يحتفل الأقباط هذه الأيام بصوم يونان، المعروف بصوم نينوى. ويستمر لمدة ثلاثة أيام، على أن ينتهي غدًا الأربعاء. إلا أن هذا الصوم الذى يستدعي فيه المسيحيون الأقباط الأرثوذكس قصة النبي يونان المذكور في الإنجيل العبراني (العهد القديم)، قد أثار جدلًا بين المسيحيين. إذ تعتبره الكنيسة القبطية الأرثوذكسية من أصوامها المعروفة وتشترك في ذلك مع الكنيسة السريانية وبعض كنائس العائلة الأرثوذكسية. بينما المنقب في تاريخ هذا الصوم يكتشف أنه قد دخل التقليد الكنسي قادمًا من الكنيسة السريانية. أي لم يكن معروفًا لدى آباء الأقباط الأوائل، ولم يذكر حتى في تاريخ بعض الباباوات. وقد عمد أحدهم إلى إلغائه حتى انتهى به الأمر إلى أن أصبح تقليدًا قبطيًا، يتسمك به المصريون.
يقول القس الدكتور باسيليوس صبحي، وكيل الكلية الإكليريكية للأقباط، إن هذا الصوم دخل إلى الكنيسة القبطية في عهد البابا أبرآم بن زرعة السرياني (976-979م) الـ62 من باباوات الكرازة المرقسية. وذلك بعد أن أتم الله في عهده معجزة نقل جبل المقطم سنة 978م تقريبًا. ويضيف: ذكر العلامة جرجس ابن العميد الملقب بابن المكين (1273م) في كتابه مختصر البيان في تحقيق الإيمان، الشهير باسم الحاوي، أن البابا ابرآم “أراد بذلك اتفاق كنيسة القبط مع كنيسة السريان في هذا الصوم لائتلاف المحبة، كما يوجد بينهما الائتلاف في الأمانة الارثوذكسية. حيث تم فرض هذا الصوم ما بين عيد الغطاس وبين الصوم الكبير.
هل تم فرض صوم يونان على الأقباط بغرض المقايضة؟
في كتابه “أصوامنا ما بين الماضي والحاضر”، يؤكد القس كيرلس كيرلس صاحب أن هذا الصوم لم يكن معروفًا في الكنيسة القبطية حتى القرن العاشر. وأنه مع تربع البابا آفرام السرياني المعروف باسم ابن زرعة على عرش الكنيسة، وكان سريانيًا، أدخل هذا الصوم في ظروف استثنائية.
يقول القس كيرلس كيرلس: كانت نينوى التي يورد العهد القديم قصتها مع النبي يونان تابعة لكرسي المشرق السرياني. ومن ثم كان أهلها يتبعون صومًا يحمل الاسم نفسه “صوم نينوى”. إلا أن هذا البابا قد رفض أن يصوم صوم هرقل المعروف باسم صوم الاستعداد. ويسبق الصوم الكبير بأسبوع وفقًا لتقليد الكنيسة القبطية. قال: لن أصوم صوم هرقل إلا إذا صام الأقباط صوم نينوى. ومن ثم بدأ الأقباط في صوم نينوى.
وينتهي القس كيرلس كيرلس إلى نتيجة مفاداها: لا يجوز أن يتم فرض صوم بنظام المقايضة مثلما هو الحال في صوم نينوى الذي تمت مقايضته بصوم هرقل. ويؤكد أن الآباء البطاركة الذين جاءوا بعد البابا السرياني لم يذكروا هذا الصوم ولم يدرجوه ضمن أصوام الكنيسة المعروفة. حتى أن البابا غبريال الثامن قد قرر ألا يصام صوم نينوى.
لماذا قرر أهل نينوى الصوم في كنيستهم السريانية؟
يشير الدكتور باسيليوس صبحي، أستاذ تاريخ الطقوس بالكلية الاكليريكية: من المعروف أن هذا الصوم قديم جدًا في كنيسة المشرق السريانية. وكان ينتمى لها هذا البابا القديس آفرام أبو زرعة. إلا أن الآراء تباينت في أصله وتاريخه. ففي بادئ الأمر كان الصوم لستة أيام تُفرَض على المؤمنين في وقت الشدة. ويُستدلّ على ذلك من تراث القديس مار آفرام السرياني (373م). حيث ورد عنوان الميامر ما ترجمته عن السريانية: مقالات مار آفرام في الطلبات التي تقام في زمن الغضب”. ولكن هذا الصوم أُهمِل عبر الأجيال.
يضيف القس باسيليوس في رحلته لاستعراض صوم يونان: في القرن السادس الميلادي أصبح الأمر لا يتعدى ثلاثة أيام فقط تُصام سنويًا. وذلك بعد أن أصاب الناس في بلاد فارس والعراق وخاصة منطقة نينوى مرض يُسمّى (الشرعوط). وهي لفظة سريانية معناها (الطاعون أو الوباء). وعلامته ظهور ثلاث نقط سوداء في كفّ الإنسان حالما ينظر إليها يموت. فخلت مدن وقرى كثيرة من الناس. حتى اضطر الملك كسرى أنوشروان أن يستأجر رجالًا لدفن الموتى من كثرتهم. فقرّر رعاة الكنائس المشرقية في تلك البلدان أن يصوم المؤمنون لمدة ثلاثة أيام ونادوا باعتكاف، وتوبة قوية نسجًا على منوال أهل نينوى. وقد سُمِّي “صوم نينوى” لأن المؤمنين الذين صاموه أولاً كانوا يقطنون في أطراف نينوى.
ووفقًا لما نقله القس باسيليوس صبحي في بحثه عن الصوم: يذكر المطران مار ديونيسيوس ابن الصليبي (1171م) في كتابه المجادلات (بالسريانية) أن واضع صوم نينوى هو مار ماروثا بتكريت. وهو الذي فرضه على كنيسة المشرق في منطقة نينوى أولًا. ولكن مؤرِّخو الكنيسة الشرقية يذكرون أن سبب هذا الصوم شدّة طرأت على الكنيسة في الحيرة فصام أهلها ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ مواصلين الصلاة إتمامًا لوصية أسقفهم يوحنا أزرق فنجاهم الله من تلك التجربة.
كيف كان للأقباط القول الفصل في فرض صوم يونان كتقليد كنسي؟
ويلفت الأب اثناسيوس المقاري، في كتابه الشهير “الصوم المقدس الكبير“، إلى أن صوم نينوى كان يتأرجح بين باباوات الكنيسة. فمنهم من يفرضه ومنهم من يلغيه. إلا أن الشعب القبطي بحسه الروحي تشبث به ورفعه إلى كرامة فائقة توازت مع كرامة الصوم الكبير. فصار صومًا ثابتًا وراسخًا في الكنيسة القبطية. حتى ذكره ابن العسال في قوانينه في القرن الثالث عشر. ولما جاء البابا البطريرك غبريال الثامن رقم 97 من باباوات الكنيسة وأمر ألا يصام نينوى، لم يجد صدى لأمره بعدما صار الصوم شعبيًا لدى الأقباط.
ويوضح الباحث مراد يواقيم، المتخصص في اللاهوت، أن صوم نينوى لم يفرض بغرض المقايضة. وهي الفرضية التي ذهب إليها القس كيرلس كيرلس. بل يؤكد أن كتاب القس كيرلس مرجع فتح الباب أمام دراسة أصوام الكنيسة. لكنه في الوقت نفسه يغيب عنه التوثيق والدقة الأكاديمية.
ويقول مراد، في تصريحات لـ”مصر360″، إن صوم نينوى قد جاء قادمًا من كنيسة المشرق السريانية، لأن منطقة نينوى نفسها تقع ضمن الكنيسة السريانية. ومن ثم كان أهل نينوى يصومون هذا الصوم، لأنه يمثل لهم أمرًا قوميًا. ذلك حتى جاء البابا آبرام أبن زرعة وأدخله إلى الكنيسة القبطية، فأحبه الأقباط وتمسكوا به، وصار صومًا شعبيًا، فشلت محاولة إلغائه بعد ذلك من قبل البابا غبريال. ومع الوقت اتخذ اسم صوم يونان بدلًا من نينوى رغم إن الاسمين مصدرهما نفس القصة الإنجيلية.