لا أحد يعرف متى رأى الإنسان وجهه أول مرة في مرآة؟ أو منعكسًا على صفحة ماء ساكن؟ وماذا كان شعوره حين ذاك؟ كان ذلك حدثًا استثنائيًا. وأنت بالتأكيد تتذكر الفتى الجميل نرجس Narcissus وكيف وقع في غرام وجهه حين شاهده أول مرة على صفحة ماء ساكن. فلم يكتفِ برؤية صورته في الماء. وإنما حاول بكل السبل الوصول إليها والإمساك بها بين يديه. وكلما حاول ذلك تعكّر الماء وغابت الصورة. كان “نرجس” يريد المحال. ولكن هذا المحال صار أمرا ميسورًا بالنسبة لنا الآن..!

لا شك في جمال وجه “نرجس”. فقد كانت الفتيات يطاردنه فيما تقول الأسطورة الإغريقية. ولا شك أيضًا أنه وقع في غرام وجهه بعد أن تمكّن من رؤيته للمرة الأولى.

منذ ذلك التاريخ والإنسان مشغول بصورته. يريد أن يرى نفسه ويتأملها باعتبارها موضوعًا. وتختلف أشكال التصوير في كل ثقافة. ففي الثقافة العربية -مثلًا- عُرفت الصورة الشعرية في أغراض الشعر المختلفة. ولعلّ أشهرها شعر المديح. فقد كان الشاعر العربيّ يتقدم بنصوص رائعة إلى الممدوحين الأثرياء. وكان يحصل على المال الوفير مقابل هذا الشعر. بالتأكيد يوجد أكثر من سبب يدفع الممدوحين إلى تقديم هذه المكافآت السَّخية. ويمكنك أن تتحدث عن أسباب مختلفة منها ما يتصل بعملية الترويج السياسي والاجتماعي. ولكنك لا يجب أن تغفل هذه الرغبة العميقة التي تدفع هذا الممدوح أو ذاك إلى رؤية نفسه بوصفه موضوعًا فنيًا باقيًا على جسد القصيدة التي تتردد بسرعة على ألسنة الرُّواة.

هناك اتفاق ضمني بين الشاعر والممدوح. خلاصته: المال السّخيّ مقابل التصوير الجيد. والجيد هنا يعني الجميل المثاليّ. فلا يجب أن يكون الممدوح جميل الوجه فحسب، وإنما يجب أن يكون وجهه هاديًا منيرًا. وحين يتناول الشاعر حميد صفاته كالكرم والشجاعة والعلم مثلًا فعليه أن يصل بهما إلى الحد الأقصى. فالممدوح ليس كريمًا فحسب وإنما ينبع الغيث من بين أصابعه. وهو ليس شجاعًا فحسب. وإنما يتساقط الأبطال بين يديه ما بين صريع وجريح.. الخ.

هناك رغبة في مقاومة الزمان. والقصيدة الجيدة تفعل ذلك. ولذا فإن صورة الممدوح فيها يجب أن تبقى قوية نضرة. صورة مثالية خارقة. تبدو كأنها المثال الذي لا يُطال. وكان على الشاعر أن يفكر -دائمًا- في مضايق جديدة للقول لم يسبقه إليها شاعر آخر. بل يفكر في مضايق جديدة غير تلك التي سبق له دخولها. كان الشاعر مطالبًا أمام الممدوح بالجديد المبتكر. ولذلك كانت المبالغة لصيقة بالشعر. وكانت أداة الشاعر المسعفة في تحقيق مراده..!

فن البورتريه

وتتسع الأمثلة على هذه المعاني من فنون إلى أخرى. ولعل أشهرها وأقربها إلى موضوع هذه المقالة “فنّ البورتريه” أي صورة الوجه. فقد ألحّ رسامو البورتريه في عصر النهضة وحتى أواخر القرن التاسع عشر على فكرة التشابه بين الصورة المرسومة وصاحبها. ولكنهم مع الوقت أيقنوا أن الناس (أو الزبائن) لا يريدون صورة تشبههم فحسب. وإنما يريدون أن يروا أنفسهم على قدر عال من الجمال والنضارة. لا يريد (الزبائن) الحقيقة الواقعية. وإنما يريدون الحقيقة الفنية. حتى قيل: “ليس من المهم أن يكون البورتريه مشابهًا للشخص. بل أن يتشبه الشخص بالبورتريه الذي يمثله”.

وأشهر مثل يضرب على هذه الحالة هو البورتريه الذي رسمه الفنان “دييغو فيلاسكيز” لبابا الفاتيكان إنوسنت العاشر عام 1650م. لقد كانت اللوحة -من حيث القيمة الفنية- رائعة الجمال. حتى إنها استولت بجمالها على كثير من الرّسامين. وأعادوا محاكاتها مرات كثيرة بأساليب وتقنيات مختلفة منذ ذلك الزمان وحتى القرن العشرين. ولكنك قد تستغرب إذا علمت أن البابا “إنوسنت العاشر” رفض تسلم صورته. فقد اعتبرها قبيحة ولا تليق به واتهم الرسام “فيلاسكيز” بأنه تعمد أن يظهر ملامح وجهه كشخص عجوز ماكر ذي نظرة وكأنه كاره لما حوله”.

هناك العشرات بل المئات من فناني البورتريه الذين أخذوا شهرة عالمية. وأسسوا لتيارات مختلفة في الرسم. ولكن البورتريه الزيتي تراجع كثيرًا أمام الكاميرا. وأمام الكامير الذكية بشكل خاص التي جسَّدتْ حلم “الجماهير الغفيرة” عبر العالم في أن تكون لهم صورٌ عديدة. تُسجِّل حالاتهم النفسية وأوضاعهم العفوية وتصاحبهم في كل مكان. لقد صار بمقدور كل منا أن تكون له سرديته الخاصة التي توثِّقها الكاميرا. وقد لا يمر يوم واحد دون أن يلتقط لك أحدهم صورة. أو دون أن يوقفك أحدهم في الطريق ليطلب منك بلطف: “ممكن تصورني..!”

فما الذي حدث؟

لقد قلبت الكاميرا عالمنا. وصار التصوير جزءًا من الوجود في العالم المعاصر بحكم القانون. فكل إنسان يجب أن تكون له عدة صور في مراحل حياته المختلفة. وذلك مما تتطلبه شهادات التعليم وبطاقة الرقم القومي داخل البلاد. وجوازات السفر خارجها، إضافة إلى كثير من الأحداث الاجتماعية المختلفة التي تلعب فيها الكاميرا الدور البطولي فيها، مثل: مراقبة الشوارع والاعتماد عليها في تحقيق الأمن والسلامة، بالإضافة إلى توثيق المناسبات المهمة مثل حفلات التخرج وأعياد الميلاد وحفلات الزواج.. الخ.

ولكننا لا نريد أن نُوثِّق حياتنا فحسب، لقد حلّت لعنة “نرجس” علينا جميعًا، وأصابتنا بشيء من شظاياها، فنحن نحب أن نصبح موضوعًا، نتأمل صورنا بأيدينا، وأن نرى وجوهنا غضّة ندية كوجه الفتى نرجس، وهذا ما أدركه القائمون على علوم البرمجيات والذكاء الاصطناعي والتحليل النفسي.. فلا تتوقف تطبيقات الكاميرا الذكية عن ابتكار الجديد والمشوق، إنها كاميرا لا تُسجّل فحسب، وإنما تجري على الصورة ما لا يُحْصى من عمليات التزيين والتحسين، فتقع في أسر وجهك، أو على الأقل تجعلك تحب صورتك، ثم تقترح عليك أن تضعها على حسابك على فيس بوك أو تويتر، لتكون عنوان “بروفايلك” وأنت لا تتردد، أنت تفعل ذلك بكل سعادة.. فأنت جميل، ووجهك نضر مشرق، وأصدقاؤك يضغطون على علامات الإعجاب الإيجابية بدرجاتها المختلفة: اللايك، والقلب الأحمر، والدعم والاندهاش..!

فمن ذا الذي لا يستهويه أن يكون موضوعًا جميلًا؟! ومن ذا الذي لا تطربه كلمات الإعجاب والاستحسان؟     

لقد بات “البروفايل” عالمك اليومي، وأصدقاؤك عليه من مختلف الفئات والأعمار والأجناس، وأنت تعيش بينهم الجانب الأكبر من يومك، رغم أنك لن تلتقي بأغلبهم طوال حياتك، ولكنهم يعرفونك جيدًا من خلال الصورة، ومع الوقت سوف تقتنع أو “تصدّق” أن هذه الصورة المُعدّلة هي صورتك، وكأنك أجريت أكثر من عملية تجميل آمنة، وبإمكانك إعادة التجميل (أي التحديث) بنفسك عشرات المرات حتى تستقر– قليلًا أو كثيرا من الوقت – على صورتك التي تحبّ أن تكون عليها.

لم يعد مهمًا أن تكون الصورة مشابهة لك تمامًا، وإنما يجب أن تكون جميلة نقية، ولا بأس من أن تتشبه أنت بها، وتنظر إليها باعتبارها أنت تمامًا.. ما البأس؟!!

لقد باتت المسافة بين الواقعي والافتراضي ضيقة إلى أقصى حد، وقد يتبادل الاثنان المواقع، فيصير الافتراضي واقعًا بالإلحاح مرّة وبالتّماهي معه مرات، وقد يؤثر الافتراضي على رؤيتك للواقع، ليس هذا فحسب، بل إن الافتراضي كثيرًا ما يكون أصدق قيلًا وأقرب إلى الحقيقة، إذ يمكنك إذا تابعت حساب أحد الأصدقاء لفترة محددوة أن تضع يدك على صورته الكاملة، أو (شبه الكاملة) أي “بروفايله” الذي يتجاوز حدود الصورة الفوتغرافية إلى أحواله النفسية والفكرية وسرديته الاجتماعية، فأنت تعرفه: إذا جدّ وإذا هزل، كما أنك تعرفه حين يتجمّل، وحين يكون على طبيعته، ما يعلّق به عند الأصدقاء، وما يردّ به عليهم.. فــ”البروفايل” ليس مجرد صورة، ولكنه الـ(حالة سردية متصلة).

لقد أعادت الكاميرا الذكية وما يتصل بها من تطبيقات فائقة التقدم إحياء “نرجس” الجميل الذي نحلم به جميعًا، لقد كان يعيش فينا بالقوة دون أن ندري، وكل ما فعلته الكاميرا الفائقة أنها استخرجته من أعماقنا الغائرة وجعلته حيًّا أمام أعيننا وعلى أطراف أصابعنا، كان هذا عملًا مدهشًا، وكيف لا، ونحن نعيش الأسطورة القديمة كل لحظة من حياتنا؟

كان اختراع الكاميرا الفوتوغرافية حدثًا مذهلًا، أو هكذا كان بعض المفكرين يتكلمون قبل عدة عقود من الآن، ولكنهم بالتأكيد سوف يعيدون صياغة العبارة إذا شاهدوا الكاميرا الذكية وما يتصل بها من تطبيقات؛ إنها تعيد صياغة التاريخ الإنساني بكل ما ينطوي عليه من قيم وأفكار وثورات وهوامش.. إنها في كل مكان وخلف كل حدث، حتى لو كان بالنسبة إلينا بسيطًا لا وزن له.. لو كان لهؤلاء المفكرين أن يتكلموا عن الكاميرا اليوم لقالوا: هذا عالم يخرج من فوهة الكاميرا، إنها لا تسجله، وإنما تخلقه، وتمنحه الألوان الجديدة..!