في صباح اليوم، 24 فبراير 2022، أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بدء عملية عسكرية ضد أوكرانيا. مواجهة عسكرية محسومة مسبقًا لصالح الجيش الروسي، ثاني أقوى جيوش العالم. وقد حبست تلك الحرب أنفاس البشر جميعًا لخطورة تطورها لحرب شاملة بين روسيا والدول الغربية الحليفة لأوكرانيا، والتي عبرت مرارًا وتكرارًا عن كامل الدعم لها. إلا أن هذا الخيار ليس مطروحًا بالأساس منذ بداية الأزمة عندما قررت الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، جعل أوكرانيا وشعبها قطعة الجبن لبوتين وتستخدمها كذريعة لوقف تمدده الاقتصادي والعسكري في العالم.
خلال السنوات الماضية، تضاعف النفوذ الروسي، بشكل غير مسبوق وصل إلى حد التدخل في اختيار الرئيس الأمريكي، بجاني دعم ومساندة التيار المناهض للولايات المتحدة الأمريكية، حول العالم، تزامنًا مع صعود تاريخي للتنين الاقتصادي الصيني، وهو التحالف المرشح للعب دور القطب الكوني الثاني أمام واشنطن وحلفائها. وقد امتد هذا النفوذ عسكريًا وسياسيًا عبر العديد من نقاط الارتكاز إما مباشرة عبر صفقات السلاح والقواعد العسكرية والاقتصادية أو عن طريق ذرعها شبه العسكري المتمثل في مجموعة “فاجنر” المسلحة شبه الحكومية. وقد بدا ذلك جليًا في دعم الانقلابات العسكرية في ميانمار ومالي، بجانب دعم الأنظمة في فنزويلا وإيران وسوريا وافريقيا الوسطى، وكذلك دعم مجموعات مسلحة في ليبيا مثل ميليشيا القائد العسكري خليفة حفتر، وغيرها.
لم يكن ليستطيع بوتين أن يوصل هذا التمدد العسكري والسياسي دون نمو اقتصادي يمكنه من ذلك وهو ما قاده قطاع الطاقة الذي بلغ نحو 42% من عائدات الميزانية الروسية العام الماضي، ليبلغ حجم صادراتها منه حوالي 165.5 مليار دولار، من إجمالي صادرات بلغت حوالي 388.4 مليار دولار. لتحتل موسكو المرتبة الأولى عالمياً في صادرات الغاز والثانية في مجال البترول. كان لقارة أوروبا النصيب الأكبر في تلك التجارة، إذ أن موسكو تمدها بحوالي 40% من وارداتها من الغاز.
وفي سبتمبر الماضي، تم الانتهاء من مد خط أنابيب الغاز الجديد الواصل بين روسيا وألمانيا “نورد ستريم 2″، وهو المشروع الذي واجه معارضة شديدة من الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا وعدد آخر من دول الاتحاد الأوروبي منذ الإعلان عنه عام 2015. فالخط الجديد قادر على ضخ حوالي 55 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا، وهو ما يمثل أكثر من 50% من الاستهلاك السنوي لألمانيا من الغاز، محققاً قرابة 15 مليار دولار لشركة غازبروم، الروسية الحكومية. بجانب تضاعف النفوذ الروسي في أوروبا، وامتلاك أوراق ضغط على دول مهمة في حلف الناتو، وهو ما دأبت واشنطن على التحذير منه ومحاولة إيقافه.
على الجانب الآخر، فقد صاحب ذلك التمدد الروسي حول العالم محاولات غربية لضم الدول المجاورة للحدود الروسية إلى حلف الناتو، والذي ربما وجدت فيه واشنطن وحلفائها موازنة لمعادلة القوى وحصاراً للتمدد العسكري الروسي. وهو ما تقابله روسيا بصدامات عسكرية خشنة ودعم مناطق انفصالية عن تلك الدول الحدودية والذي أدى إلى نشوب عدة صراعات بين روسيا ودول جوارها منها أزمة جورجيا عام 2008، والتي انتهت بانفصال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا كدولتين مستقلتين عن جورجيا.
في فبراير من عام 2014 أطاحت المظاهرات الشعبية بالرئيس الأوكراني “فيكتور يانوكوفيتش” الموالي لموسكو والذي فر هاربًا إليها في 22 فبراير، وقد اتهمت روسيا الولايات المتحدة والغرب بالوقوف وراء الإطاحة بحليفها، لتبدأ مرحلة صعبة من الصراع بين موسكو وكييف. فقد تبع هروب الرئيس إعلان عدة مناطق أوكرانية الانفصال عن حكومة كييف هي إقليم القرم الذي أعلن انضمامه للاتحاد الروسي رسمياً يوم 21 مارس بعد استفتاء أجراه الانفصاليون، ومقاطعتي لوجانسك ودونيتسك (اللتين تمثلان إقليم الدونباس) التي أعلنتا استقلالهما هما أيضًا.
على إثر كل الخلافات والمواضيع الشائكة تلك، ارتفعت معدلات التوتر السياسي والعسكري بين روسيا من جهة، وأوكرانيا التي تدعمها الولايات المتحدة من جهة أخرى. وأصبحت روسيا بين خيارين، إما الموافقة على التمدد الغربي على حدودها، والذي كان يتمثل في إعادة إقليم الدونباس إلى سيادة أوكرانيا والتي كانت بدورها تقترب أكثر وأكثر من المجتمع الغربي لتكون إحدى الدول المرشحة للانضمام إلى حلف الناتو، وهو ما تراه موسكو تهديدًا أمنيًا مباشرًا لها، خاصة بعد تهديد كييف بالتسلح النووي. وقد حاولت روسيا إيقاف ذلك بما أسمته “ضمانات أمنية” قدمتها للدول الغربية وتم رفضها بدعوى أنها تنتقص من سيادة أوكرانيا وحق شعبها في تقرير الانضمام لأي حلف من عدمه.
أما الخيار الثاني فقد تمثل في إيقاف ذلك السيناريو بالآلة العسكرية الروسية التي ستبيد القدرات الأوكرانية في وقت قياسي، ولكنه سيقابل بعقوبات اقتصادية وعسكرية شديدة توقف النمو الروسي الاقتصادي والعسكري والسياسي حول العالم، حيث سيتم حرمانها من عوائد الطاقة والتزود بالتكنولوجيا وغيرها من سبل التقدم التي ستعيدها إلى بداية القرن من جديد كدولة منبوذة فقيرة تعاني من عزلة دولية. وقد اختارت موسكو الخيار الثاني وقامت بالاعتراف بدولتي لوجانسك ودونيتسك دولتان مستقلتان عن أوكرانيا تبعه الدخول في حرب مباشرة معها.
في أبريل من عام 2017، قصفت البحرية الأمريكية مطار الشعيرات السوري ب 59 صاروخًا من طراز توماهوك بواسطة مدمرتان في شرق البحر المتوسط. ردًا على هجوم شنته قوات بشار الأسد على بلدة خان شيخون قالت واشنطن إنه تم خلاله استخدام أسلحة كيماوية. وقبل ذلك القصف كانت واشنطن قد أطلعت الجانب الروسي على كامل تفاصيله بوقت كافي لسحب قواتها من الأماكن المستهدفة. كذلك فقبيل بدء المعارك العسكرية أو بالأصح “الاجتياح الروسي لأوكرانيا”، سحبت دول حلف الناتو كل قواتها من على الأراضي الأوكرانية. وتلك هي المعادلة الواضحة للجميع بتفادي وقوع أي صدام بين قوتين نوويتين الذي سيكون بمثابة حرب فناء للكوكب بأكمله.
وبذلك يدفع الآن الشعب الأوكراني ثمنًا باهظًا لوقوعه بين وحش روسي فتاك لا يعترف بسيادته ولا حقه في تقرير مصيره، وحلفاء أنذال، كانوا يعرفون جيدًا نتيجة المواجهة وعدم قدرتهم على التدخل المباشر، ليستغلوه كقطعة جبن لاصطياد الدب الروسي في مصيدة العقوبات، ثم تركوه يواجهه منفردًا متحملًا وحده الثمن من أرواح أبنائه.