادل التي تنقلهم إلى الشط الثاني وتعرض حياتهم للخطر.
فرص للتنمية
جزيرة الوراق تبلغ مساحتها 1325 فدانًا ويحيطها ثلاث محافظات، هي الجيزة، والقليوبية والقاهرة. وهي واحدة من 17 جزيرة تم استبعادها من قرار إنشاء المحميات الطبيعية وتم نقل تبعية الجزيرة لهيئة المجتمعات العمرانية لإنشاء مجتمع عمراني جديد منذ 2017. ومازال أهالي الوراق ينتظرون قرار العودة إلى موطنهم بعد تهجير وهي تعد أكبر عملية تهجير للسكان في مصر. بعد تهجير قرى النوبة لبناء السد العالي 1964.
كان الرئيس عبد الفتاح السيسي قد أصدر في 22 يناير الماضي قرار رقم 18 لسنة 2022 بضم 37 جزيرة نيلية أخرى. تحت إشراف القوات المسلحة لصالح التنمية والتطوير.
جزيرة القناوية بمركز نجع حمادي محافظة قنا واحدة من تلك الجزر، ترتبط باليابسة بقنطرة صغيرة من ناحية الشرق. حيث سمح ضيق المسافة بين الجزيرة والشط من ناحية الشرق والتي تبلغ 50 متر بإنشاء جسر بالجهود الذاتية، ويتراوح عدد سكانها ما بين 300 إلى 400 ألف نسمة الغالبية العظمي من غير المتعلمين.
يقول عبد العزيز أبو طالب أحد سكان الجزيرة: “نعاني من انعدام البنية الأساسية فلا يوجد بالجزيرة وحدة صحية أو مدارس والصرف الصحي يعتمد على الخزانات الأرضية”.
ويبين أبو طالب أن النشاط الاقتصادي الرئيسي لأهل الجزيرة يعتمد على الزراعة. فالغالبية العظمى تعمل في بضع قراريط صغيرة تكونت بفعل تراكم الطمي “أراضي طرح النهر”. تُفرض عليها ضرائب مقابل الانتفاع بها سنويا بقيمة 4 ألاف جنيه عن كل فدان تسدد لصالح مصلحة أملاك قنا.
ويؤكد أبو طالب أن هذه الضرائب أرهقت العديد من الأسر، حيث تراكمت عليهم الديون بمبالغ كبيرة تتراوح من 70 إلى 80 ألف جنيه عجزوا عن سداها. بسبب غرق مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية من الجزيرة بالمياه معظم أوقات السنة من نهاية شهر أبريل/نيسان حتى شهر أغسطس/آب. فلا يزرعون سوى موسم واحد فقط عائده لا يكفي احتياجاتهم الأساسية.
وطالب عبد العزيز بإسقاط ديون المتعثرين وبتخفيف هذه الضرائب عن المزارعين. لافتا أن 60% منهم يقعون تحت خط الفقر وليس لديهم مصادر دخل أخري.
الأكثر حظا
أما جزيرة “الدُوم” بمركز أبو تشت أكثر حظا من جزيرة القناوية لاتساع مساحتها التي تبلغ 40 ألف فدان. وفقا لعمر عبد الستار مسؤول الهيئة البرلمانية عن حزب مستقبل وطن بمحافظة قنا واحد أبناء الجزيرة. الذي أكد أن الجزيرة يوجد وبها مدارس ابتدائي وإعدادي ووحدة صحية ومشروع الصرف الصحي بها تحت الإنشاء حاليا.
وتضم جزيرة الدوُم 7 عزب و3 نجوع وأرجع عبد الستار ارتفاع مستوى الدخل بالجزيرة. إلى اتساع مساحة الأراضي الزراعية وارتفاعها عن منسوب مياه النهر نسبيا. مما يتيح لهم زراعتها طول العام، إضافة إلى تنوع النشاط الاقتصادي بها حيث يقام على شاطئيها العديد من المطاعم والكافيهات السياحية. ويعمل بها أبناء القرية، لافتا إلى أن البنية الاجتماعية للجزيرة تقع في خمس عائلات كبيرة ويرتبطون بأنشطة اقتصادية أخري خارج الجزيرة.
أما جزيرة أرمنت الحيط بمحافظة الأقصر واحدة من الجزر التي تعاني من غياب التنمية. حيث يدخل فيضان نهر النيل أراضي جزيرة ارمنت ويقضي على أشجار المانجو المشهورة بها ويتعرض المزارعين لخسائر كبيرة.
عبد العزيز حماي أحد أبناء الجزيرة يؤكد أن مشاكل الجزيرة تم عرضها على نواب مجلس النواب والشيوخ ومسؤولي برنامج حياة كريمة بالأقصر. وقائلا: “لكن دون جدوى حيث تحتاج القرية إلى الصرف الصحي بشكل عاجل لحماية الجزيرة من الأوبئة ولدغ الحشرات والحد من ظاهرة التلوث البيئي خاصة في فصل الصيف”.
غياب وسائل النقل
ويشير حمادي إلي أن برك المياه الناتجة عن طفح الخزانات بصفة مستمرة أدت إلى تأكل جدران المنازل. وكشف أنه لا توجد أي وسائل نقل تربطهم بالمدينة سوى عبارة متهالكة تحمل اسم “حتشبسوت” تعينهم على التنقل اليومي لقضاء حوائجهم. وهي بمثابة رحلة معاناة يومية يعيشها سكان في عزلة تامة عن العالم الخارجي. حيث لا تعمل هذه العبارة ليلا بعد الساعة 9 مساء ولا يمكن إسعاف أهالي الجزيرة حال تعرضهم لأي حوادث أو ظروف طارئة.
ويطالب أهالي جزيرة أرمنت بإنشاء كوبري صغير يربطهم بالمدينة حتى يستطيعون العيش بدون معاناة خاصة في حالات المرض والطوارئ.
ويقول أحمد محمد حجاج إن الغالبية من أهالي الجزيرة يشربون من مياه الطلمبة وهي مياه غير صالحة للشرب. مطالبا بتدخل المسؤولين عن شبكة المياه بالأقصر بمد المياه العذبة للمنازل التي تبعد عن الخط العمومي أكثر من 600 متر فقط.
ويقول علي النوبي كبير المزارعين بالقرية وأحد سكان الجزيرة: “نعاني من أزمات كبيرة لبعد الجزيرة عن المدينة وعدم وجود وسائل تنقل آدمية”. مبينا أن رئيس الوحدة المحلية أكد لهم أن الجزيرة غير مدرجة حاليا في خطط تطوير عام 2021 وما بعدها حتى يتم توفير الاعتمادات اللازمة. طبقا لكتاب الهيئة القومية لمياه الشرب والصرف الصحي رقم 3079. لحين توفير الأراضي اللازمة لقيام مثل هذا المشروع من قبل الدولة.
سلطة المحليات
ووصف الباحث السياسي والمتخصص في المحليات عبد الحميد كمال “الجزر النيلية” بأنها كنوز طبيعية تُركت تحت سلطة المحليات. وتعرضت الي الإهمال الشديد دون الاستفادة منها أو وجود رؤية لتنميتها أو تطويرها. من أجل تنمية حقيقية تساهم في استقرار سكانها وتزيد من الأوضاع الاقتصادية لهم أو تحسن من الأوضاع الاجتماعية للمقيمين بتلك الجزر النيلية.
وأشار كمال إلي أن تلك الجزر بمواقعها الجغرافية المهم ولايتها. وموزعة بين أكثر من أربع وزارات “التنمية المحلية– الري والموارد المائية– الزراعة- وزارة البيئة” بعيدا عن أي رؤية للتخطيط.
وأوضح كمال أن غياب التنسيق والتكامل التشريعي بين الدستور والقانون والقرارات الحكومية لرئيس مجلس الوزراء بخصوص هذه الجزر. تسببوا في إهمال حقوق السكان (عددهم ما يقرب او يزيد من 3 ملايين مواطن) الذين يعانون من نقص خدمات “الصرف الصحي– التعليم– مياه الشرب– الخدمات الصحية والأمن”. ويتعرضون للمخاطر بسبب التنقل اليومي بين تلك الجزر وضفاف النيل لغياب المعديات والصنادل الآمنة.
وتابع: “أدى هذا الإهمال إلى حوادث غرق ووفاة وإصابات الكثير من المواطنين. وتركت تلك الجزر للإهمال والفوضى والعشوائية والفساد رغم أن سكانها من العمال والمواطنين ومحدودي الدخل حيث يعملون في “الزراعة– والتجارة– البناء والتعمير وأعمال الصيد”.
وقال كمال لـ360، إن الدستور في المادة “33” ينص على حماية الملكية العامة والخاصة والتعاونية. والمادة “59” التي تؤكد على الحياة الآمنة حق لكل إنسان، وتنص المادة “78” على كفالة حق السكن الملائم والصحي. فضلا عن القوانين المختلفة 48 لسنة 82 – 89 لسنه 83 ورقم 12 لسنة 84 وغيرها من القرارات الحكومية يصبح حماية الجزر النيلية حتمي بالقانون.
رؤية تنموية
وطالب كمال الحكومة بوضع رؤية تنموية من أجل الاستدامة في التنمية لمشروعات زراعية وصناعية وسياحية حقيقية. لتطوير تلك الجزر بإمكانياتها الطبيعية والبشرية للاستفادة من الزراعات للخضراوات الطازجة الطبية وأشجار التوابل والأعشاب والخضراوات. وكذلك الاهتمام بإدخال الخدمات الخاصة بالصرف ومجمعات القمامة الوسيطة ومحطات مياه الشرب والصرف وغيرها مع تقنين أوضاع الفقراء والمهمشين لتلك الجزر.
كما طالب كمال بفتح حوار مجتمعي بمشاركة المواطنين والهيئات المختصة والخبراء وأصحاب المصلحة الحقيقي حول تطوير الجزر. وتحويلها إلى مشاريع تنموية حقيقية تعود بخيراتها الاقتصادية والاجتماعية وفرص عمل للأهالي.
وكذلك حل التناقضات وتطوير التشريعات وإطلاق روح الإبداع بأعمال وخطط حقيقية على أرض الواقع. ومتابعة لصالح الأغلبية العظمي من المواطنين.