في الوقت الذي عاد فيه تنظيم “داعش” الإرهابي لتصدر الاهتمام العالمي في ظل تصاعد منحنى عملياته مؤخرا في أكثر من منطقة. أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن تنفيذ بلاده عملية نوعية مطلع الشهر الجاري أسفرت عن القضاء على أبو إبراهيم الهاشمي القرشي. أو أمير محمد سعيد عبد الرحمن المولى -زعيم التنظيم- ببلدة أطمة بمحافظة إدلب السورية.
وبدل أن تقدم العملية -التي نفذها 50 من القوات الخاصة الأمريكية ضمن سياسة “قطع الرؤوس“- إجابات شافية بشأن تطورات “داعش” الأخيرة وخططه المستقبلية وشبكة اتصالاته وتمويله. فتحت الباب واسعا أمام مزيد من التساؤلات بعدما أقدم “القرشي” بتفجير نفسه بعد استشعاره وجود القوات ليقتل نفسه وثلاثة عشر آخرين بينهم نساء وأطفال .
لم تتوقف التساؤلات التي كانت تنتظر إجابات بالقبض على “القرشي” عند هذا الحد. بل امتدت للتأثيرات التي سيخلفها غيابه عن قيادة التنظيم وكذلك وجوده بمنطقة واقعة تحت سيطرة “جبهة تحرير الشام”. التي وصفها التنظيم في وقت سابق بـ”الكفار”.
هل ستكون هناك “أزمة خلافة” داخل “داعش”؟
بعد الضربات المتواصلة التي طالت تنظيم “داعش” الإرهابي وأسفرت عن مقتل الغالبية العظمى من قيادات جيل التأسيس وقادة الصف الأول. أدرك قادة التنظيم ضرورة التوافق على البدائل بشكل مسبق. ما جعل أبوبكر البغدادي -“الزعيم السابق لداعش”- نفسه يوصي قبل مقتله بفترة وجيزة بخلافة “القرشي”. ومن ثم ووفقا لهذه القاعدة التي فرضتها ظروف الملاحقة لقادة التنظيم فقد يكون “الزعيم الجديد” بات معروفا لـ”الأفرع” وينتظر إعلان كنيته القرشية فقط.
السبب الآخر الذي يدعم فرضية التوافق المسبق على “خليفة القرشي” قبل مقتله بتذكية من زعيم التنظيم هو إدراك قيادة التنظيم حجم التباينات والصراعات الداخلية. وأيضا إمكانية تفجرها حال خلو موقع “الخليفة” دون توافق مسبق.
أدبيات داعش: اذهب فأنت البغدادي
وبالعودة لما يمكن تسميته “أدبيات التنظيم” فإن إحدى القواعد المتعارف عليها هي أن “الطاعة مرتبطة بمعرفة الإمام”. وأنه “لا ولاية لمجهول”. وربما تكون هذه القاعدة هي التي دفعت البغدادي نفسه لتسمية خليفته من بعده تجنبا لفترة يمكن أن تتنامى فيها الصراعات.
خلال فترة قوة التنظيم وفرض القيادة سطوتها على أركانه وولاياته اختلفت طريقة اختيار “الخليفة”. وهو ما يمكن الوقوف عليه بالعودة لما نشرته مؤسسة التراث العلمي المنشقة عن” داعش” فيما أسمته “مطوية لأبي عيسى المصري” وكان شرعياً وخطيباً إبّان ذروة داعش في نوفمبر 2019 تحت عنوان “سلطان باريشا“ نسبة إلى قرية باريشا التي قُتل فيها زعيم داعش الأول -أبو بكر البغدادي- في أكتوبر من العام نفسه.
ينقل “أبو عيسى” شهادة عن “أبي محمد المصري” -كان عضواً في اللجنة المفوضة- يقول: “حدثني أن البغدادي نفسه حدثه عن طريقة تنصيبه أميراً لداعش فقال إن قيادة الجماعة اجتمعت بعد وفاة أبي عمر البغدادي فوضعت اسماً وهمياً هو (أبو بكر البغدادي) للأمير الجديد الذي لم يُعيّن بعد. وجاءوا بأبي دعاء السامرائي وكانت تلك كنية قديمة استعملها إبراهيم بن عواد البدري المكنى بأبي بكر البغدادي. فقالوا له: نعينك أميراً حتى نجد قرشياً مناسباً. فقال لهم أبو دعاء أنا قرشي. فقالوا له: اذهب فائتنا بنسبك. فذهب فجاءهم بنسبه. فقالوا: أنت إذاً أبو بكر البغدادي!“.
وبعد انهيار “داعش” وسقوط مناطق نفوذه وتشتت قياداته بين المناطق النائية لجأ التنظيم لأسلوب نائب الخليفة “المذَكى بالولاية حال غياب الأمير”.
وبالذهاب إلى الأسماء التي قد تكون مرشحة لخلافة القرشي أو قد يكون تم التوافق بشأنها. يعد الأبرز في قيادات الصف الأولى والمتبقين مما يعرف بجيل التأسيس زياد جوهر المكنى بـ”أبو الحارث” -عضو اللجنة المفوضة-. وبشار إليه بغزال الصميدعي المعروف باسم حجي زيد.
كيف وصلت الإدارة الأمريكية لـ”خليفة داعش”
للإجابة عن هذا التساؤل لا بد من العودة إلى عملية تصفية زعيم داعش السابق -أبو بكر البغدادي- في أكتوبر 2019. والتي تتشابه إلى حد كبير مع عملية تصفية خليفته من حيث مسرح العملية وطريقة التنفيذ.
جاءت عملية تصفية القرشي بعد عامين ونصف العام من العثور على سلفه أبو بكر البغدادي وقتله خلال العملية التي نفذتها قوات “دلتا فورس” الأمريكية في قرية بريشا. تلك التي تبعد نحو 15 كيلومتراً إلى الجنوب من “أطمة” حيث الوصول للقرشي.
المنزل الذي كان يسكنه القرشي في قرية يفصلها كيلومتر واحد عن الحدود التركية على بعد بضع مئات الأمتار عن حاجز تفتيش يشرف عليه الأتراك. هذا في المنطقة التي تنشر فيها تركيا قرابة 12 نقطة مراقبة عسكرية. حيث تسيطر عليها جبهة تحرير الشام -جبهة النصرة سابقا.
مقتل “زعيم داعش” وشواهد لدور تركي
كافة الشواهد خلال العملية الأخيرة تقود إلى مساعدة تلقتها الإدارة الأمريكية من تركيا المسيطرة على المنقطة. وربما يكون بتنسيق مع جبهة تحريرالشام -العدو اللدود والمنافس لداعش.
بالعودة إلى عملية مقتل أبو بكر البغدادي. وقتها أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أنها كانت “نتاج تعاون استخباري”. وخلال مؤتمر صحفي في “البيت الأبيض” شكر دونالد ترامب كلا من العراق وسوريا وروسيا وتركيا والأكراد لإسهاماتهم في إنجاح تلك العملية.
تركيا من جانبها أعلنت أنه تم “التنسيق” بين أنقرة وواشنطن قبيل العملية. وأفادت وزارة الدفاع التركية في تغريدة على موقع تويتر: “حصل تبادل للمعلومات وتنسيق بين السلطات العسكرية للبلدين”. وذلك قبيل العملية.
وبعد نحو أسبوع من مقتل البغدادي قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن بلاده “اعتقلت إحدى زوجات البغدادي”. مضيفا في خطاب في جامعة أنقرة: “الولايات المتحدة قالت إن البغدادي قتل نفسه في نفق. لقد بدؤوا حملة دعاية بشأن هذا لكنني أعلن هنا للمرة الأولى: لقد اعتقلنا زوجته ولم نحدث جلبة بشأن الأمر مثلهم. وكذلك اعتقلنا شقيقته وصهره في سوريا” دون أن يتحدث عن تفاصيل.
بعد تصريحات أردوغان نشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريرا أوردت فيه تصريحات لمسؤولين أمريكيين أكدا خلالها أن “اعتقال إحدى زوجات البغدادي واستجوابها لعب دورا كبيرا في التحضير للعملية”.
تلاقي مصالح أنقرة وواشنطن
فيما يخص عملية تصفية القرشي ودلالة توقيتها فإن الإدارة الأمريكية الحالية في حاجة إلى انتصار معنوي كبير لتأكيد دورها الدولي في مكافحة الإرهاب. وحماية المصالح الأمريكية من المتطرفين إلى جانب دعم حلفائها. خاصة في أعقاب الانتقادات اللاذعة التي تعرضت لها في أعقاب الانسحاب من أفغانستان بشكل حمل رسائل سلبية بين طياتها هزيمة للقوة العظمى التي تواجه منافسة عنيفة من الصين وروسيا.
الانتصار الذي كانت تريده الإدارة الامريكية ربما تمثل في عملية الوصول إلى زعيم داعش. والذي ورد اسمه في “مشروع مكافحة التطرف البحثي” ضمن قائمة حملت أسماء 20 “متطرفا يعتبرون الأشد خطورة حول العالم”. ووضعت الخزانة الأمريكية في سبتمبر عام 2020 مكافأة قدرها 10 ملايين دولار للحصول على معلومات توصل إليه.
في مقابل ذلك شهدت الأيام الأخيرة تقاربا كبيرا في مواقف واشنطن وأنقرة بشأن ملفات إقليمية. ربما كان أهمها الاعتراض الأمريكي الرسمي لدى الحكومة اليونانية بشأن خط غاز “إيست ميد” الذي مثل انحيازا لموقف أنقرة. بخلاف تطابق موقفي أنقرة وواشنطن في ليبيا.
لماذا “جبهة تحرير الشام”؟
أما فيما يخص إمكانية وجود دور لجبهة تحرير الشام. فيمكن الإشارة هنا للرسائل التي وجهها الجهاز الأمني بالجبهة لمتشددين من جنسيات غير سورية بعد أيام قليلة من قتل “القرشي” يطالبهم فيها بضرورة إخلاء منازلهم التي يقطنون بها في إدلب. وذلك في تحرك يحمل رسالة تمايز عن هؤلاء الذين يوصفون بأنهم متشددون. والجبهة التي تؤكد مؤشرات عدة على وجود تقارب بينها وبين دوائر أمريكية أمنية بوساطة تركية.
الخليفة المجهول وقيادة الهواتف
في ظل تتبع التحالف الدولي لقادة التنظيم وفي مقدمتهم زعيمه أيا كان اسمه أو صفاته نظرا لرمزيته. فإن الأرجح خلال الفترة القادمة هو لجوء “داعش” إلى إخفاء هوية القائد الجديد الذي سيخلف عبد الله قرداش -المعروف باسم أبو إبراهيم القرشي- في مهامه. مع الاكتفاء بإعلان كنيته ليكون من الصعب تتبعه أو اقتفاء أثره من جانب العملاء المحليين وأجهزة الاستخبارات الدولية.
تبني نظرية “الخليفة المجهول” ستجعل قيادة “داعش” منحصرة في مجموعة من الهواتف والحسابات والتطبيقات الإلكترونية المعنية بالتواصل. بالإضافة إلى تقليل دوائر التواصل المباشر بين “الخليفة الجديد” والمكلفين بنقل التعليمات لأفرع التنظيم.
50 مليون دولار في خزائن “داعش”
رغم تصفية رأس التنظيم فإن كافة المؤشرات والتقارير الدولية المعنية بمتابعة نشاطه تؤكد عدم هزيمته المطلقة أو القضاء عليه. ففي أحدث تقرير صادر عن الأمم المتحدة الأسبوع الماضي أكدت المنظمة الدولية “أنه لا يزال قوة فاعلة في العراق وسوريا مع وجود متزايد في أفغانستان وغرب أفريقيا”.
وبحسب التقرير -الذي جمعه خبراء الأمم المتحدة بشأن داعش والقاعدة- قبل مقتل القرشي. ويغطي الأشهر الـ6 الأخيرة من عام 2021. فإن داعش ربما لا يزال لديه ما يصل إلى 50 مليون دولار في خزائنه.
وخلص التقرير إلى أن “عدم الاستقرار في كل من العراق وسوريا يشير إلى أن عودة ظهور داعش في نهاية المطاف في المنطقة الأساسية لا يمكن استبعادها”. مشيرا إلى أن داعش لا يزال لديه نحو 10 آلاف مقاتل نشط في سوريا والعراق.
تنامي قدرات التنظيم مؤخرا وتصاعد عملياته حرك المخاوف الدولية من عودة جديدة له. ففي 27 يناير الماضي عقد مجلس الأمن الدولي جلسة خاصة حول الوضع في شمال شرق سوريا. حيث استهل وكيل الأمين العام ورئيس مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب -فلاديمير فرونكوف- الجلسة بالتعبير عن قلق بالغ حيال الهجوم الذي شنه التنظيم منتصف يناير الماضي على مبنى المدرسة الثانوية الصناعية الذي كانت القوات الأمريكية قد حولته إلى سجن في مدينة الحسكة شمال شرق سوريا. والذي أسفر عن هروب عدد غير معروف من سجناء ينتمون إلى داعش من المنشأة التي كانت تحتجز نحو 3000 مقاتل من داعش.
ما يزيد القلق الدولي هو أنه رغم الحديث تارة عن صراعات داخل التنظيم وتارة أخرى عن تأثير الضربات التي يتلقاها فإنه يتمدد بقوة في غرب أفريقيا. وباتت العناصر التي بايعته من المجموعات والتنظيمات المحلية في تلك المنطقة تسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي. خاصة وسط اقترابها من مناطق الثروات سواء النفط أو الذهب بصورة تعيد للأذهان فترة إعلان التنظيم ما سمي “دولته” على مساحة من الأراضي السورية والعراقية.