“قال اللي قال.. شوفوا.. ده الشاب داير بالربابة في البلد.. قال اللي قال.. شوفوا.. ده كل مدى يقول ويحكي وينفرد.. أنا قولت آه.. مهاسيبش حتة إلا اما أقول.. واكتب على نجم السما لو كنت اطول.. ده اللي يخبي القول ما يبقاش ولد“.
عهد قطعه على نفسه الفتى الأسمر، محمد حمام، وهو لا يزال في العشرين من عمره، عندما انفجر صوته الشجي. الضارب في جذور الثقافة النوبية، والمتشبع بتراثها الثري، يغني لرفاقه في معتقل الواحات عام 1959. منذ ذلك الحين لم يخلف وعده يومًا، فلم يحل في مكان إلا وغمره بصوته العنيد المتفرد، صوته الشجي الممزوج بالأمل. هذا الصوت الذي قال عنه محمود أمين العالم عندما رافقه في السجن: “يمنحني حزنًا ينتهي بالتفاؤل”.
سنوات السجن والفكر
5 سنوات قضاها محمد حمام خلف أسوار سجون عبد الناصر مع الآلاف من المثقفين والكتاب والفنانين والعمال الشيوعيين. هؤلاء الذين غيبتهم المعتقلات منذ يناير 1959 بعد صدام عبد الناصر مع الحركة الشيوعية، لمعارضتها الوحدة مع سوريا، ثم انحيازها لعبد الكريم قاسم، قائد الثورة العراقية. ضد رفيقه عبد السلام عارف القومي العربي الذي كان يحظى بدعم عبد الناصر. ذلك بعد ظهور خلافات جذرية بين قائدي الثورة العراقية، ألقى على إثرها قاسم برفيقه عبد السلام عارف في السجن.
أثقلت سنوات السجن الخمس، محمد حمام. عمقت رؤيته السياسية والفكرية. التقى الشاب بالعديد من المثقفين الشيوعيين، من بينهم المفكر محمود أمين العالم. وحسن فؤاد، والذي كان يحمل قيمة كبيرة في الحركة الثقافية في مصر. فحسن فؤاد هو الكاتب الصحفي والناقد والسيناريست والفنان التشكيلي، والمخرج المسرحي.
أعطته سنوات السجن الخمس أيضًا ميزة كبيرة، يقول محمد حمام في حوار بجريدة الشرق الأوسط. في أواخر التسعينيات، إن زملائه بالمعتقل منحوه الجرأة على الغناء ومواجهة الجمهور. رغم أنه قبل ذلك كان يغني لزملائه بكلية الفنون الجميلة قبيل اعتقاله.
من السجن إلى احتراف الغناء
بعد الإفراج عن الشيوعيين في عام 1964، عشية زيارة الزعيم السوفيتي نيكيتا خرشوف لمصر. عاد محمد حمام ليكمل دراسته في كلية الفنون الجميلة قسم عمارة.
فتح حسن فؤاد أمام محمد حمام بعد خروجه، بابًا أوسع على الجمهور عندما قدمه من خلال البرنامج الإذاعي “الفن والحياة” والذي كانت تقدمه سلوى حجازي، ويعده حسن فؤاد. كما فتح أمامه الباب للالتقاء بالعديد من الشعراء والملحنين فعرفه على الأبنودي الذي لحن له أغنية المقاومة الأبرز “يا بيوت السويس”. ثم التقاه بالملحن الكبير محمد الموجي والذي قدمه في حفل أضواء المدينة بسينما “قصر النيل” بعد أقل من عام من نكسة 5 يونيه ليغني لأول مرة أمام آلاف الجماهير.
غنى حمام في تلك الليلة الأغنية التراثية الفريدة “يا عم يا جمال يا ليلة”، والذي أبهر أدائه الشجي لها الجمهور.
“ياعم يا جمال يا ليلة.. يا سايقين البر يا جمال يا ليلة.. حبيبي أنا وياك.. ياعمدة الجزيرة يا عيني.. خد الجنية لاحمر وهاتلي عروسة يا ليلة”.
“يا بيوت السويس”.. رحلة الغناء للمقاومة والناس
أغنية محمد حمام الأشهر “يا بيوت السويس” والتي كتب كلماتها عبد الرحمن الأبنودي، ولحنها إبراهيم رجب. عقب هزيمة يونية 67، لم تكن مجرد أغنية ألهبت المقاومة في السويس، في فترة كان يلملم فيها الناس في مصر جراح هزيمة مرة. ولم تكن علاقة حمام بها علاقة مطرب غنى أغنية ثم مضى في طريقه
كانت “يا بيوت السويس” الخيط الذي ربط محمد حمام، بالطريق الذي يبدو أنه كان يبحث عنه منذ خروجه من المعتقل عام 1964. طريق المقاومة والناس – الناس الذين تحسس محمد حمام طريقه إليهم منذ سنواته الأولى في الجامعة، ثم في سجون عبد الناصر.
“يا بيوت السويس.. يا بيوت مدينتي.. أستشهد تحتك وتعيشي انتي.. هيلا هيلا يلا يا بلدية.. شمر دراعتك الدنيا أهيه.. وان باعوا العمر في سوق المنية.. رفاقة هنروح السوق نجيبه.. ونعود ونغني ع السمسمية.. ليكي يا مدينتي يا اللي صمدتي.. يا بيوت السويس”.
شد ابن النوبة وأسوان، رحاله إلى مدينة السويس. انضم إلى فرقة “أولاد الأرض” التي أسسها “كابتن غزالي”، والتي ضمت عبد الرحمن الأبنودي، والملحنين حسن نشأت وإبراهيم رجب وغيرهم. غنى حمام مع “أولاد الأرض” عشرات الأغنيات على ألحان السمسمية. لم يغن حمام سوى لهؤلاء الذين تجرعوا هزيمة يونيه ودفعوا ثمنها. وحاولوا بالعمل والمقاومة تجاوز تلك المرارة. غنى للعساكر على الجبهة، وطاف بأغنياته الأحياء والقرى والنجوع، يبث روح المقاومة ويبشر بالنهار.
“والله لا بكرة يطلع النهار ياخالة.. والله لا بكرة يطلع النهار ياخال.. وتبقى الدنيا عال.. والشمس تيجي من ورا الجبال“.
لم يكن النهار الذي يحلم به محمد حمام مجرد نصر عسكري، يمحو مر الهزيمة ويعيد الأرض. ليحصد قادته المجد والثروة، بل كان حلمًا للشقيانين.
بحلم ياخال.. بحلم بيوم معدول.. وشغلة شريفة ياخال.. وضحكة مرتاحة.. ولقمة نضيفة ياخال.. بحلم ياخال.. بحلم بيوم.. يفرش ضياه ع الفلاحين.. يملى صوامعهم غلال ويبيض العجين.. بحلم أنا.. سنة ورا سنة ورا سنة ياخال.. رغم الألم .. حلمي لاضاع مني ولا انتهي ياخال”.
محمد حمام ورحلة المنفى والحرية
على خلفية بيان أصدره توفيق الحكيم، ووقع عليه محمد حمام ضمن عدد كبير من المثقفين والفنانين، لتأييد حركة طلاب مصر المطالبة بإنهاء حالة اللا سلم واللا حرب. ضيقت السلطات المصرية على محمد حمام ومنعت أغنياته من الإذاعة.
قرر حمام عقب حرب 1973، الهروب بفنه من حالة الحصار التي فرضها نظام السادات عليه. فسافر إلى ليبيا واليمن والجزائر والعراق. غنى للحرية، للشقاينين هناك وتغنى بأحلامهم، كما تغنى بأحلام الفلاحين في مصر.
لكنه لم يستطع التجاوب مع النظام البعثي في العراق بعدما غنى للوحدة العربية. فلم يكن طريق محمد حمام الذي تحسسه وهو لا يزال فتى صغير، يتماشى مع منطق البعثيين. بعدها اتجه في رحلة إلى فرنسا، شارك كممثل ومطرب في فيلم فرنسي تونسي مشترك، بعنوان “سفراء”. بحسب ما ورد في كتاب “المنسي في الغناء العربي” للكاتب والباحث الأردني زياد عساف، والصادر عن هيئة الكتاب.
وفي فرنسا أيضًا غنى حمام وسجل أحد أروع أغنياته “بابلو نيرودا”، والتي غناها تمجيدًا لشاعر أمريكا اللاتنية ومناضلها العظيم (نيفتالي بابلو نيرود) هذا الذي ألهمت أشعاره ملايين الطامحين إلى الحرية في شيلي والقارة اللاتينية وفي العالم كله، وساهم بنضاله في تحررها.
كتب كلمات “بابلو نيرودا” الشاعر سمير عبد الباقي، ولحنها عدلي فخري. وحققت نجاحا كبيرًا وبيعت منها آلاف النسخ فى فرنسا وأمريكا اللاتينية.
“بابلو نيرودا.. صوتك على موج البحور لقلوبنا ساري.. زي ابتسامة الطفل للقلب اليساري.. طول عمري شايفه في الحواري وشايفه تاني بيلم عضم الفلاحين من رمل سينا.. الدم في طبق الرئيس الأمريكاني.. الدم فوق صدر الوزير المعجباني.. الدم في المزيكا وفي أوض الأغاني.. يكتب شعارتنا على حيطان المدينة”.
محمد حمام.. صوت بلا حدود
نتحسس في أداء محمد حمام لأغنية “بابلو نيرودا” مزيجًا بين الأغنية الشرقية والغربية. عبر صوت حمام بأغنية “بابلو نيرودا” حدود اللغة رغم غنائها بالعامية المصرية. لا شك أن اللحن المبهر لعدلي فخري، ساعد في ذلك، لكن صوت حمام المحمل بعمق متعدد الأبعاد الثقافية كان هو الأساس.
حمل صوت محمد حمام مزيجًا من التراث المصري من النوبة والصعيد إلى القنال. ومن بدو الصحراء العربية، إلى عمق أفريقيا. نستطيع أنا نلمح هذا المزيج الصوتي النادر في العديد من أغنيات حمام، مثل “يا شمس غيبي ويا مراكب حلي”.
عاد محمد حمام إلى مصر في الثمانينيات ليؤسس مكتبًا هندسيًا، بعد رحلة طويلة من الغناء والنضال. لكنه لم يهجر فنه ظل في تقديم أغنيات حملت نفس سمات مشروعه الغنائي الذي بدأه عقب خروجه من السجن منتصف الستينيات مشروع “المقاومة والناس”.
كما استمر في ممارسته للسياسة فشارك في تأسيس حزب التجمع. وفي مطلع عام 2000 أصيب محمد حمام بجلطة في المخ تسببت في شلل إحدى يديه وساقيه. عانى محمد حمام من المرض طوال سبع سنوات، ليرحل في الساعات الأولى من صباح السابع والعشرين من فبراير عام 2007. ليغادرنا صوت المقاومة والحرية.