تمتلك قرى مصرية كثيرة حرفًا تراثية يمكنها أن تكون ترس تصدير لتنشيط السياحة المحلية. بشرط توفير مقومات النجاح لها بمواد خام ودعم بنكي ومعارض لتصريف المنتج النهائي. وقد استطاعت قرية الأعلام بالفيوم عبر جريد النخيل وقش الأرز ومخلفات نبات الموز محاربة الفقر ودعم المرأة المعيلة. وذلك بتطويع تلك الخامات المهملة لصنع أدوات منزلية وتركيبات جمالية لخدمة النشاط السياحي.
ظلت “الأعلام” -وهي أول قرية في طريق مصر الفيوم الصحراوي ولا يتجاوز عدد سكانها ١٥ ألف نسمة- تعتمد على جريد النخيل لعقود في صناعة بعض المنتجات البسيطة كالعبوات. وتعمل بها سيدات في أعمار مختلفة كوسيلة لتحسين الدخل ومواجهة الفقر. قبل أن تنتقل لمنطقة أخرى من الصناعة تتعلق بالزينة والأكسسوار.
في ورش متواضعة لا تتجاوز مساحتها مترين أو أمام المنازل تعمل مجموعة سيدات في إنتاج قطع مختلفة الأحجام من القش والجريد ومخلفات الموز. تستغرق القطعة كبيرة الحجم لصناعتها يومين كاملين على أمل بيعها بمبلغ لا يتعدى 100 جنيه في الغالب.
من بين تلك السيدات فتيات في مقتبل العمر يسعين إلى تجهيز أنفسهن للزواج وأخريات تجاوزن الخمسين يتخذن منها وسيلة لتحسين الدخل وقضاء وقت الفراغ بقرية زراعية تعتمد أيضا على الزراعة وتربية الماشية.
مشروعات قروية تطوع المخلفات الزراعية
الخامات التي يتم استخدامها لا تأتي من الفيوم. ولكن من محافظات عدة. فقش الأرز يأتي من الوجه البحر خاصة محافظة كفر الشيخ والغربية. ويتم شراؤه بالبالات. أما بقايا الموز وجريد النخل فتأتي من محافظات الصعيد.
تستيقظ السيدات في قرية “الأعلام” مع الساعات الأولى للصباح ليعملن بالزراعة وتربية الماشية والدواجن. ثم يتجهن إلى صناعة الخوص حتى الثالثة والنصف عصرًا ليتفرغن بعدها لشؤونهن المنزلية.
قبل شهور قليلة تغير واقع القرية كثيرا بانخراطها بقوة في المعارض الحرفية التي تنظمها وزارة التضامن الاجتماعي تحت عنوان “تراثنا”. وبدأن تطوير الإنتاج باستخدام خامات مصنعة بجانب المنتج اليدوي.
طورت القرية أيضًا من صناعات الفخار التي كانت بدائية قبل 5 سنوات بإضافة أشكال جديدة أكثر عصرية. تتناسب مع الاستخدام المنزلي أو النواحي الجمالية التي تتعلق باستخدامها كتحف منزلية.
مصطفى فتحي -أحد قاطني قرية الإعلام- والذي طور نشاط والده وتحول لمسوق للمصنعات التراثية التي تنتجها قريته وعشرات القرى الأخرى على مستوى الجمهورية. فضلا عن عمله كمورد للمادة الخام التي تحتاج إليها تلك القرى أيضًا. يقول إن المنتج ذاته تطور وأصبح أكثر ارتباطا بالموضة والأزياء. وأصبحنا نسوق الحقائب والأكسسوارات الخاصة بالنساء، وقطع الأثاث المصنوعة من جريد النخل. بالإضافة إلى صناعة أماكن لنوم الحيوانات الأليفة داخل المنازل.
ما يواجه “فتحي” هو عدم قدرته على الوصول بمنتجه للسائحين الذين كانوا يزورون القرية قبل ١١ عاما. بجانب صعوبة الشحن لمحافظات بعيدة عبر شركات الشحن لحساسية المنتج الذي يمكن أن يتعرض لتدمير شكله الجمالي حال عدم التعامل معه بعناية.
التسويق معضلة تواجه القرى المنتجة
يمني أهالي القرية أنفسهم بالحصول على أماكن عرض دائمة في المناطق السياحية. خاصة أهرامات الجيزة. ما يمكنهم من الوصول إلى السائحين. وتسعير المنتج النهائي بقيمة عادلة تتناسب مع جهدهم. فالزبون الأجنبي يقدر الجهد المبذول بالقطعة أكثر من مكوناتها.
يضيف “فتحي” أن المنتجات التي يسوقها حاليا أصبحت تدخل ضمن قاعات الأفراح وأماكن جلسات الفوتو سيشن وتجهيزات القرى السياحية والفنادق.
تبنت وزارة التضامن خطة لإحياء المهن التراثية تتضمن المنتجات الحرفية اليدوية والتراثية الخاصة بأصحاب المشروعات من الجمعيات والأسر المنتجة. والتي تضم المنسوجات والمفروشات الأرابيسك والأكسسوار المنزلي والكوروشيه والنحاس والفضة.
بعض المنتجات التي تسوقها قرية الأعلام حاليا مصنوعة على بعد مئات الكيلومترات مثل مصنوعات أعواد الحناء. التي يصنعها أهالي قرية “ميت كنانة” بالقليوبية وموجهة للمنتجعات السياحية.
“ميت كنانة” مشهورة بتطويع نباتات الحناء والبوص وتحويلها إلى مظلات الشواطئ واللاند سكيب. والتي تستطيع مقاومة عوامل التعرية والحرارة لعشرات السنين عكس المنتجات البلاستيكية والقماش.
حسين عبد الرحمن أبو صدام -نقيب الفلاحين- يقول إن مصر تملك أكثر من 15 مليون نخلة. ما يجعل جريد النخيل ثروة لم تستغل حتى الآن كما ينبغي.
في “الأعلام” يتم التعامل مع خامتي الجريد والقش وأشجار الموز. والتي كان يتم للتخلص منها بالحرق. ويتم إدخالها بمراحل تصنيع بداية قبل العمل حتى تصبح أكثر سلاسة للتشكيل. وباستخدام معدات بسيطة لا تتجاوز إبر معدنية غليظة.
نقيب الفلاحين يقول إن القرى التي تنتج المنتجات التراثية لا تتعامل إلا في نطاق ضيق مع جريد النخل. الذي يمكن أن يكون بديلا للأخشاب في صناعة الأثاث وكثير من الأغراض المنزلية.
وأشار إلى أن جريد النخيل ما زال يستخدم بشكل بدائي في صناعة الكراسي وبعض أثاث الفنادق والمنازل. لكن استخدامه بالشكل الأمثل لم يحدث بعد.
يعتبر أهالي “الأعلام” أن المنتجات المصنوعة من الجريد والقش أكثر صحية من المنتجات المصنعة. فالفخار أفضل من الألومنيوم في الطهي. ومنتجات الخوص يمكنها أن تكون بديلا صحيا لتخزين المنتجات أو نقلها عن الأكياس البلاستيكية وعمرها طويل ولا تضر البيئة.
المنتجات الصديقة للبيئة تمتاز بعمر أطول
تمتاز منتجات الجريد والبامبو بقدرة أكبر على تحمل الحرارة وأشعة الشمس أكثر من الأخشاب والبلاستيك في الأثاث المنزلي الخارجي. ما يفتح مجالا أوسع لاستخدامها في المدن الجديدة.
ووفقا لـ”أبو صدام” فإن صناعة الأخشاب من الجريد يمكنها توفير فرص عمل وتقليل الضغط على الاحتياطي النقدي بتقليل استيراد الأخشاب المصنوعة من الورق المقوى أو مخلفات أعواد القمح والخشب الحبيبي كما يضيف قيمة اقتصادية مضافة لمزارعي النخيل.
ووصلت واردات مصر من الأخشاب خلال عام 2020 إلى نحو 749 مليون دولار. والتى تعتبر منخفضة عن 2019 بقيمة 24%. وذلك وفقا للتقرير السنوى الذي أصدره المجلس التصديري للأثاث.
تأتي أخشاب “إم دي إف” المضغوطة في المرتبة الثانية بعد الأخشاب الطبيعية في الواردات المصرية بنسبة 16% من إجمالى الاستيراد. وبلغت قيمتها خلال 2020 نحو 179 مليون دولار.
الخشب المضغوط يتم صناعته بواسطة ضغط الألياف الخشبية بعد عجنها مع مواد لاصقة. ثم يتم فردها تحت درجات حرارة عالية كي تتشكل ألواح منها ذات سمك مختلف يتراوح بين 3-30 مللي. وتمتاز برخص الثمن لكن في الوقت ذاته عمرها قصير ولا تتحمل الرطوبة أو الضغط العالي.
“أبو صدام” يأمل في إنشاء مصانع تعمل على تحويل جريد النخيل لأثاث خاصة في القرى. حيث تتوفر أشجار النخيل بكثرة، فضلا عن جذبها الشباب من الجنسين للعمل.