تحتفل الكنيسة القبطية في منتصف فبراير/شباط من كل عام ولمدة أسبوعين بنهضة شهداء ليبيا. إذ تعمد الكنيسة إلى إحياء ذكرى ٢١ قبطيًا ذبحوا على يد تنظيم داعش في ليبيا عام 2015. عبر إقامة الصلوات والقداسات في كنيسة قرية العور مسقط رأس الشهداء بسمالوط. بالإضافة إلى اجتماعات روحية أخرى في كنائس قبطية في مصر والمهجر.
السؤال هنا ما سر احتفال الكنيسة بالشهداء رغم وحشية ذبحهم إلى الحد الذي دفع المجمع المقدس. لتخصيص ذكرى رحيلهم كيوم لشهداء الكنيسة في العصر الحديث وهو الأمر الذي يترجمه لاهوت الاستشهاد أو عِلْم المارتيرولوچي.
ماذا يعني علم الشهداء؟
في كتابه الاستشهاد في فكر الآباء يقول القمص اثناسيوس فهمي جورج إن الاستشهاد في المسيحية له فلسفة روحية عميقة. تستنِد إلى حياة روحيَّة إنجيليَّة، وقد عالج آباء الكنيسة تلك الفلسفة التي تعلَّق بها المسيحيون من جميع الطبقات والثقافات والأجناس والأعمار. مضيفًا: “يضُم عِلْم المارتيرولوچي دوافِع الاستشهاد وفلسفته الروحية العميقة. لا كفكرة طارِئة ساذِجة اعتنقها بُسطاء المسيحيين، لكن كقصة مرتبطة بانتشار المسيحية”.
ويصف القمص اثناسيوس علم المارتيرولجي قائلًا: “إنه العِلْم الذي يفوح منه رائِحة مِسْك هؤلاء الشُهداء وعِطْر آلامهم. فيتناول سِيَر الشُّهداء وأعمال شهادتهم وأقوالهم وأدعيتهم وعذاباتهم وفِئاتهم. وموقِف الكنيسة من الاضطهاد، وسلوك المسيحيين في الكنيسة الأولى كما يتناول هذا العِلْم الآبائي تطور مفهوم الشهادة. وموقِف المسيحيين وسط العالم في حُقبة الاضطهاد، وكيف أعدَّت الكنيسة أولادها للاستشهاد. وبالجملة كل ما يخُص الأدب الاستشهادي.
أما مارك فليبس الباحث في اللاهوت الأرثوذكسي فيقول: “لم يكن استشهاد الواحد والعشرين قبطيًا في ليبيا مشهدًا تمثيليًا لأحد قصص السنكسار( كتاب سير القديسين الأرثوذكس). بل كان فيضًا طبيعيًا من ذخيرة الاستشهاد الحية ليس فقط في عقيدة وتاريخ الكنيسة. بل في الوجدان القبطي في أعمق أعماقه”.
ووفقا لمارك فإن الاستشهاد يمثل للقبطي القصة الأبدية لذلك الموت الذي يستحيل إلى حياة. والصليب الذي يصير قيامة، وهو بالنسبة له –كمصري– امتدادًا ليقين البعث والخلود. فبدلًا من تصويرات الفراعنة العظام بحكاياتهم وانتصاراتهم ومومياواتهم المحنطة التي ستُنفخ فيها الروح من جديد يومًا ما. يحدق القبطي باستمرار في أيقونات المئات من الشهداء الذين يذكرونه بذلك اليقين دومًا. وبدلًا من بناء المقابر العظيمة فوق جثث الفراعنة. يبني القبطي مذبح كنيسته فوق رفات الشهداء، وبدلًا من كرنفالات النيل والحصاد. يحول القبطي وليمة الأنامنيسيس (أي الذكرى، وهو اجتماع كنسي كان يُمارس في الكنيسة الأولي تذكارًا للشهداء) إلى موالد ومواسم احتفالية. بنفس الشحنة الوجدانية عن أمنيات تجدد الحياة وقيامها من الموت
لماذا تسمى الكنيسة القبطية بأم الشهداء؟
أشار مارك إلى أن الكنيسة القبطية تلقب بأم الشهداء. موضحًا أن لقب “أم الشهداء” لم تنله الكنيسة القبطية من كثرة المذابح الجماعية في العهد الروماني. لا بسبب القائمة الطويلة لشخصيات شهدائها، بل لتغلغل فعل الاستشهاد (الموت الحي، أو الذي يُفضي إلى حياة) داخل وجدان أبنائها. للدرجة التى يُعلنون فيها استعدادهم للدخول في عصر استشهاد جديد أو للحد الذي يقفوا فيه بكل هذا الحبور والثبات أمام سيوف داعش وأعلامها. مؤكدا: مسألة الاستشهاد ليست من تراث الماضي. بل هي ذخيرة روحية ووجدانية حية مستعدة للنهوض متى سنحت لها الفرصة.
بلغة أقرب إلى مفردات المتصوفة يقول القمص اثناسيوس جورج: “لقد كان الاستشهاد شرارة مُنيرة، أُلقِيَت في أعماق نِفوس الآباء الداخلية. فاشتعل الحب فيهم، وصار العِشق الإلهي لهيبًا، يجتذِبهم إلى جماله غير المنطوق به، ليجعلهم شُهودًا وشُهداء. فحملت كنيستنا أمام العالم سِمَة التَّعدُّد والتنوع، ووقفت أمام العالم كابنة الملك المُلتحِفة بثِياب مزركشة. تُقدِّم شهادِة الدم التي كتب عنها آباء الكنيسة ومُعلِميها، لتلمس أوتار كثيرة لقلوب الكثيرين. بعد أن جاءت أعمال الشُهداء أمثلة حيَّة في الدفاع عن الإيمان المسيحي بكل مجاهرة. وكتب لنا عنها مُعلِّمو البيعة المُقدسة، قائلا: “فكما تقدَّم كثير من المسيحيين من كل الفِئات والأعمار والثقافات للاستشهاد بفرح. كذلك انبرى آباء الكنيسة في الدفاع عن الإيمان، هؤلاء الآباء دُعوا بالمُدافعين The Apologists. ليردوُّا على الاتهامات ويكشفوا ضلال الوثنية وجمال روحانية المسيحية”.
وعن الاستعداد للاستشهاد يوضح القمص أثناسيوس أن الكنيسة ركزت في تعاليمها على تدريب أبنائها على فكر الاستشهاد. معتبرًا كثرة الصوم والنسك أحد أبرز هذه التعاليم، متسائلا: كيف لنفس لم تتدرب على الجوع لأجل الله أن تسفك نفسها لأجله. وأكد قائلا: “كنيستنا علمت العالم كله الرهبنة لذلك هي أم الشهداء الذين تعلموا الجهاد الروحي. فلا يخشون أي عدو خارجي لأن الانتصار يبدأ من داخل النفس”.
النيروز عيد الشهداء
لم يقتصر احتفاء الكنيسة القبطية بالاستشهاد على هذا الحد بل امتد إلى التقويم الكنسي الذي يحتفل بعيد النيروز الملقب بعيد الشهداء. وهو ما يفسره البابا تواضروس الثاني بقوله: “هو عيد نحن ننفرد به بين كل كنائس العالم، نحتفل به امتدادًا من الحضارة الفرعونية القديمة. كانت الحضارة الفرعونية حضارة غنية وكان لها تقويما خاصا بها، وعندما أتت المسيحية في القرن الأول الميلادي على يد القديس مارمرقس الرسول. واستشهد في مدينة الإسكندرية ونالت الإسكندرية الإيمان بالمسيح وصارت أول كنيسة في قارة أفريقيا تنال هذا الإيمان. وعاش المسيحيون في مصر عصورًا كثيرة وكان من أشدها عام 284م وهو العام الذي اعتلى فيه الملك دقلديانوس عرش الإمبراطورية الرومانية. وكان طاغية ومضطهدًا شديدًا للمسيحين، على يديه استشهد المئات ويقال في زمنه استشهد حوالي 800 ألف مسيحي في مصر وخارج مصر. ولأن تاريخه كان حاسمًا في مسيرة المسيحية على أرض مصر اختار الأقباط السنة التي اعتلى فيها العرش 284م. وجعلوها بداية السنة القبطية الجديدة”.
وأضاف: “:نحن نحتفل بعيد الشهداء قد نظن أنه عيدًا قديمًا. ولكن الله أنعم في الأزمنة المعاصرة أن نسمع عن وجود شهداء وأن نراهم ونعرفهم. فصار هناك شهداء معاصرين ولذلك اختارت الكنيسة أن تعيد مرة أخرى للشهداء الجدد واختارت يوم (15 فبراير/أذار) من كل عام. وهو تذكار دخول السيد المسيح إلى الهيكل واختارت هذا اليوم لأنه تذكار شهداء ليبيا”.
فيما كتب الفيلسوف يوستين عن تأثُّره العميق الذي انطبع في نفسه من رؤيِة الشُهداء المسيحيين فقال: ”في الوقت الذي كنت أستمتِع فيه بمبادِئ أفلاطون. وفي الوقت الذي كنت أستمِع فيه إلى المتاعِب التي يتكبدها المسيحيون، قلت لنفسي: حيث أني رأيتهم لا يرهبون الموت حتى وسط الأخطار التي يعتبِرها العالم مُرعِبة. فمن المُستحيل أن يكونوا أُناسًا يعيشون في الشهوة والجرائِم“.
وقال عن نفسه: ”لقد طرحت جانِبًا كل الرغبات البشرية الباطِلة ومجدي الآن في أن أكون مسيحيًا، ولا شئ أشتهيه أكثر من أن أواجِه العالم كمسيحي“.