“الحقيقة تخرج من فم الأطفال”.. مثل فرنسي شهير، يشير لطبيعة بشرية مهمة، فالصغار عادة لا يعرفون المجاملة أو الكذب، صدقهم لاذع، وصراحتهم موجعة، تجلت هذه الصراحة في كثير من الأوقات العصيبة التي يمر بها الجميع هذه الأيام، فمنذ انتشار أزمة كورونا في مصر منتصف مارس الماضي حدث خلل بحياة معظم الأطفال، زلزال عنيف سلبهم متعًا كثيرة، ربما سيؤثر على حياتهم وسمات شخصياتهم في المستقبل.
تعطلت الدراسة، وأصبحوا في عطلة مفتوحة، كما أغلقت الأندية الرياضية، ولم يعد يسمح لهم حتى بالنزول من المنزل إلا قليلًا، ليس هذا فحسب، بل نصح جميع الأطباء بوقف الزيارات العائلية، وتعالت الأصوات والنصائح بمنع التلامس، حتى الحضن بين الطفل وأمه أو أبيه أصبح مخاطرة مجهولة النتائج، ربما لا يخرج منها الطرفان بصحة جيدة، ومن المتوقع أن يستمر الوضع حتى سبتمبر المقبل مع عودة الدراسة، فرغم خطة التعايش التي أعلنت عنها الدولة لرجوع الحياة إلى طبيعتها، إلا أن فئة الأطفال لم يأتي وقت تعايشها بعد، ومن المتوقع أن يبدأ فعلياً مع بداية العام الدراسي في سبتمبر المقبل، أي بعد انقطاع ما يزيد عن 6 أشهر عن العالم الخارجي، عن لمس الآخرين، عن الانخراط في أعمال جماعية، عن الضحك واللعب وأشياء أخرى، فكيف سيعودون كما كانوا؟.
احتياج عاطفي
نشرت مجلة العلوم الألمانية دراسة مهمة مطلع عام 2015 كانت تدور فرضيتها حول كم احتياج الأطفال للتلامس والاحتواء العاطفي لكي ينشأوا أسوياء؟، وقال المشرفون على الدراسة إنه بتوجيه سؤال لأشخاص بالغين عن درجة تمتعهم بلمسات حانية وعطوفة من الأهل والمقربين في صغرهم وممارسة حياتهم بشكل طبيعي به لعب وخروج ومشاركات اجتماعية مع الأهل، فكانت النتائج جميعها في صالح الذين تمتعوا باللمسات الحانية والمشاركات الاجتماعية في طفولتهم، فهم أقل عرضة للإصابة بالاكتئاب والقلق والمخاوف المختلفة، كذلك فلهم فرص أكبر في تحقيق ذواتهم، بينما كان البالغون الذين تمتعوا بقدر أقل من الأحضان واللمسات الحانية من الأبوين والعائلة والمحيطين بهم، أكثر عرضة للاضطرابات النفسية والانطواء وعدم القدرة على تقبل الطرف الآخر دائماً، كما يتسموا بقدر متدني من تقدير الذات، كما أنهم حصلوا على درجات منخفضة على مقياس الذكاء الذي أجري لهم خلال الدراسة .
تجعله قاسيًا
في مرحلة وسطى بين الملائكة والبشر يقع الأطفال على خط واحد متساويين من حيث البراءة، وفهم الأشياء بطرق حسية أكثر منها رمزية، فهم يعتمدون على حواسهم في فهم العالم المحيط بهم وتقبل ذاتهم وتقبل العالم أجمع، ولا يمكنهم إعمال حواسهم وسط عالم يمنعهم من السلام والحضن، وهو ما يسبب نقصًا شديدًا في الأحاسيس لديهم عبر عنه علماء النفس بأنه حرمان عاطفي خطير يتسبب في خلق شخص جديد يتسم بالقسوة وتبلد المشاعر، والتأخر الدراسي والوجداني، فيصعب تحريك مشاعره ويصعب على الفرد الذي ينشأ في هذه الظروف تكوين صداقات أو علاقات ناجحة مع الآخرين.
فرض عين
يقول الدكتور خالد علوي، استشاري طب نفس الأطفال بجامعة القاهرة، إن الطفل كائن ذكي بالفطرة، وعلمياً يستطيع أن يوظف كل تعاملاته الخارجية لتكوين وجهات نظر عن الآخرين ، وبالتالي فاللمس بالنسبة له أمر مهم، خاصة اللمسات الحنونة من الأبوين والعائلة، لذلك فيقع على الأسرة عبء كبير لمساعدة الأبناء على مرور هذه المرحلة بسلام، وهو فرض عليهم طالما قرروا إنجاب أطفال فعليهم مساعدتهم على الخروج للمجتمع بشكل جيد، مضيفًا أن واجب الآباء والأمهات هنا يبدأ بالملاحظة، خاصة أن استجابات الأطفال مختلفة تجاه المواقف المختلفة، فعليهم ملاحظة ملامح وجه الطفل باستمرار، متابعة متى يبتسم، ومتى يبكي، احتضانه بشكل كاف، فبعض الأطفال ظهرت عليهم أعراض الاكتئاب منذ مارس الماضي، وبعضهم الآخر ظهر في يونيو، ويرجع ذلك لسمات شخصية كل طفل، وهو ما يؤثر في تحديد ما يحتاجه الطفل في كل مرحلة .
استشاري طب نفس الأطفال بجامعة القاهرة أضاف أنه رغم التحذيرات من اللمس والمصافحة والأحضان إلا أنه من الممكن أن يأخذ الأبوان حذرهما ويتطهرا جيداً ويعقما أيديهما وأيدي الطفل ويصافحانه أو يحتضنانه من وقت لآخر، فهو أمر له مفعول سحري على الأطفال، ويساعدهم على إشباع احتياجاتهم النفسية، حتى أن بعض الدراسات أثبتت فعالية الحضن في المساعدة على الاسترخاء الجيد، خاصة للأطفال، كما أنه يساعد في تشكيل خلايا المخ لديهم، كذلك ينبغي تكثيف انخراط الأطفال مع العالم الخارجي سواء بممارسة الرياضة أو الزيارات العائلية والمشاركات الاجتماعية.
تأخر دراسي
بعد أن ثبت علمياً أنه لا يمكن أن ينفصل جسد الأطفال عن عالمهم الخارجي، وأن الإثنين معاً يشكلان شخصية كل طفل في المستقبل، يقول سلطان عبد الله، استشاري علم النفس الاجتماعي، إن الجيل الحالي الذي عاصر مأساة كورونا ستجرى عليه أبحاث عدة بعد 20 سنة، ولو تتبع أحد هؤلاء سيخرج العلماء بنتائج بحثية مذهلة، فر غم اعتماد العامل الوراثي كعامل أساسي في تشكيل السلوك البشري، يليه العامل الاجتماعي، إلا أن الأطفال الذين نشأوا في رحاب كورونا ستختلف طبائعهم عن الأجيال التي سبقتهم والأجيال التي ستلحق بهم، وسيختلفون في كل شيء، حتى المهن التي يلتحقون بها ستكون مغايرة بعض الشيء لرغبات نفس الفئة العمرية في أزمنة مختلفة.