في 13 يناير/كانون الثاني 2011. بعد أن اقتربت حشود المتظاهرين التونسيين من قصر قرطاج الرئاسي. خرج الرئيس الهارب -فيما بعد- زين العابدين بن علي، في خطابه الأخير إلى جموع الشعب. كان بن علي قد استشعر الخطر المطبق على أبواب قصره، فتحدث إلى التونسيين بلهجة شبه متوسلة.
قال الرئيس الراحل: “أنا فهمتكم. فهمت الجميع. البطال، والمحتاج، والسياسي، واللي طالب مزيد من الحريات. فهمتكم، فهمتكم الكل. سيكون التغيير اللي أعلن عليه استجابة لمطالبكم”.
بعد 11 عامًا وشهرين. خرجت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بربوك. في الجلسة الخاصة الطارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن أوكرانيا. لتكرر حديث بن علي بالنسبة لمن هاجموا بلادها لوقوفها بعيدًا عن الأزمات الأوروبية طيلة عقود. قالت: لمن قالوا أنت الآن تريدين منا التضامن من أجل أوروبا. لكن هل كنت هناك من أجلنا في الماضي؟ أريد أن أخبركم بوضوح وصدق: يمكنني أن أفهمكم. يمكننا أن نفهمكم.
وأضافت: أعتقد حقًا أننا يجب أن نكون دائمًا على استعداد للتشكيك في أفعالنا ومشاركتنا السابقة في العالم. أنا مستعدة. كانت تتكلم بلسان بلادها التي عاشت منزوية عسكريًا منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية.
أقوى استراتيجيات الإقناع
يُشير أساتذة الخطاب الإعلامي إلى أن الاستمالات المتعلقة بالحالات الإنسانية هي واحدة من أقوى استراتيجيات الإقناع. عبر استخدام هذه الطريقة. وقفت بربوك أمام ممثلي العالم تستجلب عاطفتهم بقولها: قبل أيام قليلة، ولدت طفلة صغيرة في محطة مترو أنفاق في كييف. سمعت أن اسمها هو ميا. اضطرت عائلتها إلى البحث عن مأوى.
تابعت: مثل ملايين الأشخاص الآخرين في جميع أنحاء أوكرانيا. تبحث الرضيعة وأسرتها عن الحماية من القنابل والصواريخ والدبابات والقنابل اليدوية. يعيشون في خوف ويعيشون في ألم. إنهم مجبرون على الانفصال عن أحبائهم. لأن روسيا بدأت حربًا عدوانية ضد أوكرانيا. أعتقد أن تصويت اليوم يتعلق بميا. بمستقبل أطفالنا. إنه يتعلق بمستقبل يمكننا أن نحدده بأنفسنا.
مساء الأحد (27 فبراير/ شباط. وقبل أن تتحدث وزيرة خارجيته إلى دول العالم. صرح المستشار الألماني أولاف شولتس بأنه يرى أن الهجوم الروسي على أوكرانياً “يعد أساسا لنقطة فاصلة في السياسة الخارجية الألمانية”. وقال خلال الجلسة الخاصة للبرلمان الألماني -البوندستاج- إن التطلع سيبقى متمثلاً في تحقيق “أكبر قدر ممكن من الدبلوماسية دون سذاجة”.
هذه الدبلوماسية نفسها التي حاولت بربوك أن تمارسها في الأمم المتحدة. ذكّرت الحاضرين بهدف المكان الذين يجتمعون فيه. قالت: أتحدث بصفتي ألمانية كان لها امتياز لا يُصدق في أن نشأت في أوروبا في سلام وأمن. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد حرب قاسية شنتها ألمانيا النازية. تأسست الأمم المتحدة قبل 76 عامًا للحفاظ على السلام والأمن. وفق الميثاق تأسست “لحماية الأجيال القادمة من ويلات الحرب”. وهذا يعني جيلي، وأيضًا جيل ميا.
سياسة الابتعاد عن الصراعات
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. التزمت ألمانيا بسياسة الابتعاد عن الصراعات، وعدم تقديم الأسلحة لأطراف منخرطة فيها. لذلك كانت تكتفي بالمشاركة فقط في مهام حفظ السلام. باستثناء بعض الحالات التي أثارت الجدل، كما حدث في البلقان، وفي أفغانستان، ومؤخراً مع قوات البشمركة الكردية.
كذلك، يُنظر في السياسة الألمانية إلى تصدير الأسلحة على أنه يؤجج الصراع بدلاً من الحد منه. وهذه السياسة طويلة الأمد تنص على أن ألمانيا لا تصدر أسلحة إلى مناطق الصراع. وفق ما ذكر توماس كلاين-بروكهوف من صندوق مارشال الألماني في حديث لـ BBC. الذي لفت إلى الحالة الخاصة التي تشكلها روسيا وأوكرانيا لدى بلاده. نتيجة القتل النازي لملايين البشر في أوكرانيا وروسيا.
لكن، إقدام روسيا على إرسال قواتها إلى داخل أوكرانيا. دفع الساسة الألمان إلى إعادة النظر في هذه السياسة، التي استمرت على مدى أكثر من سبعين عاما. واختيار دعم أوكرانيا عسكريا في مواجهة الغزو الروسي.
في الوقت نفسه، أعاد الغزو مخاوف ألمانيا من ضربات قد تكون محتملة من الدب الروسي. ليعد شولتز، في خطابه. أن تخصص ألمانيا هذا العام 100 مليار يورو في الميزانية من أجل الاستثمارات العسكرية. وتعهد بأن يصل حجم الإنفاق العسكري إلى ما نسبته 2% من الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا.
قال المستشار الألماني: علينا أن نستثمر أكثر في توفير الأمن لبلادنا ولحماية حريتنا وديمقراطيتنا. وأضاف: ألمانيا تحتاج إلى قدرات عسكرية جديدة. فبوتين يريد إمبراطورية روسية. وهو يريد أن يفرض سيطرته على أوروبا بحسب رؤيته للعالم. وعلينا أن نحمي حريتنا وديمقراطيتنا. وهذا سيحتاج إلى عمل قوي على الصعيد الوطني.
مفترق طرق
رغم الحياد لما يزيد على نصف قرن. حثّت وزيرة الخارجية الألمانية في خطابها الأخير على تفعيل مبادئ الأمم المتحدة بشأن السلام القائم على القواعد المشتركة. والقانون الدولي، والتعاون، وحل النزاعات بالوسائل السلمية. قالت: لقد هاجمت روسيا هذا الأمر بوحشية. وهذا هو السبب في أن هذه الحرب لا تتعلق فقط بأوكرانيا، ولا تتعلق بأوروبا فحسب، بل تتعلق بنا جميعًا.
وأوضحت الوزيرة الألمانية أن حرب روسيا تعني حقبة جديدة “نحن في مفترق طرق. حقائق الأمس لم تعد سارية. نواجه اليوم واقعًا جديدًا لم يختره أحد منا. إنها حقيقة فرضها علينا الرئيس بوتين”. وخاطبت نظيرها الروسي سيرجي لافروف بالقول: العالم كله رأى كيف حشدت قواتك لأشهر استعدادًا لهذا الهجوم. يراك العالم كله تقصف منازل الأوكرانيين الناطقين بالروسية في خاركيف.
وتابعت: يقولون إن روسيا ترسل قوات حفظ سلام. لكن خزاناتك لا تجلب الماء، لا تجلب طعام الأطفال، لا تجلب السلام. دباباتهم تجلب الموت والدمار. الحقيقة أنك تسيء استخدام سلطتك كعضو دائم في مجلس الأمن. سيد لافروف، يمكنك أن تخدع نفسك. لكن لا تخدعنا. شعوبنا لن تخدعكم ولن تخدعوا شعبكم.
دعم أوكرانيا من أجل ألمانيا
رغم أن ألمانيا تعتبر من أكبر الدول المنتجة للسلاح. وهي ثالث أكبر مصدر للأسلحة في العالم بعد الولايات المتحدة وروسيا. لكنها بقيت عقود دون تسليح ذاتي قوي. اعتمدت في الكثير من جوانب الحماية على وجودها في الاتحاد الأوروبي، وكونها لاعبًا أساسيًا في حلف الناتو. لكن، ربما كان رد الفعل الذي قابله الرئيس الأوكراني من الاتحاد والحلف. في تركه وحيدًا أمام المجنزرات القادمة من ذكريات الهيمنة السوفيتية. هي ما دفعت شولتز للقول: “نحن نحتاج إلى الطائرات التي تحلق. والسفن التي تحمي. والجنود المجهزين على أحسن وجه”.
فهم شولتز وإدارته سريعًا ما عجز عن استيعابه بن علي خلال أولى تحركات الربيع العربي. رغم الفارق، جاءت المسؤولية التاريخية في لحظة عصيبة لتجمع بينهما. بينما اختار بن علي حتى قبيل اللحظات الأخيرة لنظامه أن ينخدع، اختارت ألمانيا شولتز تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا. حتى تتمكن من الدفاع عن نفسها ضد أي اعتداء محتمل في المستقبل.
هذا الأمر أوضحته بربوك وفقًا للمادة 51 من ميثاق ألمانيا الاتحادية. قالت: تدرك ألمانيا تمام الإدراك مسؤوليتها التاريخية. هذا هو السبب في أننا ملتزمون بالدبلوماسية اليوم وفي كل الأوقات القادمة وسنسعى دائمًا إلى حلول سلمية. لكن عندما يتعرض نظامنا السلمي للهجوم، يجب أن نواجه هذا الواقع الجديد. يجب علينا التصرف بمسؤولية. ولهذا السبب يجب أن نقف متحدين من أجل السلام اليوم.
حتى الجزء الأخير من خطابها. تمسكت ممثلة ألمانيا في المحفل الدولي الأكبر بفكرة “الإنسانية”. قامت بتوسيع الفكرة لتشمل الآخرين. قالت: يجب أن نكون دائمًا على استعداد للتشكيك في أفعالنا ومشاركتنا السابقة في العالم، أنا مستعدة. لكن الأمر الآن يتعلق بالحاضر. يتعلق بالعائلات التي تحتمي في محطات المترو لأن منازلهم تتعرض للقصف. إنها مسألة حياة أو موت للشعب الأوكراني.
وأنهت حديثها: عندما نعود إلى المنزل بعد التصويت. سنعود جميعًا إلى الطاولة مع أطفالنا وشركائنا وأصدقائنا وعائلاتنا. وبعد ذلك، يجب على كل واحد منا أن ينظر في عينيه ويخبره كيف اتخذنا قرارنا.