تعددت المدراس الفكرية التي ارتكزت عليها السياسة الخارجية المصرية تجاه أفريقيا وقضاياها. وقد شهدت مراحل مختلفة صعودًا وهبوطًا، بداية من إعلان قيام الجمهورية في عام 1952 وإلى الآن.
وعند النظر إلى السمات العامة التي أثرت في هذه المحددات، نجد أنها تنوعت بين العوامل ذات الصلة بالمتغير القيادي الحاكم في مصر وبين الظروف الإقليمية والدولية السائدة في كل مرحلة على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية. ومن جانب آخر، تأثير خريطة التفاعلات والقضايا التي شهدتها دول القارة. ذلك من حيث طبيعة الصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية.
وضمن سياق متصل، كانت السياسة الخارجية المصرية تجاه أفريقيا بمثابة نتاج عوامل موضوعية تاريخية وسياسية وجغرافية وثقافية واقتصادية وأمنية. بالإضافة إلى التأثير
الشخصي لقادتها. وللوقوف حول مرتكزات ودوافع السياسة الخارجية المصرية تجاه أفريقيا يمكن الحديث هنا عن مجموعة من العوامل التي يمكن من خلالها تفسير مسارات هذه السياسة الحالية والمستقبلية. وهو ما تناوله الباحث مصطفى صلاح في ورقة سياسات جديدة أصدرها مركز التنمية والدعم والإعلام (دام) حول هذه السياسة الخارجية.
أولًا: تأثير العامل القيادي على السياسة المصرية تجاه أفريقيا
يشير الباحث مصطفى صلاح إلى عامل القيادة باعتباره أحد المؤثرات في تحريك السياسة المصرية ودوائرها المختلفة تجاه أفريقيا. وذلك كنتيجة طبيعية للصلاحيات التي يتمتع بها الرئيس في مصر.
وترتبط السياسة الخارجية في مصر -بصورة عامة وفق هذه الرؤية- بمن يحكم مصر على أساس أنه من يحدد دوائرها وأولوياتها ووضع الخطوط العامة للتحرك بعيدًا عن المؤسسات التقليدية مثل وزارة الخارجية والبرلمان، باعتبارهما من المشاركين في صنع وتنفيذ هذه السياسة إلى جانب رئيس السلطة التنفيذية.
وهو يقارن بين الركائز التي انتهجها رؤساء مصر في سياساتهم الخارجية. بينما يستعرض كل سياسة مختلفة لكل فترة رئاسية، بما يشمل التي ارتكزت في عهد جمال عبدالناصر مثلًا على محددات من أهمها تأمين منابع النيل. بالإضافة إلى دعم حركات الاستقلال الوطني في القارة سياسيًا وعسكريًا وماليًا لمواجهة الاستعمار في مختلف دول العالم. هذا فضلًا عن محاربة التمدد الإسرائيلي في دول القارة الأفريقية.
وقد تغيرت هذه السياسة إلى حد ما في عهد السادات. وركزت على الحصول على دعم وتأييد الدول الأفريقية بعد هزيمة 1967. ذلك من خلال اتجاه الدول الأفريقية إلى قطع علاقاتها مع إسرائيل. وهي السياسة التي تحولت بعد انتصار مصر في حرب أكتوبر 1973 ونظرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها مفتاح التأثير في الملفات ذات الصلة بالمصالح المصرية. ما أدى إلى إهمال وتهميش الدائرة الأفريقية وحتى العربية، بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد في عام 1979.
بينما اتسمت هذه السياسة في عهد مبارك بمرحلتين مفارقتين. وقد بدأت بالتوازن خلال فترات حكم مبارك الأولى. بينما تغيرت بصورة كبيرة بعد محاولة اغتياله في إثيوبيا عام 1995. حيث اختل هذا التوازن وساهم في ابتعاد مصر عن قارتها وقضاياها.
للاطلاع على ورقة السياسات كاملة.. اضغط هنا
السياسة المصرية تجاه أفريقيا بعد عام 2011
يتناول الباحث السياسة الخارجية المصرية تجاه أفريقيا بعد العام 2011. فيقول إنها من أكثر الفترات الذي شهدت تقلبات في مسارات السياسة الخارجية المصرية تجاه أفريقيا. ذلك بسبب التغيرات الجذرية التي شهدها النظام السياسي المصري. فخلال فترة حكم المجلس العسكري اتسمت السياسة الخارجية المصرية -بشكل عام- بالتراجع ومحاولة استعادة
الاستقرار الداخلي في ظل ما شهدته الدولة من اضطرابات داخلية. ومن ثم إعادة توجيه وتخصيص الموارد لهذا الهدف. في حين اتسمت فترة حكم الرئيس محمد مرسي (2012 – 2013) بمحاولة التقارب مع دول دون أخرى. وكان المحرك الرئيسي لها ملف المياه وقضية سد النهضة.
وقد اتسمت الفترة الأولى من حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي (2014 – إلى الآن) بمحاولة استعادة مصر لمقعدها ولو بصورة جزئية في مجلس الأمن والسلم التابع للاتحاد الأفريقي الذي علق عضوية مصر منذ عام 2013. واهتمت السياسة الخارجية المصرية في هذه الفترة بتوضيح طبيعة الأحداث التي شهدتها البلاد. وهو ما ترتب عليه زيادة في الزيارات المتبادلة بين الجانبين.
بينما في الفترة الثانية من حكم السيسي، ظهرت بصورة واضحة مجموعة من الملامح والمحددات التي ترتكز عليها السياسة الخارجية المصرية. وقد تمثلت في إعادة الاهتمام بقضايا الدول الأفريقية بمناطقها المختلفة. مع التركيز على مجموعة متنوعة من القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، وليس ملف المياه ودول حوض النيل فقط. بالإضافة الاهتمام بعمليات حفظ السالم وإعادة بناء الجيوش الوطنية وتسوية الخالفات بين دول القارة. إلى جانب دعم عمليات التكامل الاقتصادي والتنمية المستدامة، ومكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية.
ثانيًا: خريطة القضايا والتفاعلات في القارة الأفريقية
يقول الباحث -في ورقته- إن أولويات القضايا الأفريقية تختلف من حين إلى آخر. وإن هذا الاختلاف يتطلب قدرًا كبيرًا من المرونة من جانب السياسة الخارجية المصرية. ذلك ضمن إطار تفاعلها مع القضايا التي ترتبط بدول القارة. ومن ثم خريطة التفاعلات الإقليمية والدولية التي تدور حولها.
وهو يتحدث عن هذه الأوضاع المتغيرة من خلال مجموعة من العوامل، حددها بـ 3 عوامل:
التحول في طبيعة المشكلات:
تعتبر هذه السمة العامة لجميع القضايا ذات الارتباط بالقارة الأفريقية من حيث تشابه قضاياها وخريطة التفاعلات الداخلية في الدول الأفريقية ذاتها أو من خلال التفاعلات الخارجية. وعلى الرغم من تحولات المشهد في القارة الأفريقية، إلا أن هناك امتداد لمجموعة من القضايا التي لم تختلف ملامحها. بل يمكن اعتبارها سمة أساسية لدول القارة. مثل تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة في ظل ضعف البنية التحتية. وكذلك مواجهة التدخلات الخارجية وتنامي النزعات الانفصالية والحروب الأهلية وأعمال القرصنة والهجرة غير الشرعية والجريمة المنظمة وضعف الجيوش الوطنية. بالإضافة إلى غياب الاستقرار وفقدان الشرعية في كثير من دول القارة.
ومن جانب آخر، ظهرت مجموعة من التحديات الأخرى الخاصة بانتشار التنظيمات الإرهابية المتطرفة. فضلًا عن تنامي الصراعات على الموارد. وهو ما يعني ضرورة استحداث آليات
جديدة للتعامل مع هذه القضايا والملفات المتداخلة، كما يشير الباحث.
تعقد خريطة التدخلات الإقليمية والدولية:
تحتل القارة الأفريقية دورًا بارزًا في التأثير على الأمن القومي المصري. ومن ثم فإن اتساع خريطة الفاعلين من الدول المنخرطة في القارة يمثل تهديدًا كبيرًا وتقويضا للدور المصري في مواجهة هذه المخاطر. ذلك لما لها من دور في تعزيز الضغوط في ظل تعدد الأجندات الإقليمية والدولية. وهو ما يساهم في تقليل مساحة حركة وتأثير وفاعلية السياسة الخارجية المصرية.
وبالإضافة إلى ذلك ستعمل هذه التدخلات على فرض أعباء فيما يتعلق بالموارد المخصصة لتحقيق المصالح المصرية.
وهنا يلفت الباحث إلى أن القارة الأفريقية تشهد حضورًا كبيرًا للمشاريع الإقليمية والدولية التي تتعارض بصورة أو بأخرى مع المصالح المصرية. فهناك المشروع الإسرائيلي والتركي والإيراني والفرنسي والصيني والقطري والروسي. كما أن تعدد الدول المنخرطة في القارة يؤدي إلى اتساع نطاق الخالف مع هذه الدول في ملفات أخرى ومناطق بعيدًا عن دول القارة.
تنامي التهديدات غير التقليدية
ونتيجة لحالة عدم الاستقرار الذي تتميز به دول القارة، تزايدت في هذا الإطار مجموعة من التحديات الأمنية. مثل انتشار التنظيمات المتطرفة ومشكلات الهجرة غير الشرعية واللجوء. كما أن اتساع نطاق الصراعات داخل أقاليم القارة المختلفة (منطقة الساحل والصحراء ومنطقة شرق أفريقيا ومنطقة شمال أفريقيا وحوض البحر الأحمر) ساهم في تنامي هذه الظواهر وانتشارها بصورة تمتد تأثيراتها السلبية على الأمن القومي المصري.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الصراعات الإقليمية والدولية داخل القارة واختلاف مشروعاتها يساهم في مخاطر هذه التداعيات.
للاطلاع على ورقة السياسات كاملة.. اضغط هنا
حتى تتسم السياسة المصرية تجاه أفريقيا بالفاعلية
يختتم الباحث قراءته بأن هناك تناميًا في الحضور المصري داخل القارة الأفريقية وقضاياها. إلا أن هذا الحضور لا يتسم بالفاعلية والتأثير في مجريات الأوضاع الداخلية والخارجية ذات الصلة بها. وهو يرجع ذلك إلى طبيعة الأهداف المصرية التي لا تستند على ظهير شعبي داخل دول القارة. فضلًا عن ارتباطها بالأنظمة السياسية الحاكمة التي تواجه إشكاليات كبيرة في علاقاتها مع مواطنيها. بالإضافة إلى صعود قوى إقليمية أفريقية من داخل القارة تمتلك كثير من الأدوات لمزاحمة الدور المصري.
وبناء عليه، يقترح الباحث مجموعة من الأفكار الخاصة بتعزيز الحضور المصري داخل القارة الأفريقية. ويلخصها في الآتي:
- التركيز على جهود الوساطة المصرية في دعم استقرار دول القارة. بالإضافة إلى تصحيح الصورة الذهنية الأفريقية حول طبيعة الجهود المصرية من خلال وسائل الإعالم المختلفة.
- تكوين شراكات مصرية مع منظمات المجتمع المدني المنتشرة في الدول الأفريقية لتأمين الوصول إلى مختلف الشرائح الداخلية من المجتمعات الأفريقية.
- الاستثمار في التعليم والقطاعات الخدمية المختلفة داخل دول القارة. مع السماح بتعزيز دور المؤسسات الدينية (الأزهر والكنيسة) في لعب دور بارز من خلال إنشاء دور العبادة وإرسال البعثات التعليمية.
- توجيه الاستثمارات المصرية في دول القارة إلى القطاعات الأكثر أهمية ووفق احتياجات كل دولة.
- تفعيل الدبلوماسية البرلمانية واستثمار دور البرلمان المصري في التواصل مع برلمانات وشعوب القارة.
- زيادة البعثات المصرية الخاصة بحفظ السلام في مناطق الصراعات والنزاعات سواء تحت مظلة دولية أو من خلال توافقات ثنائية مع هذه الدول.
- تكثيف الجهود المصرية في إطار محاولة تسوية الأزمات الأفريقية ضمن إطار أفريقي وبعيدًا عن التجاذبات الإقليمية والدولية.
- الدفع نحو تفعيل المجالس الاقتصادية والسياسية والعسكرية والقانونية الأفريقية ووضع استراتيجية شاملة تتشارك فيها الدول الأدوار. بما يعزز التكامل بينهم.
- تكوين تحالفات مع الدول الأفريقية الصاعدة في ميزان القوى. بما يعزز القدرة على التأثير في الأقاليم المختلفة داخل القارة.
- المشاركة في إمداد الجيوش الأفريقية بالأسلحة والقيام بالتدريبات اللازمة لتعزيز قدراتها على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
- تسويق النجاح المصري في تجربة القضاء على الإرهاب باعتباره عاملًا محفزًا لمواجهة هذه التنظيمات في الدول الأخرى.
- اتجاه مصر نحو العمل على تعزيز الترابط بين الدول العربية والأفريقية بما يضمن التناسق في هوية مصر الأفريقية والعربية والتي ستسمح لها بالتحرك بصورة أكثر فاعلية ضمن هذا السياق.