بينما تعزز الدبلوماسية الدولية المتجددة الآمال في التوصل إلى تسوية تفاوضية بشأن الأزمة الروسية الأوكرانية، يبقى شبح الحرب الشاملة يلوح في الأفق. وتبقى حقيقة أنه إذا شنت روسيا هجومًا جديدًا على أوكرانيا، فإن الآثار المتتالية للمصالح الأوروبية ستنتقل إلى ما هو أبعد من البلدين. ومن المرجح أن يتأثر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل خاص. ذلك كما يشير تحليل لهذا الوضع الأوكراني المتأزم وتأثيرات الحرب المحتملة وفق رؤية 6 من الباحثين التابعين للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ecfr).
يقول باحثو “ecfr” إنه إلى جانب ما ستخلقه الحرب القادمة من مشاكل جديدة لأوروبا في المنطقة، فإن دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا -على وجه التحديد- لن تكون قادرة بمفردها على استبدال روسيا كمزود الطاقة الرئيسي لأوروبا (كما يأمل البعض). وقد يكون هذا انتكاسة لجهود إدارة بايدن لتحويل تركيزها بعيدًا عن الشرق الأوسط ونحو آسيا. لكنها قد تخلق فرصًا جديدة للدبلوماسية الأوروبية. مثل جهود الوساطة بين الجزائر والمغرب لفتح خطوط أنابيب للطاقة.
وفي الوقت نفسه، فمن المرجح أن يؤدي تصاعد التوترات بين الغرب وروسيا إلى الإضرار بجهود تحقيق الاستقرار الإقليمي. لا سيما في ليبيا وسوريا. وقد تؤدي الحرب الشاملة بين روسيا وأوكرانيا إلى زيادة حادة في أسعار الطاقة والقمح العالمية. وقد يكون لهذا تأثير إنساني مدمر على الدول الهشة بالفعل في بلاد الشام وشمال أفريقيا. ما يفاقم من مشاكل الحكم فيها. ستجد الدول الإقليمية التي كانت تكافح بالفعل من الناحية الاقتصادية نفسها أضعف وأكثر عرضة للضغوط الخارجية.
وهذه ديناميكيات خطيرة بشكل خاص في منطقة، كان ارتفاع أسعار الخبز في كثير من الأحيان مؤشرًا على الاضطرابات السياسية والاضطرابات الأوسع نطاقًا.
اقرأ أيضًا: بنظرة براجماتية صرفة.. كيف يمكن للغرب كسر دائرة الصراع مع روسيا؟
تأثير الأزمة الروسية الأوكرانية على الطاقة
تؤكد الحرب في أوكرانيا على مخاطر اعتماد أوروبا على الغاز الروسي. ظهر هذا جليًا مع ما أثارته التوترات الحالية من مخاوف من تعطل تدفق الغاز الروسي. ما من شأنه أن يزيد من حدة النقص الحالي في الطاقة. ومن ثم يؤدي إلى ارتفاع الأسعار حتى بالنسبة للمستهلكين الأوروبيين الذين يعانون من أزمة حادة في تكلفة المعيشة.
في ظل هذه الخلفية، يبدو أن استبدال الغاز الروسي بغاز الشرق الأوسط هو حل جذاب. لكن القول أسهل من الفعل دائمًا.
يتناول باحثو “ecfr” وضع إنتاج الطاقة في الشرق الأوسط بالتحليل، فيذكرون:
قطر والإمارات والسعودية:
قطر باعتبارها ثاني أكبر منتج للغاز الطبيعي المسال في العالم، كانت المحور الرئيسي للجهود المبذولة لإيجاد إمدادات طاقة بديلة. فمنذ أواخر يناير/كانون الثاني، تضغط واشنطن على الدوحة لإعادة توجيه صادرات الغاز إلى أوروبا. ومع ذلك، فإن الإنتاج القطري يقترب من طاقته القصوى. مع ربط الكثير من إمداداته في عقود مع العملاء الرئيسيين في آسيا.
وإذا فشلت الولايات المتحدة في إقناع شركائها الآسيويين بالإفراج عن بعض مشترياتهم لتسليمها إلى أوروبا، فستكون إمدادات الغاز الجديدة محدودة. أيضًا، سيتم تسليمها بأسعار السوق الفورية. وهي بالفعل أعلى مستوياتها على الإطلاق.
ولدى قطر قدرة تفاوضية أعلى لصالحها، بسبب الافتقار إلى البدائل. خاصة وأن المملكة العربية السعودية والإمارات لا تمتلكان قدرات مماثلة في إنتاج الغاز الطبيعي المسال وتصديره. ومع ذلك، فإن المملكة مهمة لمزيج الطاقة بطرق أخرى.
يعزز تصعيد النزاع الروسي الأوكراني احتمالية خفض إمدادات النفط الروسية. وقد ارتفعت أسعارها بالفعل.
وتتعرض الرياض لضغوط أمريكية كبيرة لزيادة إنتاجها النفطي لخفض الأسعار. وإلى الآن، وقد رفضت لأن الأسعار المرتفعة تعزز إيراداتها، وتسرع من تعافيها من الوباء. إلا أن الصراع المتصاعد سيكثف المطالب الغربية، وفق تحليل “ecfr”.
وقد تشعر المملكة العربية السعودية أيضًا بفرصة لتحدي هيمنة روسيا على سوق النفط في أوروبا الشرقية، باستخدام اختراقاتها الأخيرة في بولندا. لمحاولة الاستيلاء على حصة أكبر من السوق العالمية.
اقرأ أيضًا: هل تستطيع روسيا ملء الفراغ الأمريكي بالخليج؟
شمال أفريقيا:
هنا، تمثل شمال أفريقيا حلًا محتملًا آخر لمشاكل الطاقة في أوروبا. ذلك بالنظر إلى موقع الجزائر وليبيا كموردي غاز بديلين محتملين. لكن هذا أيضًا حل يأتي مع تعقيدات كبيرة. ليس أقلها الطريقة التي يمكن أن تهدد بها سياسات شمال أفريقيا الفوضوية استقرار الإمدادات. وقد أدت التوترات المتصاعدة بين الجزائر والمغرب بالفعل، إلى توقف صادرات الطاقة عبر خط الأنابيب الذي يربط الجزائر وإسبانيا.
إن العداء الطويل الأمد بين الجزائر والرباط لا يوفر سوى القليل من الأمل في التوصل إلى حل سريع. ذلك على الرغم من أن الأزمة الأوكرانية قد تدفع إلى بذل جهود أوروبية أقوى للتوسط في النزاع. ومع ذلك، لا يزال بإمكان الجزائر توفير إمدادات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا أو تصدير المزيد من الغاز شرقًا عبر خط أنابيب إلى إيطاليا.
وفي الوقت نفسه، فإن عدم الاستقرار السياسي في ليبيا. فضلًا عن التهديد المستمر بالصراع، يجعلانها شريكًا مزعجًا للطاقة. لا سيما بالنظر إلى قدرتها الإضافية المحدودة.
قد يدعم الأوروبيون من يرون أنه قادر على توفير استقرار قصير المدى في غرب ليبيا، حيث موقع خط أنابيب الغاز الرئيسي. لكن هذا لن يكون حلًا مستدامًا. ويمكن لروسيا أن تزيد من تعقيد هذه الديناميكيات من خلال الاستفادة من وجودها في شرق ليبيا وحقول النفط في البلاد، لتعطيل تدفقات الطاقة إلى أوروبا.
قطر وبن سلمان وتركيا.. النفوذ المكتسب من الأزمة الروسية الأوكرانية
يمكن أن يوفر الصراع الروسي الأوكراني لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نفوذًا جديدًا هامًا على الولايات المتحدة وأوروبا.
يقول باحثو “ecfr” إنه من المرجح أن تسعى كل من قطر والمملكة العربية السعودية إلى استخدام ديناميكيات الطاقة لتقوية مواقفهما. وقد يكون تصنيف الولايات المتحدة لقطر كحليف رئيسي من خارج الناتو في يناير 2022 بمثابة لفتة واحدة في هذا الاتجاه. لكن من المرجح أن ترغب قطر في أن تقدم أوروبا تنازلات. وقد يكون على رأس قائمتها للمفوضية الأوروبية إرجاء تحقيق مدته أربع سنوات في استخدام قطر المزعوم لعقود طويلة الأجل لمنع تدفق الغاز إلى السوق الأوروبية الموحدة.
وفي المملكة، يريد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الهروب من وضع “المنبوذ الدولي” بعد مقتل جمال خاشقجي في عام 2018. لذا فمن الممكن أن تسعى الرياض إلى استخدام الطلبات الأمريكية والأوروبية لزيادة إمدادات النفط لاستعادة حظوة الغرب. وقد يتضمن ذلك لقاءً طال انتظاره مع الرئيس الأمريكي جو بايدن. بالإضافة إلى تخفيف عام للانتقاد الأمريكي للسعودية.
ستكون تركيا أيضًا جزءًا مهمًا من المعادلة، نظرًا لكونها عضوًا في الناتو ولها علاقات وثيقة مع كل من روسيا وأوكرانيا.
مثل محمد بن سلمان، فإن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “منبوذ” من قبل أوروبا وإدارة بايدن. لكن الصراع في أوكرانيا سيعزز ظهوره ويزيد من أهمية تركيا.
تتنافس روسيا والغرب الآن على جذب أنقرة وراء مواقفهما بشأن أوكرانيا. حيث تحرص واشنطن على أن تواصل أنقرة مبيعاتها من الأسلحة إلى كييف. ومن غير المرجح -وفق تحليل “ecfr”- أن تتحالف تركيا بشكل كامل مع الغرب ضد روسيا. نظرًا لعلاقتها المعقدة مع الدولة. لكن هذه الديناميكيات ستؤدي بلا شك إلى سياسة خارجية تركية أكثر ثقة بالنفس. خاصة في البحر الأبيض المتوسط وسوريا. كما أنها ستحظى بانتقادات غربية خفيفة الحدة لسلوك أردوغان الداخلي.
ومع ذلك، من المرجح أن تطغى الأولوية الغربية المتمثلة في إبقاء تركيا ودول المنطقة الأخرى على المخاوف بشأن القيم وحقوق الإنسان.
اقرأ أيضًا: “سويفت”.. كيف تحارب أمريكا وحلفاؤها روسيا دون إطلاق رصاصة واحدة؟
تأثير الصراع الروسي الأوكراني على أزمات الشرق الأوسط
في الوقت نفسه، فإن التوترات المتصاعدة بين أوروبا وروسيا بشأن أوكرانيا تخاطر بتعقيد موقف أوروبا في الأزمات في سوريا وليبيا. ومن المرجح أن تؤدي التوترات المتزايدة مع موسكو إلى تقليل احتمالية تكاتف الغرب وروسيا لتأمين حلول سياسية مستقرة لهذه الأزمات.
إذا أدت التوترات في أوكرانيا إلى مزيد من العقوبات الأوروبية على روسيا -أو غيرها من الإجراءات العقابية- فقد تستخدم موسكو موقعها في ليبيا للرد. بما في ذلك من خلال استغلال الصراع المتجدد وزيادة تدفقات الهجرة لزيادة الضغط على أوروبا.
قد يكون لموسكو نفوذ أقل في سوريا، بالنظر إلى أنها تملك فعليًا الحرب السورية وتريد من الغرب توفير دعم الاستقرار. لكن الصراع المتصاعد في أوكرانيا قد يعيق المفاوضات بشأن سوريا بين روسيا والولايات المتحدة. ما يعيق حتى إحراز تقدم متواضع في القضايا الإنسانية.
ما قد يحدث من إيران
السؤال أيضًا يدور حول ما إذا كانت الحرب في أوكرانيا ستؤثر على مفاوضات استعادة الاتفاق النووي الإيراني. فقد لعبت روسيا دورًا بناء في المحادثات الأخيرة. إذ عملت عن كثب مع الجهات الغربية لإعادة إيران إلى الامتثال. لكن الأزمة في أوكرانيا قد تدفع موسكو نحو نهج أكثر إرباكًا لتخفيف الضغط على طهران. وقد تشعر إيران أن التوترات المتصاعدة بين الولايات المتحدة وروسيا وارتفاع أسعار النفط يمنحها فرصة لالتقاط الأنفاس ويزيد من نفوذها في المفاوضات.
من المرجح أيضًا أن تقوم دول شرق أوسطية أخرى بالتحوط في رهاناتها.
الإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، ستكون حذرة تجاه روسيا وقد تتأخر في التحالف مع الغرب. أيضًا قد يحد هذا الاعتبار من رغبة الرياض في استغلال الأزمة لمحاولة الاستيلاء على جزء من حصة روسيا الحالية في سوق النفط. وقد شهد العقد الماضي ازدهارًا في العلاقات الأمنية والاقتصادية بين روسيا والعديد من الدول في الشرق الأوسط. ما كان مدفوعًا بإحساس تناقص الاهتمام الأمريكي بالمنطقة.
ومن المحتمل أن تتخذ إسرائيل موقفًا مماثلًا. إذ تعتبر إسرائيل الولايات المتحدة حليفها الدولي الأساسي. ومع ذلك، منذ أن نشرت موسكو جيشها في سوريا، أصبح المسؤولون الإسرائيليون ينظرون إلى روسيا على أنها جارهم الجديد في الشمال. إنهم يعتمدون على التعاون الروسي لشن ضربات جوية ضد أهداف مرتبطة بإيران في سوريا.
اقرأ أيضًا: كيف تتأثر واردات مصر من القمح بالأزمة “الروسية-الأوكرانية”؟
ما قد نفقده من أمننا الغذائي بفعل الأزمة الروسية الأوكرانية
أخيرًا، هناك خطر من أن يؤثر الصراع المتصاعد بين روسيا وأوكرانيا بشكل كبير على صادرات القمح من البلدين، والتي تمثل ما يقرب من 29 في المائة من العرض العالمي. ذلك في وقت ترتفع فيه أسعار المواد الغذائية إلى حد كبير؛ بسبب اضطرابات سلسلة التوريد المرتبطة بالوباء. وهذا من شأنه أن يزيد من خطر انعدام الأمن الغذائي.
ارتفاع آخر في أسعار الخبز -إلى جانب الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة- يمكن أن يكون له تأثير مزعزع بشدة للاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وتعاني المنطقة بالفعل من بعض أعلى مستويات انعدام الأمن الغذائي في العالم، وقد تؤدي الزيادات الإضافية في الأسعار إلى تعميق الأزمات الإنسانية وتغذي الاضطرابات على نطاق أوسع.
قلة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ستنجو من هذه الآثار، وفق تحليل “ecfr”.
الدول التي تحوم بشكل خطير بالقرب من المجاعة، مثل اليمن ولبنان (كلاهما مشتر رئيسي للقمح الأوكراني)، ستواجه أسوأ العواقب. لكن ارتفاع الأسعار سيشكل أيضًا تهديدًا لدول مثل ليبيا ومصر، اللتين تستوردان الإمدادات الأساسية من أوكرانيا، وكذلك تونس والجزائر. إذ أثار ارتفاع أسعار المواد الغذائية غالبًا غضبًا شعبيًا.
ستراقب كل هذه الدول بقلق بينما تتجمع القوات الروسية على حدود أوكرانيا.