تنفست الصعداء مع انتهاء مباراة الأهلي والهلال السوداني بالتعادل، ذلك أن فوز الأهلي كان جالبا لمشاكل ومشاكسات علي وسائل التواصل الاجتماعي بين الشباب، نحن في غني عنها في هذه المرحلة، التي يتجمد فيه شريان التواصل التجاري والاقتصادي بين مصر والسودان، تحت مظلة بيئة يتمحور فيها المنظور الشعبي السوداني لمصر حول المكون السياسي في العلاقات الثنائية قبل ثورة السودان وبعدها، بينما المنظور الشعبي المصري للسودان يبدو هذا البعد غائبا تماما عن مدركاته العامة وينحصر في مقولات إما عاطفية تنصرف لمفردات إخوة وأشقاء أو ذات بعد اقتصادي في إقامة علاقات مفيدة للطرفين.
ومع غلق الطريق بين مصر والسودان، فإن أطرافا خارجية باتت تستثمر في الحدث على نحو يحقق مصالحها في تحقيق قطيعة وربما عداء بين شعبي وادي النيل، وتدمير لمصالحهما المشتركة، حيث يتم الانسياق فيه وراء مفردات سلبية، تتسم بعنف وقسوة، وذلك على منصات الميديا التقليدي منها والجديد، وهو استثمار هدفه الرئيسي تشويه مصر ليس على مستوى تقييم السياسات الحكومية، وهو حق للمصريين والسودانيين معا، ولكن المستهدف دائما مستوى العلاقات بين الشعبين، بما يحجم من تفاعلهم الطبيعي على المستويات الاجتماعية والاقتصادية.
صحيح أن الاحتقان في العلاقات المصرية السودانية ليس بجديد، بل هو تاريخي، وصحيح أن غلق الطريق البري بين مصر والسودان الجاري حاليا يدمي قلب الحادبين على مصالح شعبي وادي النيل، لكن أزمات التجارة والعلاقات الاقتصادية المصرية السودانية ليست بجديدة، حيث أغلقت الحدود بين البلدين، وتوقفت التجارة الحدودية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي لأسباب متنوعة، ودوما يتم تجاوز الموقف لإنه لم تكن هناك أطراف إقليمية تستثمر فيه.
مع تصاعد مخاطر الانحدار المؤسف حاليا في العلاقات بين البلدين، يبدو لي الإدراك السوداني لمصر قد تطور في المرحلة الأخيرة فأصبح قلقا من تدهور مستوى الإدراكات الشعبية السودانية إزاء مصر، لكونه يشكل خطرا على المصالح السودانية نفسها، حيث تنتبه قطاعات شعبية وسياسية سودانية حاليا لحالة الاحتقان الراهن وتحاول مقاومة خطابات سودانية قد ترقى لمستوى الكراهية ضد مصر، وذلك بوسائل مختلفة ولكنها ليست مؤثرة حتى الآن للأسف، وربما أحد أهم أسباب ضعف التأثير، أن القائم بعملية التقييم، ومحاولة التصحيح لحالة العلاقات الثنائية هو نفسه أسير لمدركات تاريخية سودانية سلبية لا ظل لها من واقع حاليا، ولعلي أسوق هنا كحالة تطبيقية مقالا للأستاذ والصديق الكاتب المرموق عثمان ميرغني، الذي تمحور إدراكه لدعوتنا بشأن التعاون المصري السوداني على المستوى الاستراتيجي، أنه مجرد رد فعل من القاهرة، باعتبار أنها لم تعد قناة اتصال السودان بالعالم ولا بوابته للعواصم المختلفة، وذلك بسبب اهتمام العالم بالموارد السودانية، وطبيعة موقعه الجيبولتيكي المؤثر على المصالح والحالة التنافسية العالمية، وهي أوضاع فيما يرى الأستاذ عثمان قد تكون محل حساسية من النخب المصرية.
هذا الطرح يغذي التيار الشعبوي المضاد لمصر وخطاباته، كما أنه يتجاهل للأسف أن السودان ومنذ تسعينيات القرن الماضي، بلور واقعيا أجندة خاصة به طبقا لمفردات النظام الحاكم الإسلاموية، حيث رتب علاقاته بدول شرق أفريقيا لدعم التيارات الإسلاموية فيها، كما أن السودان استدعى منفردا ولأول مرة إيران للبحر الأحمر، ومارس تهديدا للنظام العربي كله، كما أنه أسس لعلاقات السودان الأمريكية المنفردة قبل عقدين تقريبا حينما سلم عبدالله جوش رئيس جهاز المخابرات السوداني ملفات الإسلامويين السودانيين والعرب، للمخابرات الأمريكية، ومارس علاقات ثنائية مع دول الخليج مجتمعة ومنفردة طبقا لمصالحه الخاصة، دون أى اعتبار للمصالح المصرية، ولا حتى مصالح الدولة السودانية ذاتها. هذه الأدلة هي غيض من فيض على استقرار القرار السوداني وهندسته لمصالحه بمعزل عن القاهرة، وهو مايثبت أن مفردات التحليل هنا بغضب أو حتى حساسية مصرية بمتغيرات في التموضع السوداني خاطئة ولا تحقق الهدف الذي يطرحه عثمان ميرغني هو تحسين الإدراكات السودانية لصورة مصر.
وبسبب هذا النموذج سالف الذكر فإنه في العامين الأخيرين لم تلتقط النخب السودانية تطورا محدودا في الموقف المصري الرسمي من السودان، حينما قالت القاهرة إنها تحترم خيارات الشعب السوداني بعد ثورة ديسمبر، وكان هذا التطور فرصة لتحسين الموقف الرسمي المصري عبر الحوار المشترك، وممارسة التفاعل المطلوب من جانب القوى السياسية السودانية مع الطرح المصري، لتطويره وجعله سندا للانتقال الديمقراطي، ولكن بدلا من ذلك انشغلت القوى السياسية بخلافاتها، منتجة انقساماتها، ومتوقعة أن تكون القاهرة أو غيرها من العواصم العربية سندا لها، وذلك بغض النظر عن حالتها الذاتية غير المشجعة .
في هذه الأيام يتطور الموقف الرسمي المصري أكثر إزاء السودان، وإزاء محاولات الشعب السوداني الجادة والملهمة لإنجاز تطورا ديمقراطيا، ذلك أنه طبقا لتقارير صحفية سودانية، وبيانات لأحزاب سودانية، فإن وفدا مصريا رسميا قد زار الخرطوم مؤخرا، وعقد لقاءات مع القوى السياسية المدنية، وحدد الهدف السياسي للقاهرة حاليا، في الحرص على عدم انفراط عقد الدولة السودانية، وضرورة استقرارها بغض النظر عمن يحكمها وكيف يحكمها، وأن القاهرة باتت تدرك أن التنوع السوداني مغاير للحالة المصرية، وبالتالي، نظم الحكم لا يمكن أن تكون لا متشابهة ولا واحدة .
بطبيعة الحال، فإن مصداقية الموقف المصري قد تجد من يشكك فيها، على الساحة السودانية، ويتجاهل حقائق على الأرض منها أن حكومتي الثورة السودانية قد تلقت دعما لوجستيا من القاهرة، على المستوى الصحي سواء لمواجهة كرونا أو للدعم الدوائي، بل إن القاهرة قد طرحت مشروعات للبنية التحتية في مجال الطرق كان من شأنها تطور البنية التحتية السودانية، وزيارة وزير النقل المصري كامل الوزير خير شاهد على وضوح هدف الدعم التنموي المصري للسودان على المستوى الرسمي واستعدادها لتمويله، كما أن زيارات رجال أعمال مصريين أمثال حسن هيكل لتطوير البنية التكنولوجية كانت محلا لاهتمام عبدالله حمدوك رئيس الوزراء وقتذاك.
في المقابل، فإن إثيوبيا قد ضغطت على حكومة الثورة الأولى وقت الملء الأول لبحيرة سد النهضة لدرجة توقف محطات الشرب والكهرباء السودانية عن العمل، ولم تعر أديس أبابا اهتماما كبيرا، لمسألة نصرة الحكومة الثورية، رغم خطابات آبي أحمد الداعمة للتطور الديمقراطي في السودان.
الشاهد، نحن نحتاج في مصر والسودان أن نطور الموقف الرسمي للقاهرة أكثر فأكثر، نحو دعم القوى السياسية الديمقراطية في السودان، ولن يكون ذلك إلا بالحوار والتعاون البناء، والابتعاد عن خطابات الكراهية، مستغلين في ذلك بل وموظفين مخاوف الدولة المصرية على المستوى الرسمي من انفراط عقد دولة السودان.
ربما يمكن عبر هذا الحوار والتعاون إسناد مبادرة سودانية منتجة داخليا ومتوافق عليها، لاستئناف العملية السياسية الانتقالية المفضية إلى الانتخابات، وذلك بدلا من نفق المبادرات الدولية التي أصبحت تشكك في إمكانية عقد الانتخابات ذاتها طبقا لما قال به فولكر رئيس البعثة الأممية، وطبقا لمخرجات بعثة منظمة الإيجاد التي نصحت بتشكيل لجان متعددة المستويات، لم يبد لي أنها واضحة الهدف.
وربما يمكن عبر هذا الحوار تدعيم شراكات استراتيجية على أسس ندية ترفع مستوى جودة الحياة للشعبين المصري والسوداني .
ويبدو أننا نحتاج لإنجاح ودعم الخطوة الرسمية المصرية إلى تجاوز خطابات سلبية، سودانية صادرة عن أقلام سودانية عاشت بين ظهرانينا لسنوات (تأكل عيشنا وملحنا) تجاوزت للأسف في خطابها نقد السياسيات المصرية الرسمية (وهو حق)، إلى التشكيك في مواقف من يساند السودان وتجربته من المصريين، وتجاهلت حقيقة أن أي قصة نجاح للانتقال الديمقراطي ذات مصداقية في المنطقة العربية، وأفريقيا هي سند لقصص أخرى قد تكون قيد التبلور.
وأخيرا عليّ أن أعترف أن عنوان هذا المقال هو ملكية فكرية لمجموعة مصرية سودانية مستقلة على الواتس آب تسعى عبر حوار موضوعي أن تنقي ماعلق بنهر علاقات أولاد النيل في مصر والسودان عسى أن يتسع لجميع أبناء النيل أينما كانوا مستقبلا.