انتهينا في المقال الأول إلى أنه في ظل غياب مشاريع حقيقية -وليس رطانات للتجديد الديني- فإن أيديولوجية الإخوان ستجد محضنها الطبيعي لدى قطاعات جماهيرية في الريف والمدن الصغرى التي تتسم بالمحافظة الدينية وتعاني في معيشتها.
الشباب المصري وبدائل الإسلاميين
كتبت وكتب غيري عن التحول في أنماط التدين عند الشباب المصري في المدن وخاصة بعد ثورة يناير، وعلاقته بنمط التدين الإخواني.
يقدم محمد فتوح -الباحث المتميز في الظاهرة الدينية- أطروحة هامة عن الكيانات الدينية والثقافية في مصر بعد الثورة، قد تجعلنا نعيد التفكر في بعض مسلماتنا عن حالة التدين في مصر، وهي أن مزيدا من الانفتاح السياسي والثقافي في المجتمع المصري من شأنه أن يؤدي إلى تآكل أطروحتي الإخوان والسلفيين لدى الشباب، ولا أدري إن كان العكس صحيحا أم لا؟
ففي ظل ما تبرزه استطلاعات الرأي الأخيرة (2020) من أن ربع المستطلعين من المصريين لايزالون يؤيدون الإخوان حتى الآن مع إغلاق تام للمجال العام، وفي ظل قمع غير مسبوق للتنظيم.
تدين الجامعيين من شباب وشابات ما بعد الثورة له سمات ست: 1- ذو طبيعة فردية. 2- نواته الصلبة لا تتكون بالتنظيمات وإنما بشبكية التفاعلات وكثرة المبادرات. 3- والتي يجمعها علم شرعي، وتصوف عاطفي. 4- وتتشكل ملامحه على السوشال ميديا وبالممارسة العملية لا الخطاب الأيديولوجي. 5- ويتميز بحضور نسائي طاغ. 6-وموقفه من السياسة لم يتحدد بعد وإنما ترسمه السياقات وتطورها.
هذه السمات الست تجد تفسيرها في نموذج السوشال ميديا باعتباره نموذجا معرفيا دعمته سردية الربيع العربي.
السوشال ميديا ليست مجرد أدوات تستخدم وإنما تعبير عن قيم وممارسات تدور على: 1- الفردية. 2- والاعتراف بالتنوع والتعدد بما يعنيه من انفتاح على الذات المتنوعة والآخر المختلف. 3- النفع والعملية: الذى يعنى تجاوز الأيدلوجي. 4- وتنازع بين الخصوصية والبحث عن المشترك الإنساني. 5- وغياب المركز/المطلق/المرجعية في ظل سيولة شديدة، 6- وأخيرًا الاستهلاك الشره والسريع للمحتوى والرموز والمؤسسات، دينية وغير دينية.
وبرغم المصادمة البادية بين تدين الإخوان وتدين الشباب المعاصر، فقد شهدنا من قبل كيف استفاد الإخوان من ظاهرة الدعاة الجدد التي كان بعض شبابهم جزءا من وقودها المحرك.
سردية الربيع العربي
بعد عقد من الربيع العربي، تواجه كل أطروحة من الأطروحات الإسلامية مأزقها التاريخي الذي يخصها دون غيرها، إلا أنها جميعا تواجه تحديا مشتركا يتمثل في: 1- اتساع الفجوة بين الطرح الأيديولوجي والطلب العام عليه التي ترجع جزئيا إلى تعزيز الهوية الفردية على حساب الهويات الجماعية (الدينية، والقومية، والعرقية، والقبلية)- كما قدمنا. 2- تحول في الأجيال مع اختفاء آخر “المجتهدين العظام”. 3-صعوبة التنافس مع تدفق المحتوى بفضل التكنولوجيا التي جعلت معظم الفصائل الإسلامية لم تدخل بعد ساحة الصراع المعرفي الأساسي لعقول الجمهور في المنطقة. 4- وأخيرًا: الفشل في ترجمة الرؤية إلى واقع.
الزاوية التي نريد أن نبرزها هنا هي سمات الأيديولوجيا الإخوانية عندما تنتقل إلى المجال السياسي، فقد بلغت ذروة الفاعلية السياسية لهم في الربيع العربي في موجته الأولى (وللمفارقة فقد جاءت الموجة الثانية وهم في الحكم لذا فقد كانت ضدهم) حين استدعتها الجماهير -عبر انتخابات حرة ونزيهة- باعتبارها فاعلا سياسيا وليس دينيا لتحسن من أوضاعها المعيشية لا لتصحح هويتها الدينية.
سردية الإخوان -التي أتفق مع الهواري- تنتمي للقرن العشرين، وقد استندت إلي مرتكزات خمسة: شمولية الإسلام، أي تعلق المرجعية الإسلامية بشئون الحياة جميعا، ومحورية السلطة كأداة أساسية لتطبيق الشريعة، رفض الدولة الوطنية والسمو فوقها من خلال الأممية الإسلامية، وإعادة بناء الأمة نفسها (أسلمة المجتمع) على أساس هوية وشرعية جديدة، باستخدام التنظيم المقدس، قدسيته تتأتي من مهمته.
لن نناقش مكونات هذه السردية وإلى ماذا انتهت وما هي عناصر فشلها ونجاحها- وهو ما أشار الهواري وأبوزيد إلى بعضا منه، ولكن ما يهمنا في هذا الصدد هو كيف تركت تأثيرها على عمل الإخوان في المجال السياسي، خاصة أن الخطاب قد امتزج بخمس سمات أخرى: دعوية الخطاب، وأخلاقويته، وأيديولوجية غامضة ممتزجة بالبرغماتية، مع غلبة الاحتجاجي على تقديم السياسات، وأخيرا التنظيم المفارق لعضويته.
كل هذا جعلنا مع الإخوان بإزاء وعاء أديولوجي بلا مضمون سياسي واقتصادي محدد، ويمكن تجاوزه بسهولة حال الاحتكاك بمعضلات الحكم ومشكلات الواقع، والأهم أنه -كما ثبت بالربيع العربي- لا يملك مشروعا فارقا لتحسين معيشة الناس، ولإعادة بناء وإصلاح الدولة الوطنية- دولة ما بعد الاستقلال.
ونضيف أن هناك تحديات أربعة تواجه الإخوان وفق ما طرحته سردية الربيع العربي- وتفرض نفسها عليهم: ١-الحرية كمنظور شامل يعيد صياغة علاقتهم بالدين، ٢-وخطاب المعاش الذي يعطي الأولوية لحياة الناس اليومية لا خطابات الهوية، ٣-وتمكين المجتمع في مقابل سيطرة التنظيم، ويأتي رابعًا أهمية الانتقال من الطأفنة إلى أن تكون جزءًا من التيار الوطني العام، وأخيرًا، فإن امتلاك نظرية للدولة وتحديد لموقع السلطة في هيكل المشروع الإسلامي شرط أساسي -من وجهة نظري- للحد من إعادة إنتاج القمع والعنف والهيمنة على المجتمع الذي حكم مسار دولة ما بعد الاستقلال واتسمت به بعض تجاربهم في الإقليم، كسودان البشير وإيران الخميني.
الصراع علي روح الإسلام
وأقصد به صراع المحاور الإقليمية حول من يمثل الإسلام المعتدل.
الملمح العام في هذا الصراع أنه يدور على إسلام منزوع الديموقراطية، مندمج في السوق أي ذو طبعة نيوليبرالية، وممتزج بالعنف لأنه يقرن القوة الناعمة بالصلبة برغم أنه يقدم نفسه للعالم باعتباره منفتحًا متسامحًا، ويلعب دورًا في مناهضة التطرف العنيف، لكنه في نفس الوقت لا ينظر لحال شعوبه.
ملامح خمسة مشتركة لهذا الإسلام الذي تقدمه القوى الإقليمية وإن ساد الصراع بينها:
1- عنيف لأنه يقرن القوة الناعمة بالصلبة سواء مورست هذه القوة بشكل مباشر كما تركيا شمالي سوريا والعراق، أو عن طريق استخدام الوكلاء كما تفعل إيران في اليمن وسوريا والعراق ولبنان، أو الإمارات في اليمن وليبيا، وقطر في سوريا من قبل وفي ليبيا الآن، أو السعودية في اليمن الآن وسوريا من قبل.
2- إسلام منزوع الديموقراطية، مع نزوع متصاعد لمصادرة الحريات في نظمها الداخلية مقترن بحديث عنها مع الخارج، حتى تجربة تركيا الوحيدة التي اتسمت بملمح ديموقراطي (2002-2012) شهدت تراجعًا مستمرًا عن هذا المنزع منذ عام 2012 وتفاقم مع المحاولة الانقلابية 2016.
أما النموذجين السعودي والإماراتي فقد دعما نمطا يحض على الطاعة المطلقة لولاة الأمر بغض النظر عن ممارساتهم.
3- طبعة نيوليبرالية خالية من أي بعد اجتماعي، فالنموذج الاقتصادي الذي تتبناه هذه الدول جميعا والحركات المتحالفة معها يقوم على الاندماج في السوق العالمي مع اتباع سياسات نيوليبرالية لا تعالج التفاوتات في الثروة والدخل والفرص بين المواطنين.
4- ينطوي التنافس ضمنيًا على نقاش أوسع عبر العالم الإسلامي يتطرق إلى قلب العلاقة بين الدولة والدين، ويركز هذا النقاش على الدور الذي يجب أن تلعبه الدولة، إن وجد، في تطبيق الأخلاق الدينية ومكانة الدين في التعليم والأنظمة القضائية والسياسة.
ويلاحظ أنه مع اشتداد معركة القوة الناعمة الدينية بين الدول المتنافسة، أصبحت الخطوط الفاصلة بين الدولة والدين أكثر ضبابية من أي وقت مضى، لا سيما في البلدان الأكثر استبدادًا.
5- عينهم على العالم ولا يلقي اعتبارًا لشعوبهم، فالأهم أن تكون صورتهم متسامحة ومسالمة وفيها القبول للآخر الديني بل والعدو منه (التطبيع مع الكيان الصهيوني) حتى ولو لم يقبل المختلف معه في الإطار الوطني والإقليمي. ويعمق من ذلك اشتراكهم جميعًا في الحرب على الإرهاب-الذي يختلف تعريفه من دولة لأخرى- لكنه بمثابة باب الشرعية الدولية والتخلص من الخصوم الأقوياء.
هذه الخصائص الخمس إذا أضيف إليها المكون القومي كما في تجربتي إيران وتركيا، والسعودي والإماراتي الآن، والمكون المعادي للثورة /التغيير كما في النموذج الإماراتي والسعودي والمصري، نكون إزاء خضوع الديني لسلطة الدولة مع انتفاء أية إمكانية لمجال ديني تعددي حر على المستوى الوطني، ومستقل عن التحالفات الاقليمية، ويخضع لشبكات المحسوبية الاستبدادية والزبائنية، والأهم أنه سيظل يتسم بالعنف لعجز هذه المحاور الإقليمية جميعًا عن بناء نظام للأمن الجماعي يحكم المنطقة وقادر على إدارة الصراعات فيما بينهم بشكل سلمي في ظل انسحاب أمريكي.
من صدام الحضارات إلي صراع الهويات
وتبقي نقطة في الختام أشار إليها أستاذنا عبدالعظيم حماد سريعا، وإن تستحق بعض التفصيل، وهي توقع تصاعد صراع الهويات في العقدين القادمين.
فصعود الإخوان منذ التسعينات من القرن الماضي كان في جزء منه نتاج تصاعد الصراع العسكري مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة، بالإضافة إلى الصراع مع الكيان الصهيوني عبر الانتفاضات الفلسطينية المتتالية ابتداء من 1987، وحرب تحرير جنوب لبنان بقيادة حزب الله، ثم جاءت
حقبة سبتمبر 2001 لتزيد خطوط التماس والاشتعال بين الغرب والعالم الإسلامي، خاصة أن هذه الحقبة قد شهدت أزمات ثقافية متتالية (الرسوم المسيئة للرسول ومنع الحجاب …إلخ) تختبر فيها أطرافها موازين القوى فيما بينها في ظل امتزاج شديد للصراع السياسي بالاعتبارات الثقافية، وقد أنتج ذلك ظاهرة الهوس الغربي بالإسلام.
الملمح العام للعقدين القادمين-كما تشير إليه عديد التقارير- هو “هويات أكثر بروزا”،
فمع تآكل الثقة في الحكومات والنخب والمؤسسات القائمة الأخرى، من المرجح أن تتفتت المجتمعات أكثر على أساس الهويات والمعتقدات، ويتجه الناس في كل منطقة إلى مجموعات مألوفة ومتشابهة التفكير من أجل المجتمع والشعور بالأمن، بما في ذلك الهويات الثقافية وغيرها من الهويات دون الوطنية وكذلك التجمعات والمصالح عبر الوطنية.
تتكاثر الهويات والانتماءات وتصبح أكثر وضوحًا في نفس الوقت، وهذا بدوره يؤدي إلى مزيد من الأدوار المؤثرة لمجموعات الهوية في المجتمع والسياسة.
ويلاحظ أن كثيرا من الناس ينجذبون إلى هويات أكثر رسوخًا، مثل العرق والقومية والدين.
في بعض البلدان، يؤدي تباطؤ النمو السكاني، وزيادة الهجرة، والتحولات الديموقراطية الأخرى إلى تكثيف تصورات الضعف، بما في ذلك الشعور بالضياع الثقافي.
كثير من الناس الذين يشعرون بالنزوح بسبب التغيرات الاجتماعية والاقتصادية السريعة يستاؤون من انتهاكات التقاليد القديمة، ويرون أن الآخرين يستفيدون من النظام على حسابهم.
كما يستمر الدين في لعب أدوار مهمة في حياة الناس، تماشيًا مع الأهمية المتزايدة للهويات الراسخة، وتشكيل ما يؤمنون به، ومن يثقون به، ومع من يتجمعون، وكيف يتفاعلون علنًا.
إن تصورات التهديدات الوجودية من الصراع أو المرض أو عوامل أخرى تساهم أيضًا في مستويات أعلى من التدين.
غفر الله لأخينا أنور الهواري، فقد طرح علينا سؤالا تصعب إجابته مع حالة عدم اليقين التي تسود العالم الآن.