يرتبط فقر التعلم “درجة جودته” في مرحلة التعليم الأساسي بأولويات التنمية وانعكاساتها على الخدمات. ما يؤثر على سلوك وحياة الأفراد وإتاحة فرص جيدة لكسر دائرة الفقر متعدد الأبعاد وإحداث حراك اجتماعي.
هذا ما أكده تقرير التنمية لعام 2019 في مصر. من حيث إن فرص هؤلاء الأطفال في التغلب على صعوبات التعلّم تتحدد وفقًا للخلفية الاجتماعية ومستوى دخل الأسرة. فالأسر الفقيرة التي لا تستطيع الإنفاق على التعليم يحمل أبناؤها إرث الفقر من آبائهم. لتنتقل دائرة الفقر والعوز عبر الأجيال. حيث يؤثر الفقر على قدرتهم لاستكمال التعليم. ومن ثم الالتحاق بفرص عمل أفضل مستقبلا.
يُقدر البنك الدولي في مؤشره عن فقر التعلم نسبة الأطفال الذين يعانون فقر التعلم بـ53% من إجمالى الأطفال في سن 10 سنوات بالدول النامية والملتحقين بالتعليم الابتدائي في البلدان متوسطة ومنخفضة الدخل. ويعانون من غياب أو تدنى المهارات الأساسية المرتبطة بالعمليات الحسابية كالعد والجمع والطرح.
وأشار البنك في تقريره إلى الآثار الاقتصادية البالغة لانخفاض جودة التعليم على إنتاجية الفرد. وكذا قدرته على المشاركة في سوق عمل شديد التنافسية. فالثابت أن تدني الجودة هنا لا يؤثر فقط على فرصهم في الترقي الاجتماعي وتحسين أوضاعهم الاقتصادية. وإنما يؤثر أيضًا على رخاء البلدان واستقرارها الاقتصادي وسلامها الاجتماعي.
التعليم والمساواة في الفرص
تذهب الدكتورة إنجي محمد عبد الحميد -مدرس العلوم السياسية بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية- في دراسة لها. إلى أن غياب المساواة في فرص الحصول على التعليم. خاصة في مراحل الطفولة. سبب رئيسي في انخفاض جودته. وأن ذلك يؤثر على فرصهم في الترقي الاجتماعي وتحسن أوضاعهم الاقتصادية. وأن أولى خطوات التعليم الجيد هي كسر دائرة الفقر والعوز لعمل حراك اجتماعي صاعد، ما يمثل صمام الأمان لتحقيق الاستقرار الاجتماعي.
وأشارت “إنجي” في دراستها إلى أن فقر التَعلم أحد معوقات تحقيق التنمية المستدامة في مصر لسنة 2030. وأن البلدان التى استطاعت تبني نظما وسياسات تعليمية جيدة في المرحلة الأساسية ضمنت مستقبلًا أفضل لهؤلاء الأطفال في تعلّم المعارف الأخرى. ما ساعد الأطفال على إتقان مهارة القراءة وذلك لما تفتحه القراءة من آفاق للتعلّم.
وقالت الدراسة إن فقر التعلّم يرتبط بحالة التنمية البشرية. إذ يمثل التعليم إحدى ركائزها الأساسية. وردت خطورته إلى تهديد رصيد المجتمعات من رأس المال البشري. حيث تُؤثر على الإنتاجية المتوقعة في المستقبل للفرد.
كما انخفض معدل القيد في التعليم ما قبل الابتدائي -وفقا لإنجي- إلى 5.28% في عام 2018/2019. وهذا يعنى أن أكثر من ثلثى الأطفال في المرحلة العمرية من 4-5 سنوات لا يحصلون على التعليم في مرحلة الطفولة المبكرة. ما يؤثر على أدائهم الدراسي ومستويات تحصيلهم في مراحل التعليم اللاحقة.
وأكدت أن نسبة تعميق اللا مساواة تؤثر على معدل إتمام الأطفال التعليم بنسبة تصل إلى 79%. وأن النسبة مرشحة للزيادة مع تزايد تداعيات كوفيد-19.
بيئة التعليم الملائمة
محب عبود -الخبير التربوي- يوضح أن التنمية المستدامة تساوي فرص تعليم جيدة. وهو ما يتطلب بناء مدارس وتوفير فصول وبيئة تعليمية ملائمة ومحفزة جاذبة لأطراف العملية التعليمية -المعلم والتلميذ على السواء.
ووصف “عبود” التقارير الرسمية حول فقر التعلم بأنها “غير دقيقة ولا تعبر عن الواقع”. حيث تقوم على عينات من مدارس خاصة تمثل 10% من نسبة التعليم في مصر. بينما يمثل التعليم الحكومي 90% وتعتمد الغالبية عليه. ويكشف الواقع عن تدني مستواه أكثر مما هو معلن.
أما كمال مغيث -الخبير التربوي والباحث في هذا المجال- رد تدهور التعليم بشكل عام إلى تراجع مخصصات الإنفاق الحكومي عليه. مؤكدا أن انخفاض جودة التعليم لا علاقة لها بمجانيته. فخريجو الجامعات الخاصة أقل كفاءة من نظيرتها الحكومية. إنما ينهض التعليم -حسب رأيه- من خلال رؤية تعليمية تحقق أربع ركائز أساسية هي الثقافة والمواطنة ومحاربة الفساد والمهنية. مشيرا إلى أن كل الدول التي نهضت تعليميا ارتفعت قيمة الاقتصاد لديها. وبالتالي استطاعت تلبية احتياجات المواطن الأساسية وعلي رأسها التعليم.
تفاقم أزمة التعليم
الدكتور سعيد شكري -الخبير بالمركز القومي للبحوث التربوية- يوضح أهم أسباب تفاقم ظاهرة فقر التعلم. ومنها إهمال مرحلة رياض الأطفال. خاصة في الريف والقرى وتخطي مرحلة التمهيدي إلى بداية الابتدائية مباشرة. ما يحد من قدرات التلميذ على استيعاب محتوى التعليم المقدم لأنه يكون مبنيا علي ما سبق تراكمه.
أيضا انعدام العلاقة بين البيت والمؤسسة التعليمية -المدرسة- وعدم قدرة الوالدين على مواصلة واستكمال ما تم في المدارس. إما بسبب جهل الوالدين بارتفاع الأمية وإما فقر بعض الأسر واضطرارهم للاعتماد على أبنائهم في سن مبكرة في معاونة الوالدين في العمل -“عمالة الأطفال”. الأمر الذي لا يمكنهم من الانتظام في التعليم.
تأصيل الفقر
حسن أحمد -رئيس النقابة المستقلة للمعلمين وعضو اللجنة العربية للتعليم- وصف التعليم بأنه قاطرة التنمية. وأن فقر التعلم لا يتوقف عند ضعف عملية القراءة والكتابة عند الأطفال في المرحلة الأساسية فقط. بل يقصد به غياب تنمية المهارات وزيادة الوعي وتنمية البحث الإبداعي عند الطفل. بالإضافة إلى القراءة والكتابة التي تنقل الطفل من مرحلة إلى مرحلة أعلى منها.
وأشار إلى وجود بعض العوائق التي تعرقل هذه المهارات لدى التلاميذ. منها نقص عدد الفصول الدراسية وارتفاع الكثافة بالمدارس والعجز الكبير في عدد المعلمين وعقم المناهج وعدم تطويرها بما يتناسب والفئة العمرية.
أيضا فقر البيئات التعليمية التي لا تتم فيها ممارسة أي أنشطة تشجع على الانتظام في المدارس كما تشجع على التسرب من التعليم للأطفال والعمل في سن مبكرة في حرف ذات عائد مادي. وهو ما أسماه”حسن” عملية تأصيل للفقر: وهو إمداد سوق العمل فيما بعد بعمالة غير ماهرة وغير مدربة. وهو ما لا يعود عليها بالنفع ويشعر الطبقات الدنيا بأن التعليم لا يحسن من أوضاعهم الاجتماعية ويساعد على التسرب والاتجاه لسوق العمل أو الانضمام لطابور البطالة مستقبلا.
وقال: التعليم الفقير يحرم مصر من أحد روافدها الهامة. وهو تخريج عمالة ماهرة كانت تعتمد عليها في السنوات السابقة سوق العمل العربي. ما يكرس لفقر في الطبقات الدنيا. وهو أحد وسائل الترقي الطبقي لتحسين أوضاع الناس بتعليم أبنائها.
وأكد أن مشكلات تدني المهارات التعليمية يعاني منها خريجو التعليم الفني والمتوسط في مصر عموما. والذين يتخرجون ويحصلون على شهادات إتمام المرحلة وهم لا يجيدون القراءة والكتابة. حيث يضطر المراقبون في لجان الامتحانات إلى كتابة رقم الجلوس أمامه حتى يقوم الطالب بنقل الاسم لورقة الإجابة.
وقال إن فقر التعلم يخرج طالبا حاقدا على المجتمع وزملائه الذين يحصلون على فرص جيدة في بيئة تعليمية أفضل منه. فيصبح خطرا على المجتمع وترتفع معدلات الجريمة لقلة الوعي والثقافة التعليمية التراكمية بسبب فقر التعليم.
دعم التعلم
وحسب د. إنجي يحتاج فقر التعلم إلى الاهتمام بتوفير تعليم جيد في مرحلة الطفولة المبكرة. وذلك أولا من خلال الاهتمام بمحو أمية الوالدين لدعم قدرتهما على متابعة التحصيل الدراسى لأبنائهما. وثانيا: توفير الحوافز المادية والعينية للفئات الأكثر احتياجًا. ثالثا: زيادة عدد المعلمين مع توفير العائد المادي المناسب وتدريبهم على كل الوسائط التعليمية الحديثة.
رابعا: وضع منهج مبسط للغة العربية في مرحلة رياض الأطفال. خامسا: تقليل كثافة الفصول. وزيادة أعداد المدارس وتحسين البنية التحتية والمرافق في المدارس الموجودة بالفعل.
أما “شكري” فيرى ضرورة متابعة تدريب الأطفال على مهارات التعلم بالمنزل أو تخصيص حصص من اليوم الدراسي والتطبيق ومتابعة التحصيل وتدريبهم على القراءة والكتابة والعمليات الحسابية. على أن يتبع ذلك عملية تقييم كل ثلاث سنوات يتم اختبار التلميذ فيها بنهاية الصف الثالث الابتدائي ثم السادس -“اختبارات وطنية”- لتحديد مستواهم.
وكذا إعداد برامج علاجية مكثفة للمتعثرين يتم معالجتهم في إجازة الصيف على مهارات القراءة والكتابة واستخلاص المعنى من النص والمقصود وحل مسائل حسابية لقياس قدرة التحصيل للأطفال وتمرينهم قبل أن يبدؤوا مرحلة أخرى. لأن المهارات التعليمية تراكمية في سنوات التعليم. مع تحفيز المعلمين على العمل بهذه البرامج بوضع مكافآت على هذه الأعمال للمشاركة في هذه التدريبات.
بيئة مناسبة
وقال “عبود”: لا بد أن يتحول التعليم إلى ركن أساسي في سياسة الدولة لحل مشكلاته المتراكمة. أولا: بتوفير بيئة تعليمية مناسبة أهمها توفير المعلم والفصل ثم الانتقال للحديث عن تحسين البرامج التعليمية.
ثانيا: تطهير المؤسسات التعليمية من التيارات الإسلاموية التي تعتمد على طريقة الحفظ والتلقين كوسيلة مثلى لتوصيل المعلومة كأنها تكرس للعودة للكتاتيب لا للتعليم الحديث.
ثالثا: أن تقوم برامج التقييم التعليمي على أسس موضوعية لا سياسية لتجميل الواقع. مشيرا إلى أن الإدارات التعليمية تقوم بوضع خطوط نسبية للنتائج لا يمكن النزول عنها لتحسين النتائج وترفض الإدارات التعليمية خاصة في المراحل الأساسية النتائج التي قل عن 80% و85%. وتعود إلى المدارس لرفعها وتحقيق نسب نجاح وهمية على الورق والواقع ينم عن تدني مستوى تعليم الأطفال .
أما الخطوة الرابعة -بحسب عبود- فضرورة المراجعة الفكرية للمعلمين وتدريبهم وتحسين بيئة العمل ورفع المرتبات وتحفيز المعلمين على العمل في الفصل.