دون أن يقصد، وعلى عكس كل التوقعات بانهيار هذا النظام الذي تأسس على فكر الفيلسوف السياسي الإنجليزي جون لوك خلال عصر التنوير، يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعاد تنشيط الليبرالية الغربية، ووحد كلمت أوروبا في مواجهة غزوه جارته أوكرانيا. هكذا قرأت كوري سايك مدير السياسة الخارجية والدفاعية في معهد “أميركان إنتربرايز إنستيتيوت” الوضع الحالي في مقال نشرته مجلة “ذي أتلانتيك” الأمريكية، تزامنًا مع دخول الحرب الروسية الأوكرانية يومها السابع. وما شهدته السياسة الغربية من حشد لمواجهة روسيا بالعقوبات والاستعداد العسكري.
تخالف سايك برأيها هذا ما صرح به الكاتب بول كينجسنورث. قال إن النظام الليبرالي قد مات بالفعل. وقد اتفقت المؤرخة البارزة مارجريت ماكميلان معه. وكتبت أن “العالم لن يكون كما كان. لقد انتقلنا بالفعل إلى حقبة جديدة وغير مستقرة”.
لكن سايك لا تزال ترى في الأحداث الراهنة إعادة تنشيط للغرب الذي بدا منقسمًا، في مواجهة بوتين الذي حاول استغلال هذا الضعف الأوروبي مؤخرًا.
بوتين ضغط الزر الخطأ.. حرب أوكرانيا تعيد تنشيط الغرب
تقول سايك إن ألمانيا -على سبيل المثال- لطالما اتبعت سياسات تتسم بالهدوء تجاه روسيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. بيد أن مستشارها أولاف شولتز أقدم مؤخرًا على خطوة مؤثرة وغير عادية بتخصيص 100 مليار يورو لتعزيز المنظومة الدفاعية للقوات المسلحة. وفي هذا منعطف لافت في السياسة العسكرية التي ظلت برلين تتبعها منذ خسارتها في أربيعينيات القرن الماضي.
كما أعلن برلين صراحةً شحن الأسلحة إلى أوكرانيا، وأيضًا وقف إجراءات اعتماد أنبوب الغاز (نورد ستريم 2). وقد تم إنشاؤه لجلب الغاز إلى ألمانيا من روسيا.
كذلك المجر، التي يُعتقد أنها الحلقة الأضعف في السلسلة الغربية، أعلنت دعمها تحركات الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي لمعاقبة موسكو. ولم يختلف الأمر كثيرًا -وفق سايك- مع تركيا. وهي أكثر دول الناتو صداقة مع روسيا. هي الأخرى أغلقت مضيق البوسفور أمام السفن الحربية الروسية.
حرب أوكرانيا.. لن تحسم للروس بهذه السهولة
أيضًا ولأول مرة في تاريخ الحلف، أعلن الأمين العام لـ”الناتو” ينس ستولتنبرج، أنّ التحالف بدأ بنشر عناصر من “قوة الرد” التابعة له. ذلك بهدف تعزيز قدراته الدفاعية والاستعداد للردّ سريعًا على أيّ تطوّر يتعلق بالحرب على أوكرانيا. فيما أغلقت العديد من الدول مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية. وقد تم ذلك كله بتنظيم وتخطيط مدروس من الولايات المتحدة التي نسقت العمل بين الحلفاء والمؤسسات.
وفق سايك، فإن أوكرانيا بعيدة جدًا عن نهاية قريبة تكون لصالح الروس. وهي ترى أنه حتى إذا لم تتمكن القوات العسكرية الأوكرانية من الانتصار أو قُتل الرئيس فلوديمير زيلينسكي وسقطت حكومته. فمن الصعب أن تنجح “مقامرة بوتين” الأوسع نطاقًا. ذلك لأنه إذا سقط زيلينسكي، سيتقدم زعيم آخر، على حد قولها. كما سيواجه الروس مقاومة كبيرة وطويلة الأمد، ستتطلب وحشية لا توصف من أجل قهرها. وإن نجحت روسيا في قهرها، فإن الجحافل الأجنبية ستتدفق في اتجاه أوكرانيا لمساعدة المقاومة في حرب استنزاف للغزو. وذلك كله قد يصل في الأخير إلى الترحيب بكييف عضوًا في الناتو والاتحاد الأوروبي، على حد قولها.
هكذا توحد الجميع ضد روسيا
تبرز سايك أيضًا كيف أن الغزو الروسي ألهب حماس الأوكرانيين وفعّل مقاومتهم لاحتلال بلادهم. وقد بدأ ذلك برفض الرئيس زيلينسكي الفرار وإعلانه البقاء بأسرته في خطوط الدفاع عن بلاده. وهو أمر رفع الروح المعنوية للقوات الأوكرانية -كما تقول سايك. بينما برزت كذلك مشاهد المدنيين العزل الذين واجهوا الآليات الروسية بأجسادهم، أو تجمعوا في الأحياء لصنع زجاجات حارقة، أو غيروا لافتات الشوارع لإرباك القوات الروسية المتوغلة في أراضيهم. في وقت تحولت مصانع الخمور لورش إنتاج أسلحة.
وفي خضم ذلك، أعلنت مجموعة المتسللين Anonymous الحرب على روسيا، فعطلت التلفزيون الحكومي ونشرت قوائم موظفي وزارة الدفاع. كما أعلنت أوكرانيا تسلمها وحدات لاستقبال إرسال الإنترنت الفضائي من “ستارلنك”. وقد تبرعت بها شركة “سبيس إكس” المملوكة للملياردير إيلون ماسك. وكذلك توقف صانعو الرقائق Intel وAMD عن إرسال الإمدادات إلى روسيا.
وقد قطع صندوق الثروة السيادية النرويجي جميع استثماراته في روسيا. وقامت YouTube وMeta بإضفاء الطابع الشيطاني على وسائل الإعلام الحكومية الروسية. وقطع قراصنة من بيلاروسيا شبكة السكك الحديدية في بلادهم لمنع حكومتهم من إرسال قوات لدعم الحرب الروسية. بينما جمع المواطنون البولنديون 100 طن من الطعام لأوكرانيا في يومين. باختصار توحدت أوروبا بكل أشكال التعبير ضد روسيا.
النظام الليبرالي الدولي ليس مجرد مشروع تحالف
تقول سايك إن النظام الدولي الليبرالي ليس مجرد مشروع للتحالف عبر الأطلسي.
ربما لم تكن الأمم المتحدة قادرة على منع العدوان الروسي. لكنها خدمت غرضها المتمثل في فرض المساءلة على الحكومات عن مواقفها. ذكّرنا سفير كينيا لدى الأمم المتحدة جميعًا بأن القوى الأصغر ، والبلدان التي عانت من الغزو الإمبراطوري ، هي من أكبر المستفيدين من نظام يؤكد ” المساواة في السيادة بين الدول ، وحقوق الدول غير القابلة للانتهاك في السلامة الإقليمية والاستقلال السياسي”. انضمت اليابان إلى العديد من العقوبات الغربية ضد روسيا، بينما أدانت دول جنوب شرق آسيا مثل سنغافورة وإندونيسيا الغزو.
لقد توترت الصين في الحصول على دعمها الطويل لصراع سيادة دولة منفردة مع معاهدة الصداقة التي أبرمتها للتو مع روسيا ، وتوازن موقفها السياسي المتمثل في عدم فرض العقوبات من خلال الاضطرار إلى الحد من تمويل البنوك الصينية للسلع الروسية بسبب خطر حدوث ذلك. الاستبعاد من النظام المالي العالمي. قد تبدو حجة روسيا القائلة بأن أوكرانيا ليست دولة حقًا متوافقة مع موقف الصين تجاه تايوان ، لكن رد الفعل العالمي على العدوان الروسي يجب بالتأكيد أن يعطي بكين وقفة قبل أن تفكر في محاولة إخضاع تايوان.
أولئك الذين يعيشون بالفعل في مجتمعات حرة مدينون للأوكرانيين بدين عظيم من الامتنان. ذكّرتنا شجاعتهم بنبل التضحية من أجل القضايا العادلة. وكما قال رونالد ريجان بشكل لا يُنسى ، “هناك فرق عميق بين استخدام القوة من أجل التحرير واستخدام القوة للغزو.” ما فعله الأوكرانيون هو إلهام الأمريكيين والآخرين لإخراج أنفسنا من سباتنا ووضع سياسات مساعدة لهم ، على أمل أن نثبت في يوم من الأيام أنهم يستحقون أن نصبح حليفهم.
مدير السياسة الخارجية والدفاعية في معهد “أميركان إنتربرايز إنستيتيوت”. وقد شغلت العديد من المناصب العليا في وزارة الدفاع الأمريكية ووزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي. وهي كاتبة مساهمة في مجلة “ذي أتلانتيك” الأمريكية الشهرية.