تعرف مصر أشكالا عديدة من زواج الأطفال المنتشر بالريف تحت اسم “المبكر” دون السن القانونية. وكان أهل الفتاة يحررون شهادة صحية برفع أعمارهن للحد المسموح به (18 عاما). ومع تشديد الدولة إجراءاتها بوقف إصدار هذه الشهادت لجأت أسر للتحايل بإشهار الزواج دون توثيقه وتحرير أوراق عرفية بين الطرفين توضع على سبيل الأمانة لدى أطراف محايدة لحين الوصول لفترة البلوغ.
أسهم الخطاب الذي يرى المرأة مصدرا للشهوات يجب تحجيمها للحفاظ على عفتها في انتشار الظاهرة. لكن هذه الطرق التي تحمل صفة شرعية للزواج لكونه مشهرا في الحقيقة تسقط الحقوق القانونية للفتاة والطفل حال حدوث انفصال. فلا يتم تسجيل الأطفال ولا ترث المرأة حال وفاة الزوج. وفي حالات كثيرة يرفض الزوج الاعتراف بالأبناء. خاصة إذا كان العقد مع أجنبي فيما يعرفونه باسم الزيجة “السياحية”.
يشير آخر مسح ديموجرافي صحي للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء إلى أن هناك 117 ألف طفل في الفئة العمرية من 10 إلى 17 عاما تعرض للزيجة قسرية وفقا لتقرير صندوق الأمم المتحدة للسكان.
الزواج والحياة المشتركة
وتزويج القاصرات أحد أشكال العنف ضد المرأة وعدوان صارخ على حقها في الحياة وانتهاك لبراءة الطفولة. وله آثار اجتماعية خطيرة كالتسريب من التعليم وتفشى الأمية وتدني الصحة الإنجابية وتكريس الفقر في الأسر الناشئة عن التزويج المبكر.
“شهْد جمعة” فتاة قروية من محافظة الفيوم تزوجت في سن 13 من شاب يكبرها بـ15 عاما. منفصل عن زوجته الأولى وله طفلة منها. فيما تعيش شهد مع أسرة زوجها في حياة مشتركة ببيت واحد. وأنجبت طفلين توأمين وأصبحت أما ومسؤولة عن رعاية أسرتين وثلاثة أطفال وهي دون الخامسة عشرة.
تروي “شهد” أن ظروف أسرتها المادية هي التي دفعتها لتزويجها هي وأخواتها البنات الثلاث في سن مبكرة لتخفيف الحمل عن كاهل الأسرة.
تقول: تزوجت وأنا في الصف الثاني الإعدادي لأن زوجي تكفل بكل نفقات الزواج. لم يكلف أسرتي شيئا في الجهاز. حيث دفع مهرا 50 ألف جنيه لوالدي وقام هو بشراء العفش كله والأساس.
تستكمل “شهد”: تعهد زوجي بمواصلة تعليمي وتمكنت من حضور الامتحانات والحصول على الشهادة الإعدادية. لكن لم أستطع مواصلة التعليم خاصة بعد حملي في توأمين فاضطررت لترك الدراسة.
تشير إلى أنها تعاني مع طفليها الصغيرين لأنهما ولدا في فترة مبكرة -بداية الشهر الثامن- لتدهور حالتها الصحية وعدم قدرتها البدنية على استكمال الحمل. مما تسبب في نقص نمو أطفالها وأصيب أحدهما بفيروس رئوي حتى الآن.
إعادة إنتاج المأساة
كانت “م.ع” تعيش مع أسرتها في غرفة واحدة مع خمسة أخوات بنات وأم وأب في منطق عزبة “خير الله” بمصر القديمة. وكانت تعمل وهي صغيرة ببيع الحلوى والمناديل. وعندما اشتد عودها عملت في أحد مصانع الملابس بالمنطقة المحيطة. فيما كان والدها يضربها بعنف ويأخذ أجرها اليومي هي وشقيقاتها فلجأت للزوج في سن مبكرة للهروب من ظلم أسرتها. لكنها لم تكن تعلم أن حياتها ستكون أسوأ من ذي قبل. حيث كان يعمل زوجها ببيع المخدرات وتم القبض عليه وحكم بحبسه 7 سنوات.
واستكملت رحلة الهروب من ظروفها الصعبة لتترك بنتيها الصغيرتين برفقة أم زوجها وتهرب. لكن الحماة توفيت بعد عامين من حبس ابنها. فيما تواجه الطفلتان الصغيرتان الحياة وحدهما دون عائل. وهما دون سن المدرسة. فعطفت عليهما إحدى الجارات من أهل الخير وتكفلت بتربيتهما واحتوائهما في بيتها.
تقول السيدة فوزية إبراهيم -التي روت لنا القصة: اضطريت أربي البنتين عشان خفت عليهم من التشرد بعد ما سابتهم أمهم واتجوزت واحد تاني بعد ما انفصلت عن جوزها الأولاني المحبوس. ومانعرفش عنها شيء فخفت على البنتين من ولاد الحرام”.
يشير صندوق الأمم المتحدة للسكان في تقريره إلى أن زواج الأطفال يمثل مأساة للفتيات في سن صغيرة. ويجعلهن أكثر هشاشة وفقرا وتهميشا. لافتا إلى أن هذه الظاهرة تحبس الطفلات-الزوجات وأسرهن في حلقة من الفقر يمكن أن تستمر من جيل إلى جيل. كما أن الغالبية العظمى من هؤلاء الفتيات يواجهن العنف. حيث يُجبرن على ترك المدرسة ويتم الضغط عليهن لإنجاب أطفال في سن مبكرة.
تفاقم الظاهرة اجتماعيا
تسهم المهور في تعقيد هذه المسألة. فالأموال المدفوعة يعد عامل جذب للإقبال على هذه العادة السلبية. وفي المناطق التي تدفع فيها أسرة العريس للعروس مهرا كبيرا يسارع الوالدان اللذان تكون ظروفهما صعبة بدفع بناتهما للزواج لتخفيف العبء عنهما.
الدكتورة سامية قدري -أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس- أرجعت انتشار الظاهرة في مصر خاصة بالريف إلى اعتقاد هذه الفئات أن تزويج الفتاة يحافظ على عفتها. فيما يعرف بـ”السترة” أول ما تظهر عليها علامات البلوغ تبدأ رحلة البحث عن عريس لتحجيم شهوتها ومحاصرتها بحجة الخوف عليها.
من ضمن الأسباب الرئيسية في تفاقم الظاهرة أيضا وفقا لسامية قدري ارتفاع حدة الفقر بالعشوائيات والمناطق الفقيرة. مبينة أن هذا النمط ساد في فترة الثمانينيات وارتفع في التسعينيات القرن الماضي زواج المصريات من العرب بحثا عن المال لتحسين أوضاعهم الاقتصادية. واعتبرته انتهاكا صارخا لحقوق المرأة وسلامتها النفسية والجسدية لما ينتج عنه من آثار على صحتها بدنيا واجتماعيا.
أيضا من بين هذه الأسباب تدني فرص التعليم وارتفاع الأمية بين النساء وارتفاع نسب التسرب من التعليم خاصة في الريف.
ومن أبرز العوامل في انتشار زواج القاصرات في رأيها سيطرة الخطاب الديني المتشدد الذي عزز ممارسة هذة العادة السلبية. حيث يرى هذا الخطاب الأنثى مجرد جسد ومصدرا للشهوات يجب السيطرة عليه وحجبه. لافتة إلى أن هذا الخطاب يلقى قبولا عند البسطاء من قليلي التعليم وينجح في إقناعهم بأن تزويج الفتاة في سن صغيرة عادة إسلامية وسنة يجب الاحتذاء بها.
الزواج السياحي
يعرف تزويج الأجانب بفتيات صغيرات بـ”المتعة أو السياحي”. ويتم عبر وسيط يقوم بانتقاء بعض الأسر الفقيرة لابتزازها لإرضاء شهوة المال. حيث تدفع هذه الأسر بإحدى بناتهم في شباك السمسار لتحسين وضع الأسرة المادي وتربية باقي الإخوة.
ويعد الفقر والجهل وعدم تطبيق القانون أهم أسباب تزايد الظاهرة واستمرار ممارستها. لكن تتعرض الفتاة لخطورة تركها معلقة دون طلاق. وفي حالة الإنجاب لا يمكن نسب الأطفال لعدم عمل عقود رسمية.
وتمتد هذه الظاهرة في العديد من دول المنطقة العربية. خاصة في أوساط الطبقات الفقيرة التي يرى كثير من أسرها أن تزويج ابنتهن القاصر لرجل ثري يكبرها كثيرا بمثابة وصفة لتحسين وضع العائلة وفقا لتقرير صندوق الأمم المتحدة.
ويعد اليمن واحدا من البلدان العربية التي ينتشر فيها تزويج القاصرات على نطاق واسع بنسبة 14% يتزوجن تحت سن 15 عاماً. و52% تحت سن 18 عاما. وهو ما يجعلها تشهد 8 حالات وفاة يومياً لقاصرات بسبب التزويج المبكر والحمل والولادة.
وفي سوريا تشير منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف” إلى ارتفاع نسب الزواج المبكر بسبب ظروف الحرب. بينما تسجل النسبة في المغرب 37 ألفا سنويا.
ومع تفشي جائحة فيروس كورونا يرجح التقرير أن تزداد هذه الأرقام بنسبة 13% خلال العشر سنوات القادمة.
إخفاق تشريعي
المحامية وعضو جبهة نساء مصر دعاء العجوز وصفت زواج الأطفال بأنه “زواج الصفقات” ويعد من أشرس أنواع الزواج. حيث يهدف لـ”المتعة”. وهو قائم على وسيط أو سمسار غالبا ما يكون محاميا. يبحث عن أسرة فقير يستطيع تغريرها بتزويج إحدى فتياتها لبعض الرواد العرب أو أجانب بمقابل مادي كبير بحجة أن ذلك سيخرجهم من دائرة العوز.
وذكرت “دعاء” أن القانون رقم 64 لسنة 2010 أدرج مثل هذا الزواج تحت بند الاتجار بالبشر. لكن العقبة تكمن في عدم تطبيق القوانين على من يقوم بمثل هذه الأفعال. وذلك لأن هذه الأوراق العرفية المحررة بين أجنبي وولي الأمر تثبت أنه استغل الطفلة استغلالا جنسيا يحاكم عليه القانون مدة لا تقل عن 5 سنوات طبقا للمادة 291 من قانون العقوبات بقانون الطفل. مشيرة إلى نص المادة 116 مكرر من قانون الطفل رقم 126 لسنة 2008. يضاعف العقوبة إذا ما وقعت الجريمة على طفل “يزاد بمقدار المثل الحد الأدنى للعقوبة المقررة لأي جريمة إذا وقعت من بالغ على طفل. أو إذا ارتكبها أحد والديه أو من له الولاية أو الوصاية عليه.
ثغرات القانون
تذكر أن القانون يعاقب الولي والمأذون والشهود وأن تزويج القاصرات يندرج تحت قانون الاتجار بالبشر. لكن لا يوجد في أي مادة عقوبة للزوج الذي تزوج من الفتاة الصغيرة. حيث تعطى فرصة لأي شخص أن يتزوج عرفيا بقاصر دون خوف من عقاب. خاصة أنه يتم تعديل الصفة أمام النيابة تحت بند العادات والتقاليد الاجتماعية السائدة ويتم إخلاء سبيل الأب لاعتبارات إنسانية مما يضر بحقوق المجني عليها.
وأوضحت أن العقد العرفي غير المثبت رسميا بقسيمة زوج يسقط حق الزوجة في النفقة والمتعة والميراث حال الوفاة. ويسقط حق الأبناء في النسب دون رفع قضية نسب حال امتنع الأب عن الاعتراف بهم بعد الانفصال. أما إذا كان الزوج أجنبيا لا يمكن تسجيل الأبناء لعدم وجود بيانات حقيقية عنه أو وجد تصاريح رسمية من وزارة الداخلية بعد وقف وزارة العدل عمل صحة توقيع على مثل هذه العقود للحد من انتشارها فلا يمكن إثبات الأطفال في هذه الحالة.
وقالت إن الغالبية من العرب يلجؤون إلى هذه الإجراءات للتحايل على الشريعة بأنه لا يرتكب محرمات بإقامة علاقة خارج إطار الزواج. مبينة أن مثل هذه الزيجات تندرج تحت زواج “الاستمتاع”. وهو محرم أيضا شرعا. ووصفته بأنه عملية شراء واصطياد فريسة تحت مظلة الزواج المغرض المضلل.
أضرار نفسية واجتماعية
هناك العديد من المشكلات الاجتماعية للزواج المبكر. منها انفصال الفتاة القاصر عن زميلاتها وصديقاتها في المدرسة. كما أنها تتأخر معرفيا عنهم. فضلا عن تعرضها للاستغلال والعنف المنزلي. حيث تكون غير مُدركة لحقوقها وصحّتها الجنسيّة والإنجابيّة في عُمر لا يزال فيه جسدها في طور النمو.
الدكتور أشرف سلامة -إخصائي الصحة النفسية- يقول: إجبار الفتاة القاصر “الطفلة” على ممارسة العلاقة الحميمة بعد تزويجها قد يصيبها بالاضطرابات النفسية مثل اضطراب ثنائي القطب واضطراب الاكتئاب والوسواس القهري وفصام الشخصية.
وأضاف: “قد يؤدي ذلك إلى فتور في العلاقة على المدى البعيد ويسبب الانفصال. لأن الزيجة غير المبنية على علاقة تفاهم وتقارب فكري بين الطرفين. بالتالي سينتج جيل جديد من المشردين والمضطربين نفسيا”. وأشار إلى أن الزواج غير المتكافئ في المراحل العمرية كأن تتزوج الفتاة بمن يكبرها بــ40 عاما يخلق عقدا نفسية لدى الفتاة. حيث يلجأ الزوج إلى حبسها وإبعادها عن المحيطين بدافع الغيرة. مما يعزز الشعور بالوحدة والقهر والظلم الاجتماعي. ويجعلها تخرج هذه الشحنات السالبة في الأجيال الجديدة الناتجة عن هذا الزواج.
أيضا يخلق الأمر عقدا جنسية لدى الفتاة. حيث لا تستطيع الإفصاح عنها إلى الأهل. ما يدفع بعض الفتيات لدخول علاقات أخرى لتعويض النقص الذي تشعر به بفعل فارق السن الكبير بينها وبين “زوجها”.
ويشير صندوق الأمم المتحدة في تقريره إلى أن المراهقات المتزوجات عادة لا يستطعن التفاوض في ما يتعلق بالجنس. أو استعمال وسائل منع الحمل. الأمر الذي يجعلهن عرضة للحمل المبكر. إضافة للأمراض المنقولة جنسياً بما في ذلك فيروس نقص المناعة البشرية.
مواجهة المجتمع
الكاتبة الصحفية سكينة فؤاد ترى ضرورة صناعة حملة إعلامية متكاملة تشارك فيها مؤسسات الدولة. فضلا عن عمل دراسة لتحديد خطاب موجه وفاعل يؤثر في الفئات المستهدفة لرفع الوعي وتغيير الثقافات والعادات المتوارثة الضارة وعلي عدم إقحام القاصرات في هذه الظاهرة.
ولفتت إلي ضرورة استخدام المؤثرات الاجتماعية الأخرى في رفع الوعي. ومنها الفن والخطاب الديني الذي يؤكد أن عفة البنت ليست في تزويجها أو سترتها كما يعتقد البسطاء لكن في تحصينا بالمبادئ والقيم ورفع مستوها التعليمي.
وتطالب بوضع آليات للوصول إلى الفئات المستهدفة من هذا الخطاب عبر مراكز الشباب والمساجد والكنائس وقصور الثقافة والوحدات الصحية بالقرى. وكذلك تدريب مجموعة من الرائدات الريفيات والمرشدات على كيفية التعامل مع هذه الحالات وإقناعها بخطورة المسألة على الفتاة والمجتمع. وإذا فشلت يتم الإبلاغ عنها ووضع محفزات لهذه الرائدات لتشجيعهن على الإبلاغ والمواجهة. فيما أكدت ضرورة مواجهة الفقر بخلق فرص عمل لقطاعات كثيرة تعاني.
دور القومي للمرأة
وصفت سناء السعيد -عضو البرلمان المصري والمجلس لقومي للمرأة- تقرير صندوق الأمم المتحدة للسكان عن مصر وارتفاع نسب زواج الأطفال بأنه غير منصف. لأن المؤشرات المحلية تشير إلى تراجع الظاهرة بشكل كبير بتشديد الإجراءات وفرض عقوبات على المشاركين فيها.
وقالت لــ”مصر 360″ إن المجلس عبر 27 فرع بالمحافظات يعمل بالتعاون مع عدد من الجهات كوزارة العدل والداخلية والصحة والقومي للأمومة والطفولة على خطة لتحجيم الظاهرة والحد منها وتفعيل وحدات الإبلاغ عن أي حالات وتفعيلها لحظيا.