لم تنجُ كنيستا روسيا وأوكرانيا من الصراعات السياسية بين البلدين وهذا التاريخ من الشد والجذب. في روسيا كيريل بطريرك الكنيسة الروسية الداعم الكبير للرئيس بوتين في بلاد تدين بالأرثوذكسية ولكن زعيمها الديني الأكبر لم يعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر كوصية إنجيلية شهيرة قالها المسيح لتلاميذه.
كان موقع الكنيسة في الحرب كمكان الظل من النور. فقد سرى عليها ما سرى في شؤون السياسة ودخلت مصطلحات السياسة إلى ساحة الرب. فانفصلت كنيسة أوكرانيا عن كنيسة روسيا. ولقب رئيسها بالانفصالي. ولعل فهم الخريطة العقائدية للروس والأوكران تتطلب عودة للتاريخ الذي يفض تلك التشابكات.
كنيسة تأسست روسيا على يد أمير كييف
يشرح ماركو الأمين -الباحث المتخصص في التاريخ الكنسي- ذلك فيقول: الأمير فلاديمير أمير كييف هو الذي يرجع إليه تعميد روسيا أو إدخال المسيحية إلى روسيا عام 988 بعد الميلاد. ويسمى باسم فلاديمير الأول عند الروس وفولوديمير عند الأوكرانيين. مضيفا: لقد نجح في تحويل إمارته (كييف روس أو روس الكييفية) إلى المسيحية الأرثوذكسية. ومنها انتقلت إلى سكان الأراضي السلافية الشرقية بعد تعميده من قبل المبشرين المسيحيين من القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية آنذاك. لتصبح كييف بعد ذلك أهم مركز ديني للسلاف الشرقيين.
يضيف: أعجب الأمير بالمسيرات الطقسية التي يسير فيها الأساقفة بملابسهم المذهبة. وبعدها عمل قسيسان يدعيان كيرلس وميثوديوس على تعميد الشعب الروسي وأسهما في تأسيس الأبجدية الروسية. ومن ثم فإن المسيحية الروسية بدأت في أوكرانيا مثل دور محافظة الإسكندرية في الكنيسة القبطية المصرية. مستكملًا: مع ظهور الاتحاد السوفييتي كانت الكنيسة الأوكرانية جزءا أساسيًا وشرعيًا من الكنيسة الروسية. ودونها يصبح الأمر كأنه اقتطاع الرأس من الجسد فتصبح كنيسة روسيا بلا رأسها حال انفصال كنيسة أوكرانيا عنها.
كيف ينظر الروس والأوكران للكنيسة في هذا الصراع؟
ولفت الأمين إلى وجود جزء من الكنيسة الأوكرانية قد انفصل بالفعل قديمًا واعتنق الكاثوليكية في زمن كثلكة روسيا. أي قبل كل تلك الصراعات السياسية. مؤكدًا أن أشهر قديسي الكنيسة الروسية خرجوا من كنيسة كييف ومع تفكك الاتحاد السوفيتي ظهرت أصوات أوكرانية تنادي بضرورة فصل الكنيسة عن روسيا رغم أنهما أبناء نفس المذهب طقسيًا وعقيديًا. فمن ناحية فإن الروس يرون كنيسة أوكرانيا جزءا أصيلا من كنيستهم لا ينبغي فصلهما. بينما الأوكران يرون أحقيتهم في الحفاظ على هويتهم الأوكرانية كمؤسسين لتلك الكنيسة.
وعن الكنيسة الأرثوذكسية فى أوكرانيا قال الأمين: تتكون من قسمين أساسيين. الكنيسة الأرثوذكسية الخاضعة لبطريركية موسكو وتضم ١٦٪ من أرثوذكس أوكرانيا. بالإضافة إلى الكنائس الأرثوذكسية المنشقة عن بطريركية موسكو وتمثل ٨٤٪. حتى إن أقدم محاولات الانشقاق عن كنيسة موسكو حدثت عام ١٩٢١ ولكن الجماعات الكنسية الأوكراني الحالية يرجع أقدمها لعام ١٩٩١ وهو العام الذي شهد استقلال أوكرانيا أيضًا.
بينما انعكست توترات العلاقات الروسية الأوكرانية واحتلال روسيا لجزيرة القرم عام ٢٠١٤ على الوضع داخل الكنيسة الأوكرانية. حتى إذا جاء عام ٢٠١٨ ليشكل محطة جديدة في هذا الصراع حين أعلن بترو بوروشينكو، الرئيس الأوكراني، بدء إنشاء كنيسة أرثوذكسية أوكرانية مستقلة عن كنيسة روسيا التي حظرت حضور أساقفة الكنائس في الأجزاء الموالية لها من أوكرانيا. أي تقليد كنسي يخص كنيسة أوكرانيا المستقلة.
ووفقا لما تناقلته وسائل إعلام عالمية آنذاك. انعقد مجلس خاص للأساقفة في كاتدرائية سانت صوفيا الأثرية التي تمثل أحد أهم المعالم في العاصمة الأوكرانية. وحضر المجلس الخاص أساقفة أرثوذكس من مختلف الطوائف الموجودة في أوكرانيا وأجروا تصويتا انتخبوا به الأسقف إيبيفاني -39 سنة- رئيسا للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المستقلة.
يوم الانفصال عن روسيا
بعدها منحت بطريركية القسطنطينية المسكونية بإسطنبول الكنيسة الأوكرانية مرسوما يضمن لها استقلالها. وقال الرئيس الأوكراني أثناء خطاب ألقاه في الساحة الخارجية للكنيسة إنه “يوم لن ينساه التاريخ. يوم الانفصال النهائي عن روسيا”.
وقبيل اجتماع المجلس الخاص دعا البطريرك كيريل -رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية- الموالي لبوتين القيادات الدينية وزعماء العالم إلى حماية المؤمنين ورجال الدين في أوكرانيا من الاضطهاد.
يشدد “الأمين” على أن التدخلات الروسية لم تترك كنيسة أوكرانيا الجديدة تنعم بالانفصال. فسرعان ما انشق عنها مطران يدعى فيلاريت ليؤسس فرعا صغيرا من كنيسة أوكرانيا غير معترف به. بينما فى عام ٢٠١٩ تم الاعتراف بكنيسة كييف كبطريركية منفصلة ومستقلة من قبل البطريركية المسكونية وكنيسة اليونان وقبرص وبطريركية الإسكندرية للروم الأرثوذكس. وأصبح هناك في أوكرانيا حاليا بطريركيتان: بطريركية موسكو وبطريركية كييڤ.
كيف عكرت السياسة العالم الأرثوذكسي؟
نتيجة لتلك التشرذمات -بحسب الأمين- أن الوضع الأرثوذكسي في العالم حالياً يعاني ضعفا حادا بعد انقسامه لمعسكرين بين الكنائس الخلقيدونية (معترفة بمجمع خلقدونية الكنسي.٫ مضيفا: المعسكر الأول هو السلافي وتتزعمه كنيسة روسيا. أما الثاني فهو المعسكر اليوناني وتتزعمه كنيسة القسطنطينية.
وأكد أن هذا الانقسام أدى إلى كسر الشركة وشطب اسم رؤساء الكنائس الكنيسة الروسية بعد دعمهم لانفصال الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية عن الكنيسة الروسية في خضم الصراع الروسي الأوكراني. وقبلها كسرت بطريركية أنطاكية الشركة مع بطريركية أورشليم بسبب النزاع الحدودي حول سلطة البطريركيتين حين قامت الكنيسة الروسية بدعم الجزء الموالي لها ضد شرعية الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية.
الأزمة السياسية بين روسيا وأوكرانيا والتي انعكست على الكنائس تكررت في كنيسة إثيوبيا التي تعانى حاليًا وجود بطريركين شرعيين على نفس الكرسي معترف بهما رسميًا وشعبيا.
يقول ماركو الأمين: الكنيسة هناك تأثرت بانفصال بعض الأساقفة عنها مكونين ما يعرف باسم مجمع التيجراي الكنسي. وهو اسم الإقليم الذي يرغب في الانفصال عن إثيوبيا.
في المقابل -ووفقًا للأمين- فإن كنيسة إريتريا أنهت أزمتها أخيرا بوفاة الأب أنطونيوس -بطريرك إريتريا الأسير- ولكن لم يتم حلحلة وضعها قانونيا داخل العائلة الأرثوذكسية اللاخلقيدونية بالاعتراف بشرعية ورسامة كيرلس البطريرك الحالي الذي تمت رسامته أثناء حياة ورئاسة أبا أنطونيوس. وهو أمر مخالف للقانون الكنسي.