طالعت قرار المستشار/ رئيس محكمة استئناف القاهرة، والمتضمن زيادة في أسعار العديد من الخدمات القضائية، سواء كانت وقت رفع دعوى قضائية أو متابعة السير في إجراءاتها، حتى عند الحصول على صورة من الحكم الصادر فيها، وتزامن مع ذلك صدور قرارات داخلية موزاية من السادة رؤساء المحاكم بتسعير أو زيادة مقابل بعض الخدمات، حتى رسوم الاطلاع على دعوى قضائية أو الكشف عنها. وهذه الرسوم جميعها في ظل زيادتها المتتابعة خلال السنوات الأخيرة باتت أمرا يرهق المتقاضين، حتى كاد أن يحولها إلى سلعة مدفوعة الأجر مقدما.
ولما كان التقاضي يعتبر هو حامي الحقوق والحريات وهو الذي يعيد الحقوق الى من انتهكت عليهم ويردع ويعاقب من انتهك تلك الحقوق ونصت على الحق في التقاضي المواثيق والقوانين الدولية ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي نص صراحة على حق الإنسان في التقاضي وكذلك نصت عليه جميع القوانين الوطنية، كما أنه ملاذ المظلومين و ملجأ المحرومين المنتهكة حقوقهم وفي الغالب تكون هذه الفئة ضعيفة ولا تستطيع مواجهة خصومهم الذين يكونوا نافذين وأقوياء لذلك نصت القوانين المنظمة لإجراءات التقاضي على ضمانات وحقوق تضمن للجميع اللجوء للقضاء وفقا لإجراءات شفافة وسهلة ومبسطة يستطيع الجميع سلوكها وتضمن عدم اختلال الإجراءات أو انحرافها.
وفي ذلك قالت المحكمة الدستورية العليا في الحكم رقم 15 لسنة 14 قضائية دستورية أنه “وحيث إنه إذ كان ذلك، وكان الالتزام الملقى على عاتق الدولة وفقا لنص المادة 68 من الدستور يقتضيها تمكين كل متقاض من النفاذ إلى القضاء نفاذا ميسرا لا تثقله أعباء مالية، ولا تحول دونه عوائق إجرائية، وكان هذا النفاذ -بما يعنيه من حق كل فرد في اللجوء إلى القضاء، وأن أبوابه المختلفة غير موصدة في وجه من يلوذ بها، وأن الطريق إليها معبد قانونا- لا يعدو أن يكون حلقة في حق التقاضي تكملها حلقتان أخريان لا يستقيم بدونهما هذا الحق، ولا يكتمل وجوده في غيبة إحداهما”. ثم أضافت المحكمة الدستورية في ذات الحكم أنه “وحيث إن الدستور بما نص عليه في المادة 68 منه من أن لكل مواطن حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي، قد دل على أن هذا الحق في أصل شرعته، هو حق للناس كافة لا يتمايزون فيما بينهم في مجال اللجوء إليه، وإنما تتكافأ مراكزهم القانونية في سعيهم لرد العدوان على حقوقهم دفاعا عن مصالحهم الذاتية. وقد حرص الدستور على ضمان إعمال هذا الحق في محتواه المقرر دستوريا بما لا يجوز معه قصر مباشرته على فئة دون أخرى، أو إجازته في حالة بذاتها دون سواها، أو إرهاقه بعوائق منافية لطبيعته، لضمان أن يكون النفاذ إليه حقا لكل من يلوذ به، غير مقيد في ذلك إلا بالقيود التي يقتضيها تنظيمه، والتي لا يجوز بحال أن تصل في مداها إلى حد مصادرته”.
ولما كان الدستور قد أقام من استقلال القضاء وحصانته ضمانين أساسيين لحماية الحقوق والحريات فقد أضحى لازما –وحق التقاضي هو المدخل الى هذه الحماية– أن يكون هذا الحق مكفولا بنص صريح في الدستور، كي لا تكون الحقوق والحريات التي نص عليها مجردة من وسيلة حمايتها بل معززة بها لضمان فعاليتها، وحيث إنه إذا كان ذلك وكان الالتزام الملقى على عاتق الدولة وفقا للنصوص والمبادئ الدستورية، فإن ذلك يقتضي تمكين كل متقاض من النفاذ إلى القضاء نفاذا ميسرا لا تثقله أعباء مالية ولا تحول دونه عوائق إجرائه، وكان هذا النفاذ، بما يعينه من حق كل فرد في اللجوء الى القضاء، وهذا ما تؤكده نصوص الدستور في حرصها على أن لكل مواطن حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي قد دل على أن هذا الحق في أصل شرعته هو حق للناس كافة لا يتمايزون فيما بينهم في مجال اللجوء إليه وإنما تتكافأ مراكزهم القانونية في سعيهم لرد العدوان على حقوقهم دفاعا عن مصالحهم الذاتية.
وتمثل الزيادة المتكررة في الرسوم القضائية سواء كانت رسوم رفع الدعاوى أو رسوم مباشرة بعض الإجراءات من الأمور التعجيزية التي تثقل من مباشرة حق التقاضي ذاته وتشكل حائلاً بين غالبية المواطنين المصريين والولوج لمرفق القضاء لاقتضاء حقوقهم عبر السبل الشرعية المرسومة بموجب الدستور، وفي ظل المتغيرات الشديدة والمتلاحقة التي تمر بها الدولة المصرية خاصة في السنوات الأخيرة والشعور بعدم الاستقرار وفقدان الإحساس بالأمان فان القضاء المصري المحمل بالمشاكل والهموم المتمثلة في البطء الشديد في التقاضي والفصل في الدعاوى، وازدحام المحاكم وزيادة عدد القضايا وقلة عدد القضاة، فتمثل قرارات زيادة الرسوم عبئا جديدا على عاتق المواطن يجعل من التفكير في حلقات التقاضي للبحث عن العدالة واقتضاء الحقوق بشكل مشروع وسيلة غير مأمونة سواء من حيث زيادة الرسوم بداية، أو من خلال الرسوم التي تفرض بعد الفصل في الدعاوى.
وفي الواقع لم يقف الأمر عند حد القرارات الإدارية المتمثلة فيما يصدره رؤساء المحاكم، بل إن الأمر يجد صداه أكثر في قانون الرسوم القضائية، حتى إن القضايا العمالية التي اعتادنا أن تكون بدون رسوم حفاظاً على حقوق العمال، فقد تلاحظ في مشروع قانون العمل الجديد، أنه قد أعاد النظر في ذلك الأمر، ووضعه موضع تقدير القضاة نفسهم حال حكمهم في تلك المنازعات العمالية، فإن شاء القاضي جعلها مجانية أو برسوم مخفضة أو فرض على الدعوى الرسوم.
فهل يعني ذلك أن الدولة المصرية تتخلى عن المبادئ الدستورية التي نستظل بها وهي الدعامة الحقيقية للحياة في دولة القانون، أم أن الدولة المصرية تدفع بمرفق القضاء إلى أن تصير الخدمات القضائية مدفوعة الأجر، وهو ما سوف يكون له الأثر البالغ الخطورة على طبيعة التقاضي وقدرة الوصول إلى تحقيق العدل وتسوية المنازعات بين الأفراد عن طريق القضاء، وهو الأمر الذي سوف يحث المواطنين للبحث عن بدائل تتناسب ومستوى دخولهم وإمكانياتهم المالية، وما يؤكد تلك المعاني ما صدر من قرارات من بينها أن يتم سداد مبلغ خمسة وعشرين جنيها لمجرد الكشف على قضية أو الحصول على شهادة بها.
يا سادة الأمر جد خطير، فلا يجب حتى ولو كانت الدولة في حالات اقتصادية فقيرة أن يكون مرفق القضاء والعدالة مدفوع الأجر، وخصوصا في حالات تدني مستوى الدخول عند معظم المصريين الذين يجب أن ترعاهم الدولة المصرية. كما أنه لا يجوز بحال من الأحوال تعجيز إنفاذ الحق في التقاضي أو تعسيره بالعراقيل أو المعوقات التي تحول دون وصول الكافة إليه، وإن مثل تلك القرارات تشكل تمييزاً من حيث القدرة المالية بين المواطنين ومدى قدرتهم على تلك الرسوم والمصروفات.