أحسن الصديق أنور الهواري صنعا عندما طرح هذا السؤال في مقالات أربعة نشرها علي مدار أسابيع متتالية في موقع مصر 360، وقد حاول الزميل محمد سعد عبدالحفيظ في مقالين أن يعارضه مقدما إجابته علي هذا السؤال، وتداخل معهما في النقاش كل من أستاذنا عبدالعظيم حماد والزميل هيثم أبو زيد.
لكننا-في تقديري- لسنا بازاء سؤال واحد، بل أمام عدد من الأسئلة التي ينبغي التمييز بينها حتى نستطيع أن ندرك الصورة بتعقيدها وتركيبها، خاصة أن منها ما يتعلق بالمستقبل الذي ينبغي أن ننشغل به من الآن.
السؤال الأول: حول المستقبل السياسي لتنظيم الإخوان في مصر، الذي لايزال يملك قاعدة اجتماعية صلبة -بخلاف ما انتهى إليه عبدالحفيظ- تصل به استطلاعات الرأي إلى ما بين الربع والخمس، ولكن السؤال الأهم هنا هو الشروط المحفزة للاتساع والانتقال بالقاعدة الصلبة إلى مساحات القبول الاجتماعي والجماهيري المتسع، وهو ما اعتنى به الهواري في مقاله الأول من مدخل السياق المساند والدور المنتظر أو المرجو.
السؤال الثاني: ما مستقبل أطروحة أو سردية الإخوان الأساسية التي تعد الجذر الذي انطلقت منه وتأسست عليه الحركات السياسية الإسلامية على مدار القرن الماضي، سواء اتخذت مظهرا سلميا أو عنيفا، وهو ما عبر عنه الهواري بالتساؤل حول موضع الإخوان في القرن الواحد والعشرين، وإن لم يلحظ ما جرى من تطويرات على الأطروحة الإخوانية في أقطار أخرى كالمغرب وتونس ولبنان، ومحاولات الخروج عنها في الأردن، وأخيرا حماس في فلسطين.
السؤال الثالث: ماهو مستقبل الروح الحركية الإسلامية المعاصرة في المجال السياسي تحديدا، وهو سؤال ينبغي أن ينشغل به الجميع وفي مقدمتهم الدولة المصرية التي لم تقدم إجابة عنه منذ يوليو 52 وحتى الآن (في حين استطاعت دول أخرى في المنطقة تقديم إجابة كالمغرب)، وفي تقديري أنه سيطرح عليها أسرع مما تتخيل، خاصة وأن القمع يمكن أن يؤجله إلى حين، لكنه لا يمكن أن يصادره، لذا فمن الأفضل تنظيمه وترتيبه قبل أن يداهمها فلا تستطيع له دفعا.
السؤال الرابع: ما هو مستقبل تطور التيارات الرئيسية للفكر الإسلامي في المنطقة، سنية وشيعية، رسمية وغير رسمية، معتدلة وعنيفة، قديمة وجديدة. إذ لا يزال الإسلام لديه القدرة على اجتذاب قطاعات جماهيرية اليوم، كما أن الطريقة التي تتعامل بها الميول الفكرية الإسلامية المختلفة مع الأزمات المتعددة التي تواجه المنطقة في السنوات القادمة ستؤثر على الدور المتطور للدين في المنطقة على المدى الطويل.
أسئلة أربعة تتداخل فيما بينها وتتشابك، لكن التمييز بين مستوياتها مما يجب أخذه في الاعتبار عند محاولة الإجابة، مع تسليمنا بأن الملامح التي تتشكل وتتحدد بها إجابة كل سؤال سيكون لها تداعياتها على الأسئلة الأخرى.
ونحن إذ نستكمل الحوار حول السؤال الأول في هذا المقال نستدعي- تركيبا وتعقيدا للصورة- بعضا من ملامح الإجابة على الأسئلة الأخرى.
الإخوان تسقط ولا تختفي
في تفسير حضور الإخوان أو تراجعهم السياسي قدمت لنا المقالات الثمانية أربعة عوامل تتداخل فيما بينها وتتفاعل عناصرها المعقدة بما يؤشر على اتجاهات المستقبل الذي يتسم بعدم اليقين الشديد، فالتغيير وليس الاستمرارية، هو الديناميكية المهيمنة على كيفية تطور العالم خلال العقدين القادمين، لذا فإن المرونة والتكيف لمواجهة عدم اليقين بشأن المستقبل من العوامل الرئيسية للتفكير في هذه المرحلة.
نعود للمحددات الأربعة وهي: 1- السياق بمستوياته الوطنية والإقليمية والدولية. 2- التنظيم، طبيعته وقيادته وأزماته الحالية. 3- وحدود فاعلية الإخوان في المجال السياسي بحكم طبيعة مشروعهم الفكري والسياسي. 4- الملامح الكبرى للقرن الحالي واتجاهاته المستقبلية، على الأقل في العقدين القادمين.
ومع تسليمنا بهذه المحددات الأربعة نشير في هذا المقال-علي أمل أن يمتد نقاشنا في مقالات أخرى- إلى مسألة “أيديولوجيا الإخوان” التي لم تعرها المقالات الاهتمام الواجب، بالرغم من أنها تعد أحد عناصر “القوة الناعمة”- على حد قول شفيق شقير في مقاله الهام حول: الأيديولوجيا الناعمة للإسلام السياسي وفي نفس الوقت أحد مكامن عدم فاعليتها السياسية أيضا.
قوة الإخوان الناعمة
أطروحة الإخوان هي واحدة من أجوبة المسلمين المتعددة على تحدي الحداثة وما تمثله من قوى، وتحمله من قيم للمجتمع المسلم، ولا يقتصر دورها على مناهضة تغريب المجتمع المسلم كما جرى بعد الاحتلال البريطاني 1882- كما أشار الهواري في مقالاته.
هي في جوهرها السعي لجعل الإسلام حاكما على كافة مجالات الحياة من الإيمان والفكر إلى السياسة والإدارة والقانون، والبحث عن حل لمشكلة تخلف المسلمين مقارنة بالغرب عن طريق الوحدة والتضامن أي استعادة الخلافة-التشكل النظامي المعبر عن وحدة المسلمين.
وهذا الجوهر يتشابه مع الأيديولوجيا الإسلامية التي يحملها قطاع من المسلمين في المجتمع المصري، بعبارة أخرى، فإن هناك قدرا مشتركا بين أجزاء من هذه السردية الأساسية وبين قطاع -قل أو كثر -من المسلمين المصريين.
لذا فمن محددات مستقبل الإخوان السياسي هو معرفة الفئات الاجتماعية والمناطق الجغرافية التي لاتزال تؤيد الإخوان ويمكن أن تتمدد بها مستقبلا؟ يجازف البعض بأن يشير إلى الريف المصري ومدن المحافظات خارج القاهرة وخاصة الصعيد.
ولنتأمل بعض مكونات هذه السردية وهي رغبة المسلم في الزمن المعاصر أن يحيا بالإسلام، أو على الأقل ألا يخالف تعاليمه في حياته الخاصة والعامة، وهو القدر المشترك بين المسلمين جميعا.
أما موضوع الخلافة، فهو حديث في شرعية الحكم القائم والذي يعاني من أزمات شرعية متعددة في ظل معاناة جماهيرية في حيواتها المادية والمعنوية.
ذكر لي-في السجن- أحد الدعاة المشهورين عن استدعائه من قبل رئيس جهاز أمن الدولة في زمن مبارك ليلفت نظره لسلسلة الخطب التي يلقيها عن خلافة عمر وكيف أنها تلقي بظلالها على ما كان يشاع وقتها عن فساد أحد أبناء مبارك.
ونضيف إلى عناصر القوة الناعمة مسألتين هما من جوهر الإسلامية المعاصرة وهما: صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، و”الدعوة” ذلك المفهوم المحوري لدى عموم الإخوان، والمقصود به ليس دعوة غير المسلمين للإسلام، ولكن دعوة المسلمين لأن يحيوا بالإسلام في واقعهم المعاصر من مدخل العبادات والمعاملات، وفي المحال الخاص كما المجال العام .
لذا فإنه حتي في غياب مجال عام مفتوح تظل لأيديولوجيا الإخوان حضورها الفكري/الدعوي خاصة في ظل اعتبارات أربعة:
1- وجود صراع بين مؤسسات الدولة الرسمية حول المقصود بتجديد الخطاب الديني.
2- أزمة هوية بين الشباب المصري، فبرغم أن غالبيتهم العظمي ترى في العامل الديني أحد أهم محددات الهوية لهم، فقد عجز نظام 3/7 أن يقدم -حتى الآن- غير بعض الشعارات التي لا ترسم ملامح الوطنية المصرية في القرن الواحد والعشرين.
3- برغم أن الشرعية التي قام عليها نظام 3/7 هي محاربة الإرهاب -الذي احتلت فيه الإخوان أولوية أولى، إلا أن هذا الخطاب قد استنفد غرضه لدى قطاعات من المصريين نتيجة تصاعد الضغوط الاقتصادية عليهم، كما أن الشخصيات التي يقدمها النظام لتلبية الطلب على الخطاب الديني لا تمتع بالمصداقية الكافية ولا بالاحترام الواجب، ويجري مع ذلك هجوم متتال على شيخ الأزهر بما جعله ملتقى ومقصد جميع المصريين بما فيهم تيارات الإسلام السياسي المختلفة.
ويفاقم الوضع أن الأرضية التي يتحرك عليها النظام هي نفس أرضية أيديولوجيا الإخوان التي تستدعي الديني إلى المجال العام ومنها السياسة.
4- فائض التدين عند المصريين -تلك الظاهرة التي كتبت عنها سابقا- والتي تعني استدعاء المكون الديني في جميع مظاهر حياتنا وفي كل جدالاتنا.
أنا أدرك حدود تمدد الأيديولوجيا الإخوانية في المجتمع إذا تلبست بالتنظيم المغلق، وإذا حملت بين مكوناتها تجاورا بين أيديولوجيات متناقضة أحدها يمثله خطاب سيد قطب الحدي الذي يحض على المفاصلة مع الواقع “الجاهلي”، وبين خطابات أخرى أكثر تسامحا مع الواقع، ولكن برغم ما تحمله الأيديولوجيا الإخوانية من تناقضات نعرض لها لاحقا، لكن يظل للمكون الديني من خطابهم مما يسهل إقامة جسور بينهم وبين قطاع من المصريين، كما أن الإخوان -في جانبهم الديني- استطاعوا أن يضعوا أنفسهم كجزء من حركة إصلاح ديني ممتدة ساهم فيها عدد من المجددين العظام من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا قديما، وعبدالحليم محمود والشيخ محمد أبو زهرة ومحمد الغزالي وغيرهم من المعاصرين.
حركة الإصلاح الديني هذه -على حد قول البشري رحمه الله- اجتمع فيها مع الربع الأخير من القرن العشرين ملمحان: الحفاظ على الهوية الدينية بالمحافظة الفكرية، والتجديد الذي يمكن أن يعيش به المسلم زمنه المعاصر ويمكن له أن يتعامل مع الحداثة ومنتجاتها.
الخلاصة: في هذه النقطة أنه في ظل غياب مشاريع حقيقية -وليس رطانات للتجديد الديني- فإن أيديولوجية الإخوان ستجد محضنها الطبيعي لدى قطاعات جماهيرية في الريف والمدن الصغرى التي تتسم بالمحافظة الدينية وتعاني في معيشتها.
وللحديث بقية…